Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

مئة تريليون وصلة






مئة تريليون وصلة(*)
إن صخب بلايين خلايا الدماغ وهي تحاول الاتصال
فيما بينها، قد يحمل مفتاحا حاسما لحل لغز الوعي وفهمه.
<C. زيمر>

باختصار
   لا يستطيع النورون بمفرده أن يفعل الشيء الكثير، لكن بضع مئات من النورونات المتشابكة فيما بينها وجهاز عصبي بدائي، قادران على توليد نظام معقد يمكِّن الدودة من الحركة.

   ازدياد عدد النورونات يعني زيادة تعقيد المتعضي (الكائن الحي) organism. والاهتمام المحوري للعلوم العصبية هو اكتشاف الطريقة التي تعمل بها بلايين النورونات لتوليد العقل البشري.

   بدأ علماء الجهاز العصبي بكشف تعقيد الدماغ من خلال تبنّي منهاج البحث في النظم المعقدة الأخرى، بدءا من الشيپات الحاسوبية computer chips وحتى سوق الأسهم.

   قد يقدمُ فهمُ عمل شبكات الدماغ المعقّدة مفاتيحَ تعرف الأسباب الكامنة وراء الحالات المرضية المدمّرة، بما في ذلك الفصام والخرف.

يستقر نورون(1) neuron مفرد في طبق پتري petri dish، مُفرقعا بما يعبر عن اطمئنانه بوحدته، إذ يطلق تلقائيا من وقت لآخر موجة كهربية تنتشر على طوله. وإذا قمت بتعريض إحدى نهايتي النورون لنبضات كهربية، فقد يستجيب بموجات إضافية ڤلطية مدببة. وإذا غمرته في نواقل عصبية مختلفة، فيمكنك تعديل قوّة موجاته الكهربية وتوقيتها. إنّ النورون وحده في طبقه لا يستطيع فعل الكثير، لكن وصل 302 من النورونات معا يولّد جملة عصبية من شأنها أن تحافظ على الدودة المدوَّرة (كينورهابديتيس إيليگانس Caenorhabditis elegans) حية؛ أي تجعلها قادرة على الشعور ببيئتها المحيطة واتخاذ القرارات وإصدار الأوامر إلى جسمها. أما وصل 100 بليون نورون معا عبر 100 تريليون وصلة، فهذا ما يشكل دماغ الإنسان القادر على عمل ما هو أكثر بكثير.
لا يزال الغموض يكتنف كيفية تشكل عقولنا من حشد كبير من النورونات التي نمتلكها. إنه نوعٌ من الأسئلة التي لا تزال العلوم العصبية، مع انتصاراتها، عاجزة عن الإجابة عنه. يكرّس بعض علماء الجهاز العصبي مسيرة حياتهم المهنية في دراسة طرائق عمل النورونات الفردية، في حين يختار آخرون مجالا أكثر تعقيدا؛ فقد يبحثون، على سبيل المثال، في كيفية تكويد الحُصين hippocampus لمختلف أنواع ذكرياتنا، وهو – أي الحصين - بنية عنقودية مكونة من ملايين النورونات. وقد ينظر آخرون إلى الدماغ من منظور أكثر شمولا، فيلاحظون جميع المناطق التي تنشط عندما نؤدّي مهمّة معيّنة، كالقراءة أو الإحساس بالخوف. أما الذين حاولوا تأمل الدماغ بمستوياته المتعددة معا فعددهم قليل. وما نشهده من تكتم لدى هؤلاء تعود أسبابه جزئيا إلى حجم التحدي الكبير الذي يواجهونه، فتآثرات عدد قليل من النورونات يكفي وحده لإحداث تشويش في الحشد الكبير من الاستجابات الارتدادية feedbacks. وإذا أضفنا 100 بليون نورون آخر إلى هذه المسألة، فلا بد لجهودنا عندئذ من أن تواجه صداعا كونيا.

ومع ذلك، فإن بعض علماء الجهاز العصبي يعتقدون أنه قد حان الوقت للتصدي لهذا التحدي، ويدعمون ذلك بحجة منطقية تفيد بأنه من المستحيل أن نفهم بصورة فعلية الكيفية التي يولّد بها الجهاز العصبي العقل إذا بقينا نتأمل الدماغ مقسما إلى قطع منفصلة لا رابط بينها. إن النظر إلى أجزاء الدماغ المختلفة خارج سياق كليته هو أشبه بمحاولة فهم كيفية تجمد الماء من خلال دراسة جزيء واحد منه، «فالثلج» تعبيرٌ لا معنى له في عالم الجزيئات المفردة، بل يتشكل فقط من تآثر عدد كبير من الجزيئات عندما تتجمع وتتحول إلى بلورات.
ولحسن الحظ، يمكن أن يستلهم علماء الجهاز العصبي من الباحثين الآخرين الذين يدرسون منذ عدة عقود مختلف أشكال الظواهر المعقدة؛ من أسواق الأسهم إلى دارات الحاسوب إلى تآثر الجينات والبروتينات في خلية واحدة. قد يبدو أنه ليس هناك كثير من الأمور المشتركة بين الخلية وأسواق الأسهم، ولكن الباحثين وجدوا بعض أوجه التشابه بين جميع النظم المعقّدة التي قاموا بدراستها. كما طوّروا أيضا أدوات رياضياتية يمكن استخدامها لتحليل تلك النظم. وقد التقط علماء الجهاز العصبي تلك الأدوات وبدؤوا باستعمالها لفهم تعقيدات الدماغ. ومع أن الوقت لا يزال مبكرا، إلا أنّ النتائج التي سُجلت حتى الآن هي نتائج واعدة، فها هم العلماء يكتشفون قواعد انتظام بلايين النورونات في وحدات تعملُ سوية كشبكة واحدة متماسكة ندعوها الدماغ. وقد وجدوا أنّ نَظْم هذه الشبكة هو أساس قدرتنا على فهم عالمنا المتغيّر باستمرار. ولعل بعض الاضطرابات العقلية الأكثر تدميرا، كالفصام والخرف، تنجم جزئيا عن انهيار في شبكات الدماغ.
تآثر بضعة نورونات فقط يكون حشدا كبيرا من الاستجابات الارتدادية. أما جوهر النظام المعقّد فيتجلى عبر خليط من بلايين الخلايا الدماغية.

تتشكل الشبكات العصبية من النورونات ووصلاتها بالنورونات الأخرى عبر استطالة محاويرها axons. وتسمح هذه الوصلات للإشارات التي تعبر إحدى الخلايا العصبية (النورونات) بتحريض موجة كهربية في النورونات الأخرى. ولأن كلّ نورون يمكن أن يتصل بآلاف الخلايا الأخرى – القريبة منه أو الواقعة على الجانب الآخر من الدماغ – فإن الشبكات يمكن أن تتخذ عددا خياليا من التدابير. والطريقة التي تستخدمها شبكة معينة في دماغك بتنظيم نفسها تؤثر كثيرا في طريقة عملها.
بناء مُصغّر للدماغ(**)
ولكن كيف يمكننا دراسة شبكة الدماغ النورونية؟ ما التجربة التي يمكن للعلماء القيام بها لتتبّع بلايين الوصلات الشبكية؟ إحدى الإجابات عن هذين السؤالين هي أن نقوم بتشكيل نموذج مصغّر للدماغ يمكن أن يُظهر ما يحدث عندما تتآثر النورونات بطرق مختلفة. قام <O. سپورنز> وزملاؤه [من جامعة إنديانا] ببناء مثل هذا النموذج، فقد ابتكروا 1600 نورون مصطنع تم ترتيبها حول سطح كروي؛ ثمّ وصلوا كلّ نورون بالنورونات الأخرى. وكان كلّ نورون في أيّة لحظة لا يمتلك سوى فرصة صغيرة جدا لإطلاق موجاته الكهربية بصورة تلقائية، وعندما يطلقها فإن فرصتها في استثارة النورونات الأخرى المرتبطة به هي فرصة ضعيفة، وفرصة هذه النورونات في إطلاق موجاتها الكهربية هي بدورها فرصة ضئيلة.
قام <سپورنز> وزملاؤه بإجراء تعديل على الوصلات النورونية ثم راقبوا مصغرهم الدماغي(2) أثناء عمله. فبعد أن جرى في المرحلة الأولى وصل كلّ نورون بالنورونات المجاورة فقط، قام مصغر الدماغ عبر هذه الشبكة بإطلاق ومضات صغيرة عشوائية. وعندما كان النورون الواحد يطلق موجة كهربية بصورة تلقائية، كانت هذه الموجة لا تستطيع الانتقال بعيدا. أما في المرحلة الثانية فقد قام <سپورنز> وفريقه بربط كلّ نورون بجميع النورونات الأخرى في كامل الدماغ، وقد أدى ذلك إلى توليد نمط نشاط مختلف جدا، حيث أخذ الدماغ عندئذ يعمل ويتوقف عن العمل بكامله بنبضات منتظمة.
في المرحلة الثالثة والأخيرة، أضاف العلماء شبكة متوسّطة إلى مصغر الدماغ، وكوَّنوا بذلك وصلات محليّة وأخرى بعيدة المدى بين النورونات، فصار الدماغ الآن معقدا. وعندما بدأت النورونات بإطلاق موجاتها الكهربية ظهر عدد كبير من بقع النشاط المتوهّجة التي أخذت تطوف في الدماغ كالدوامة، حيث كان بعضها يصطدم بالآخر، وبعضها الآخر يسير مسرعا بحركة دورانية.
يقدّمُ مصغر الدماغ لـِ<سپورنز> درسا مهما عن نشوء النظم المعقدة؛ فهندسة بناء الشبكة ذاتها تحدد نمط نشاطها. ويقوم <سپورنز> وباحثون آخرون باستخلاص الدروس وجمعها من نماذج مصغر الدماغ ويبحثون عن أنماط مماثلة في الأدمغة الحقيقية في رؤوسنا. ولكن العلماء، ولسوء الحظ، لا يستطيعون مراقبة كلّ نورون على حدة في الدماغ الحقيقي. ولذلك، فَهُم يستخدمون تقنيات ذكية لتسجيل النشاط الناشئ عن عدد قليل نسبيا من النورونات، ثم يستخلصون بعض العبر المهمة من نتائج تجاربهم.

تبسيط التعقيد
تشريح مصغر الدماغ(***)
   تشير محاكاة الدماغ التي أبدعها <O. سپورنز> وزملاؤه [من جامعة إنديانا] إلى وجود ثلاثة أنماط مختلفة من الوصلات بين النورونات الافتراضية الموزعة على سطح كرة وعددها 1600. وهذه المحاكاة - التي ينشط فيها بعض النورونات تلقائيا (المناطق الصفراء) ويبقى ما سواها هاجعا – تساعد الباحثين على تعرف آلية التآثرات المعقّدة بين الأنواع المختلفة من الشبكات، وهي التآثرات التي يشكل بعض منها نسخة طبق الأصل عن النشاط الذي يحدث في أرجاء الدارات الدماغية الحقيقية كافة.
   (1) يبين نموذج ارتباط النورونات بمجاوراتها المباشرة فقط ومضات نشاط عشوائية متفرقة بمرور الوقت.
   (2) عندما يكون النورون الواحد مرتبطا بجميع النورونات الأخرى، فإن الدماغ يُولّد أنماط نشاط واسعة النطاق تبقى فيه مجموعة الخلايا ناشطة بالكامل أو خامدة كليّا تقريبا.
   (3) يولد مزيجُ الارتباطات القصيرة المدى والبعيدة المدى نمط نشاط معتدل يصعب التنبؤ به، ويشبه نمط نشاط الأدمغة الحقيقية.

أدمغة في طبق(****)
يقوم <D. بلينز> [وهو عالم من علماء الجهاز العصبي(3) العاملين في المعهد الوطني للصحة العقلية] ومساعدوه بتقصّي هندسة بناء الدماغ من خلال زرع قِطع من النسيج الدماغي بحجم بذور السمسم في أطباق پتري. يقوم هؤلاء بتثبيت 64 مسرى كهربيا داخل النسيج لتسجيل إطلاق الخلايا العصبية لإشعاراتها التلقائية، فهذه المساري تكتشف ما يسمى تقطع إطلاق الموجات الكهربية السريع rapid-fire staccato of activity والمعروف أيضا باسم الانهيارات النورونية neuronal avalanches.
في بداية الأمر، تبدو المسألة وكأن النورونات تطلق فرقعة لا تمثل سوى صخب عشوائي. فإذا كان هذا صحيحا فلن يكون هناك فرق بين أن يكون الانهيار النوروني محدودا جدا، أو أن يكون واسع الانتشار. بيد أنّ ما وجده <بلينز> وزملاؤه لم يكن متوافقا مع ذلك؛ فقد كانت الانهيارات الصغيرة هي الأكثر شيوعا والكبيرة هي النادرة والانهيارات الأكبر أكثر ندرة. وقد أظهر المخطط البياني احتمالات كل مقدار من مقادير الانهيارات على شكل منحنى انسيابي هابط.
لقد رأى العلماء هذا الشكل من المنحنيات قبل ذلك، فدقات القلب، على سبيل المثال، ليست جميعها متشابهة؛ فمعظم هذه الدقات تقصر مدتها أو تطول قليلا مقارنة بالمعدل الوسطي، وعدد قليل منها فقط تقصر مدته أو تطول كثيرا عن هذا المعدل الوسطي. أما دقات القلب الأبعد كثيرا عن المتوسط فعددها أصغر بكثير. كما أنّ الزلازل تتبع النمط ذاته، فالانزياح في طبقات الأرض يسبب عددا كبيرا من الزلازل الصغيرة وعددا محدودا من الزلازل الكبيرة. وكذلك الحال أثناء الأوبئة، ففي كل يوم يظهر عدد من الحالات الجديدة عادة، ومن وقت إلى آخر تظهر موجات منها. وإذا قمنا برسم مخطط بياني لدقات القلب أو الزلازل أو لأعداد الحالات الجديدة في الأوبئة، فإننا سنشاهد منحنى أُسّيا هابطا.
هذا المنحنى، والمعروف بقانون القدرة، هو علامةٌ فارقة للشبكة المعقدة التي تشمل الوصلات القصيرة المسافة والبعيدة المسافة على حد سواء. قد ينتشر الاهتزاز الصادر عن بقعة معينة من الأرض، في بعض الحالات، إلى منطقة مجاورة محدودة فقط، ولكنه قد ينتشر إلى مناطق أوسع بكثير في حالات أخرى نادرة. والنورونات تعمل بالطريقة ذاتها، فتستثير أحيانا ما يجاورها من نورونات فقط، لكنها في أحيان أخرى يمكن أن تطلق موجة نشاط واسعة الانتشار.

تقطيع الدماغ
عوالم صغيرة من شبكات كبيرة(*****)
تنتشر موجات النشاط الكهربي في الدماغ، حتى ولو كان في حالة الراحة. يحاول عدد من الدراسات اليوم رسم خارطة لهذه الأنماط العصبية نظرا لأنها قد تؤدي دورا حاسما في حياتنا العقلية. وقد قام <P. هاگمان> [من جامعة لوزان في سويسرا] و <O. سپورنز> [من جامعة إنديانا] برسم مخطط للدماغ بتقنية «تصوير طيف الانتشار»(4)، ووجدوا أنّ الشبكة ذات الوصلات الكثيفة (في اليسار) تمتلك عُقَدا جيدة الترابط (النقاط الحمرء) تمر عبرها روابط عديدة (في الأسفل). وقد تساعد شبكات «العالم الصغير» من العقد أدمغتنا على معالجة المعلومات بسرعة أكبر وتسمح لها بأن تصون تماسكها البنيوي بكفاءة.


يمكن للعلماء أن يستخلصوا من شكل منحنى قانون القدرة دلائل مهمة بشأن الشبكة التي تولّده. وقد اختبر <بلينز> ومساعدوه عددا من الشبكات النورونية المحتملة لتحديد تلك التي تولّد انهيارات نورونية بالطريقة ذاتها التي تعمل وفقها النورونات الحقيقية، وقد حصلوا على أفضل مقاربة من شبكة تتكون من 60 عنقودا من النورونات. وكانت هذه العناقيد موصولة وسطيا بعشرة عناقيد أخرى، ولم تكن هذه الوصلات موزعة بصورة عشوائية بين العناقيد، بل بطريقة كان فيها بعض العناقيد فقط يتمتع بعدد كبير من الوصلات، في حين أن غالبية العناقيد لم يكن لديها سوى عدد قليل من الوصلات. وقد ترتب على ذلك نتيجة مفادها بأن عدد الوصلات التي تربط العنقود الواحد بالآخر كان قليلا جدا. ويدعو العلماء هذا النوع من الترتيب باسم شبكة عالم صغير small-world network.
لقد صار واضحا أنّ هذا النوع من الشبكات من شأنه أن يمنح أدمغتنا حساسية مرهفة حيال الإشارات الواردة إليها، وذلك على نحو يشبه قدرة المايكرفون على تقوية مجال واسع من الأصوات. وقد قام <بلينز> وفريقه بتعريض النورونات لصدمات كهربية مختلفة الشدة ثم قاموا بقياس استجابتها، فوجدوا أنّ الصدمات الضعيفة تولّد استجابات عند عدد محدود من النورونات فقط، في حين أن الصدمات القوية تستثير استجابة قوية لدى عدد أكبر بكثير من النورونات.
ولمعرفة الكيفية التي تؤثر بها بنية الشبكة في هذه الاستجابة، أضاف <بلينز> وزملاؤه إلى النورونات مادة دوائية تُضعف عمل الوصلات النورونية، فلاحظوا أن الخلايا العصبية تتوقف عندئذ عن الاستجابة للإشارات الضعيفة. ولكن هؤلاء العلماء حصلوا على نتيجة مُغايرة تماما عندما حقنوا النورونات بمادة دوائية ترفع قابلية استثارتها واستجابتها للإشارات الواردة من المنطقة المجاورة، حيث استجابت هذه النورونات بصورة قوية وكثيفة للإشارات الضعيفة – ولم تختلف استجابتها هذه من حيث القوة والكثافة عن استجابتها للإشارات القوية. لقد أظهرت هذه التجارب أن الشبكات النورونية تضبط عملها بدقة عالية، وأن هذه الدرجة العالية من الضبط (الدوزنة) هي التي تتيح لها إطلاق إشاراتها بانضباط كبير. أما إذا تم ترتيب النورونات في شبكة مختلفة، فإن استجاباتها سوف تكون غير مترابطة ولا معنى لها.
يمكن للنموذج الرياضياتي الذي يحاكي التآثرات الكامنة للبيع والشراء في سوق الأسهم، أن يكون صالحا أيضا للشبكات المسؤولة عن نشاط الدماغ.

يأمل علماء الجهاز العصبي بأن يتوصلوا في نهاية المطاف إلى إيجاد رابط بين ما نراقبه من نشاط في طبق المختبر(5)، وما يحدث من عمليات عقلية في الحياة اليومية. فمن خلال رصد الدماغ بكامله، يقوم الباحثون التجريبيون باكتشاف أنماط من النشاط التلقائي تشبه النوع الذي اكتشفه <بلينز> في قطعه الصغيرة من نسيج الدماغ. لقد وجد <E .M. ريكلي> ومساعدوه [من جامعة واشنطن في سانت لويس] أنّ بعض النماذج المعقدة من الموجات الكهربائية يمكن أن تنتقل عبر الدماغ بكامله في حال توقف الإنسان عن التفكير في أي شيء كان. كما تشير التجارب الحديثة إلى أنّ هذا النشاط العفوي يمكن أن يكون له دور حيوي في حياتنا العقلية من حيث إنه قد يسمح للعقل أثناء استراحته بالتأمل في نظام عمله الداخلي من خلال مراجعة الذكريات وإعداد خطط للمستقبل.
رُسّام الخرائط النورونية(******)
من أجل فهم سلوك هذه الموجات، يسعى علماء الجهاز العصبي إلى وضع خرائط للوصلات النورونية في كامل الدماغ. وغني عن القول أن هذه المهمة صعبة للغاية، وأفضل دليل على ذلك هو التحدي الكبير الذي يواجه علماء مثل <بلينز> في محاولتهم فهمَ ماذا يجري في قطعة صغيرة جدا من النسيج الدماغي. يُدير <سپورنز> أحد أكثر مشاريع رسم الخرائط النورونية طموحا. وبانضمامه إلى <P. هاگمان> [من جامعة لوزان في سويسرا] وفريقه المتخصص في التصوير العصبي، قام بتحليل بيانات حصل عليها من أدمغة خمسة متطوعين، وذلك باستخدام طريقة تُعرف باسم «تصوير طيف الانتشار(6) (DSI)»، وهي طريقة يتم فيها، وبتبسيط شديد، التقاط صور للمحاوير axons المُغطّاة بطبقة رقيقة من الشحم، وهي الألياف الطويلة المعروفة باسم المادة البيضاء التي تربط المناطق المختلفة من القشرة الدماغية فيما بينها. اختار العلماء نحو 1000 منطقة من القشرة ورسموا خريطة للمادة البيضاء التي تربط كل منطقة منها بباقي المناطق الأخرى.
لقد ابتكر العلماء نسخة محاكاة لهذه المناطق الألف، وأجروا تجارب عليها لمعرفة طبيعة أنماط النشاط التي تولّدها. وقد أظهرت هذه التجارب أن كلّ منطقة من هذه المناطق تُصدر إشارات قادرة على الانتقال إلى المناطق المرتبطة بها وتحريض النورونات هناك على بث إشارات مماثلة أيضا. وعندما شغّل العلماء هذا الدماغ الافتراضي، بدأ بإصدار موجات نشاط بطيئة الانتقال. والمدهش أن هذه الموجات كانت تشبه الموجات التي تم رصدها في الأدمغة الحقيقية في حالة الراحة، والتي رآها <ريكلي> وآخرون.
إنّ نظام الشبكة الدماغية التي رسم خارطتها <سپورنز> وزملاؤه يشبه إلى حد كبير نظام تلك الشبكة الأصغر التي وجدها <بلينز> في قطعه النسيجية الصغيرة التي تضم عددا قليلا من العقد المترابطة جيدا بعضها ببعض – وهي ما يسمى «شبكة العالم الصغير»، كما ذكرنا سابقا. وتجدر الإشارة إلى أن الهندسة البنيوية الواسعة النطاق من شأنها أن تساعد أدمغتنا على الحفاظ على مواردها وعلى العمل بطريقة أسرع. إن إنماء المادة البيضاء وصيانتها يكلفاننا الكثير من الموارد. أما إذا توفر لأدمغتنا عدد قليل من العُقد المترابطة جيدا فيما بينها، فإن أدمغتنا سوف تكتفي بكمية أقل بكثير من المادة البيضاء التي تتطلبها الأنواع الأخرى من الشبكات. ولأن المعلومات في هذه الحالة تعبر عددا أقل من الوصلات في رحلتها من أحد أجزاء الدماغ إلى أجزائه الأخرى، فإن معالجة هذه المعلومات تتم بصورة أسرع.
سيصبح علماء الجهاز العصبي قادرين على رسم خرائط أفضل بكثير لشبكات الدماغ في السنوات القادمة، ويعود الفضل في ذلك إلى مشروع الثلاثين مليونا الذي أطلقه المعهد الوطني للصحة العقلية عام 2010، وهو المشروع المعروف بمشروع مجموع وصلات الدماغ البشري Human Connectome Project، الذي سيقوم بمسح كلّ وصلة بين النورونات في دماغ البالغ. ولكن حتى هذه الخارطة سوف لن تتمكن، بمفردها، من الإمساك بكافة جوانب تعقيدات الدماغ، وذلك لأن النورونات لا تستخدم في تواصلها معا سوى جزء يسير فقط من الوصلات الدماغية المتاحة. وأيضا لأن هذه الشبكة يمكن أن تغيّر شكلها من وقت إلى آخر من خلال عزوف النورونات عن بعض وصلاتها والاستعاضة عنها بوصلات جديدة. إن خلق نماذج للدماغ قادرة على التقاط هذه الشبكات الديناميكية يتطلب جميع ما يمتلكه عالَم التجارة من حيل وبراعة توفرها له نظرية النظم المعقدة.
نورون سوق الأسهم (وول ستريت)(*******)
يحاول عالمان في الرياضيات [من معهد دارتموث] هما <N .D. روكمور> و <D .S. پولس> تحليل هذا التعقيد من خلال التعامل مع الدماغ كما نتعامل مع سوق الأسهم؛ فكلاهما، أي الدماغ وسوق الأسهم، يتألفان من عدد كبير من الوحدات الصغيرة – أي تُجّار الأسهم والنورونات – التي تنتظم في شبكة واسعة المجال. فكل تاجر يستطيع أن يؤثر في باقي التجّار في عملية البيع والشراء، وقد يشتد هذا التأثير إلى حد يشمل الشبكة بكاملها مؤديا إلى هبوط أو ارتفاع الأسعار بمجملها في سوق الأسهم. وعليه، فإن الشبكة الإجمالية بدورها تستطيع أن تؤثر في الحدود الدنيا للأسعار. فعلى سبيل المثال عندما تبدأ سوق الأسهم بالارتفاع من جديد، فإن تَوْقَ بعض التجار إلى الشراء مجددا يؤدي إلى مزيد من الارتفاع في سوق الأسهم.
قام <روكمور> و <پولس> مع زملائهما بتطوير مجموعة من الأدوات الرياضياتية من أجل الكشف عن بنية الشبكة التي تتكون منها سوق نيويورك للأوراق المالية، حيث قاموا بتحميل أسعار الإغلاق اليومية لـ 2547 سهما من صفحات الإنترنت على مدى 1251 يوما، وبحثوا عن أوجه التشابه في تغير أسعار الأسهم العادية المختلفة: قابلية ارتفاع وانخفاض الأسعار في زمن متقارب، على سبيل المثال.
كشفت هذه الدراسة عن وجود 49 عنقودا من الأسهم العادية، وعندما راجع العلماء معلوماتهم المالية، وجدوا أنّ هذه العناقيد تتوافق في معظم الأحيان إما مع بعض القطاعات الاقتصادية المعيّنة كبرامج الحاسوب (البرمجيات software) أو المطاعم مثلا، أو مع مناطق جغرافية محددة، كأمريكا اللاتينية أو الهند.
وإذ توصل العلماء إلى تحديد الفئات المذكورة من خلال تحليل البيانات وحده، فقد أخذوا يشعرون بشيء من الثقة بطرائقهم البحثية. إن ميل أسعار أسهم شركات التزويد بخدمات الإنترنت إلى التقلب بطريقة عشوائية هو أمر منطقي في آخر المطاف إذا أخذنا في الحسبان، مثلا، الخطر الناجم عن دودة الإنترنت والمشكلات التي يمكن أن تتعرض لها مجموعة هذه الشركات بكاملها من جراء ذلك.
وجد <روكمور> و <پولس> أيضا أنّ العناقيد الـ49 المذكورة كانت تنتظم في حقيقة الأمر في سبعة عناقيد كبرى، وأن هذه العناقيد الكبرى كانت في العديد من الحالات، تتوافق مع قطاعات صناعية يعتمد بعضها على بعض، فمراكز التسوّق وأعمال البناء، مثلا، يسيران جنبا إلى جنب. كما وجد الباحثان أيضا أنّ هذه العناقيد الكبرى تتداخل فيما بينها لتشكل أنشوطة عملاقة يُرجح أنّها تنبثق عن ممارسة شائعة بين مديري الاستثمار تُدعى دوران القطاع sector rotation، فهؤلاء المديريون يقومون وعلى مدى عدّة سنوات، بتحريك أموالهم من قطاع إلى قطاع آخر في عالم الاقتصاد.
يستخدم <روكمور> و <پولس> الآن الطرائق الرياضياتية ذاتها لبناء نموذج للدماغ. ولكن بدلا من البحث عن المعلومات المالية المنتقلة من جزء إلى آخر من السوق، فهما يقومان هنا باستقصاء المعلومات التي تنتقل من منطقة إلى أخرى في الدماغ. وكما هي الحال في الشبكات المتقلّبة لأسواق المال، فإن الدماغ لا ينفك عن إعادة تنظيم شبكته بين اللحظة والأخرى.
ولاختبار نموذجهما، قام <روكمور> و <پولس> مؤخرا بتحليل صور الرّنين المغنطيسي الوظيفي(7) (fMRI) التي حصل عليها فريق <ريكلي> من دماغ الأشخاص في حالة الراحة، وراقبا ارتفاع النشاط وهبوطه ضمن الڤوكسل voxel الواحد؛ وهو قطعة من الدماغ بحجم ذرة الفلفل وتمثل أصغر حجم يمكن أن يقيسه الرّنين fMRI. ومن ثمّ بَحَثَا عن العلاقات الوثيقة بين أنماط النشاط. وكما وجد هذان العالمان عناقيد الأسهم في الأسواق المالية، فقد اكتشفا أن الڤوكسلات يمكن تجميعها في 23 عنقودا، وتجميع هذه الأخيرة بدورها في أربعة عناقيد كبرى. وما يثير الدهشة في هذا السياق هو أنّ هذه العناقيد الأربعة الكبرى لم تكن سوى نسخة عصبية تعمل وفق مبدأ دوران القطاع الذي اكتشفه <روكمور> و <پولس> ووجده في مجال سوق الأسهم: لقد كانت كلها تجتمع ضمن أنشوطة واحدة تتحرك داخلها موجات النشاط في مسار دائري.
والآن، وبعد أن نجح <روكمور> و <پولس> في بناء شبكة للدماغ المستريح، قررا توجيه اهتمامهما إلى الدماغ المفكر. ولفهم الآليات التي يستخدمها الدماغ في تغيير نظامه الداخلي، يقوم كل منهما الآن بتحليل بيانات التصوير بالرنين fMRI الخاصة بمجموعة من الأشخاص الذين تبين أن لديهم سلسلة من البيانات. وإذا نجح نموذجهما فقد يغدو <روكمور> و <پولس> قادرَين على التنبؤ بطبيعة النتائج التي يمكن أن يحصل عليها عالم الجهاز العصبي من الفحص الذي يجريه بواسطة الرنين fMRI على أحد الأشخاص الذي يشاهد نوعا معيّنا من المنبهات البصرية، كوجه صديق قديم مثلا. ولاشك في أن مثل هذا الإنجاز سوف يدفع العلوم العصبية باتجاه يمكن أن تتحول من خلاله إلى علم تنبُّئيّ بالفعل.
لن تسمح مثل هذه الدراسات للعلماء بفك جميع طلاسم الطبيعة المعقدة لدماغ الإنسان خلال وقت قصير. وفي هذا الصدد تقدم لنا الدودة المدورة الأنيقة the nematode worm C. elegans حكاية تحذيرية، فقبل أكثر من 20 سنة أنهى الباحثون عملية وضع خارطة لجميع الوصلات بين نوروناتها البالغ عددها 302، ومع ذلك فإنهم ما زالوا يجهلون الكيفية التي يتشكل بها جهاز عصبي قادر على تأدية وظائفه من هذه الشبكة البسيطة.
شبكة طب الجهاز العصبي(********)
عسى أن يستخلص العلماء بعض الدروس العملية المهمة قبل أن ينجزوا مهمتهم في رسم مخطط كامل لشبكات الدماغ السلكية. يشير عددٌ من الدراسات إلى أنّ بعض اضطرابات الدماغ المَرضيّة ربما لا تنشأ عن اضطراب وظيفي في أيّ جزء معيّن من الدماغ، بل عن انحراف في الشبكة ذاتها. وقد تساءل <سپورنز> وزملاؤه في هذا الصدد عن التغير الذي يمكن أن يطرأ على «شبكة العالم الصغير» التي اكتشفوها إذا أوقفوا عددا من عقدها المختلفة عن العمل. فإذا أوقفوا، مثلا، إحدى مناطق الدماغ التي ليس لها سوى بضع وصلات بالنورونات المجاورة، فإن الشبكة بمجملها ستستمر بالعمل بطريقة تشبه من حيث الكثافة ما كانت عليه قبل ذلك. أما إذا أوقفوا عقدة واحدة فقط فإن أنماط نشاط الشبكة كلها ستتغير بصورة جذرية، وهذا ما يفسر بالطبع ما تُحدثه أذيةٌ ما في الدماغ من تغير مُحيّر ولا يمكن التنبؤ به. فالسكتة الدماغية أو الورم يمكن أن يسبّب أذية مدمّرة أحيانا من خلال إصابة رقعة بالغة الصغر من النورونات. وبالمقابل، هناك حالات يُصاب فيها عدد كبير من الأماكن العصبية من دون أن ينجم عن ذلك أيّ تغيير ملحوظ على طريقة عمل الدماغ.
هناك عدد من أمراض الدماغ التي قد يتبين أن سببها يعود إلى اضطرابات في الشبكة ذاتها. وحاليا يستقصي <Ed. بالمور> [عالم الجهاز العصبي من جامعة كامبردج] وزملاؤه هل هناك علاقة بين شبكات الدماغ والفصام. وقد قام هذا الفريق البحثي، في دراسة حديثة له، بفحص أربعين مصابا بالفصام وأربعين شخصا من الأصحاء بواسطة التصوير بالرنين fMRI بوضعية الاستلقاء وحالة الاسترخاء التام وبقاء العينين مفتوحتين. ومن ثم قام <بالمور> وفريقه برسم خارطة لشبكة المناطق التي بقيت نشطة في الأدمغة المرتاحة، حيث وجدوا أنّ مرضى الفصام يتميزون عن الأصحاء بأن بعض مناطق الشبكة في أدمغتهم المستريحة تعمل بتزامن أكبر.
إلاّ أن العلماء لا يعرفون حتى الآن ما هي طبيعة العلاقة التي تربط الفصام بهذه التغيرات في شبكة الدماغ. وعلى أية حال، فإن هذا الفهم قد يساعدنا على أقل تقدير، على تطوير اختبارات حسّاسة للفصام وربما لغيره من الاضطرابات، كالتوحّد واضطراب فرط النشاط مع نقص الانتباه ADHD، التي تشير الدلائل إلى أنها قد تكون هي أيضا من أمراض شبكات الدماغ. وعسى أن يتمكن الأطباء أيضا من متابعة تحسن حالات مرضاهم من خلال مراقبتهم لهم ولما يشير إلى استعادة شبكات أدمغة هؤلاء المرضى وظيفتها الطبيعية، الأمر الذي سيمثل تقدما لا يمكن إلاّ أن نحتفي به، حتى وإن كان علينا أن نستمر طويلا حتى يتمكن علماء الجهاز العصبي من فك جميع طلاسم الطبيعة المعقدة للدماغ.

المؤلف
  Carl Zimmer
<زيمر> مؤلف لتسعة كتب، ومحرر مشارك في جريدة نيويورك تايمز ومجلتي ناشيونال جيوگرافيك وديسكاڤر. وهو أيضا مؤلف الكتاب الإلكتروني الجديد «مقاطع الدماغ: خمس عشرة رحلة في رحاب العقل» Brain Cuttings: Fifteen Journeys Through the Mind (Scott & Nix) وقد نشرت مقتطفات من أحد فصوله على الموقع: www.ScientificAmerican.com/e-zimmer



  مراجع للاستزادة
Theoretical Neuroanatomy: Relating Anatomical and Functional Connectivity in Graphs and Cortical Connection Matrices. O. Sporns, G. Tononi and G. M. Edelman in Cerebral Cortex, Vol. 10, No. 2, pages 127-141; February 2000

Mapping the Structural Core of Human Cerebral Cortex. Olaf Sporns et al. in PLoS Biology, Vol. 6, No. 7, e159; July 2008

Efficient Network Reconstruction from Dynamical Cascades Identifies Small-World Topology of Neuronal Avalanches. Sinsia Pajevic and Dietmar Plenz in PLoS Computational Biology, Vol. 5, No. 1, e1000271; January 2009

Networks of the Brain. Olaf Sporns. MIT Press, 2010


(*)100 TRILLION CONNECTIONS
(**)BUILDING A TOY BRAIN
(***)Anatomy of a Toy Brain
(****)BRAIN IN A DISH
(*****)Small Worlds from Large Networks
(******)NEURAL CARTOGRAPHERS
(*******)THE WALL STREET NEURON
(********)NETWORK NEUROLOGY

(1) neuron  أو عصبون.
(2) toy brain
(3) a neuroscientist
(4) diffusion tensor imaging
(5) طبق بتري.
(6) diffusion tensor imaging
(7) functional MRI
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق