Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

الإستروجينات المخاتلة



الإستروجينات المخاتلة(*)
لقد تطور العمل على هذه المركّبات من مجرد فضول عند بعض
العاملين في المختبرات إلى عقاقير واعدة للوقاية من عدة
اضطرابات خطيرة عند النساء.
<C .V. جوردان>

لقد توجهت الأنظار حديثا إلى نتائج بعض الأبحاث المثيرة التي أجريت على مجموعة من المركبات تدعى «الإستروجينات المخاتلة»، وهي معروفة طبيا باسم الناظمات الانتقائية لمستقبِلة الإستروجين selective estrogen receptor modulators SERMs. وهذه المركبات تسلك سلوك الإستروجين في بعض الأنسجة (النُّسُج)، في حين أنها تلجم عمل هذا الهرمون في أنسجة أخرى!

وفي ربيع عام 1998 أظهرت دراسة واسعة أن هناك مركبا من هذه المركبات ـ يدعى التاموكسيفين tamoxifen ويستخدم في معالجة السرطان ـ يمكنه أن يقي من سرطان الثدي في النساء اللواتي أعمارهن أقل من 35 سنة المعرضات بشدة لخطر هذا النوع من السرطان. ولم يكن يعرف في الماضي أي عقار يمكن بوساطته تفادي الإصابة بأورام الثدي الأولية. وبعد هذه الدراسة مباشرة ذكر تقرير علمي تمهيدي أن عقارا آخر على صلة بهذه المركبات، وهو الرالوكسيفين raloxifin، قد يمكنه أيضا أن يقي النساء من سرطان الثدي. وقد اختبر هذا العقار لمعالجة نساء تجاوزن سن الإياس menopause، وكن ـ فيما عدا تقدم السن ـ لا يشكين من علامات محددة توحي بمخاطر عالية للإصابة بالسرطان.

بعد ذلك بدأت مصادر مختلفة في الإشارة إلى أن الرالوكسيفين (الذي يوصف الآن للوقاية من نقص كثافة العظام عند النساء المتقدمات بالسن) وكذلك المركبات SERMs الأخرى قيد التطوير، يمكن أن تقي النساء من مجموعة من الاضطرابات الخطيرة التي تتفشى بين النساء بعد الإياس (سن اليأس)، ومنها سرطان الثدي وترقّق العظام(1) osteoporosis و سرطان الرحم(2) ومرض الشرايين الإكليلية coronary arteries الذي يعدُّ السبب الرئيسي للوفيات بين النساء والرجال على حد سواء.

ومن المتوقع إذا ما تحققت الآمال المعقودة على المركبات SERMs أن يحدث تحسن واضح في صحة النساء خلال القرن الحادي والعشرين. ولقد قضيت من حياتي أكثر من 30 سنة في اختبار فعل هذه المركبات وتأثيراتها (أعراضها) الجانبية، وإمداد الباحثين السريريين (الإكلينيكيين) بالمعلومات اللازمة لتجريبها على البشر. ولذا فإني مهيأ تماما لتقديم القصة المثيرة عن اكتشاف هذه المركبات في المختبرات، وكيف طورت من أدوية تعالج السرطان إلى أدوية تستطيع المحافظة على صحة وحيوية النساء اللواتي يتقدمن بالسن!

بدأت الحكاية قبل أربعة عقود من الزمان تقريبا مع اكتشاف العقّار تاموكسيفين، ولكي تكون حكايتنا أشمل فسوف أستعرض هنا باختصار وظائف الإستروجين في الجسم، وأشرح طبيعة العقاقير التي تختار حينا محاكاة هذا الهرمون، في حين تقوم تارة أخرى بإعاقة عمله!

 يمكن أن تكون تأثيرات الإستروجين في جسم المرأة حسنة أو سيئة. ويأمل صانعو الدواء من مجموعة مركبات تدعى الناظمات الانتقائية لمستقبلات الإستروجين (SERMs) أن تحاكي تأثيرات الإستروجين في الكبد والقلب والعظام، ولكنها تحد من تأثيرات الإستروجين الضارة بالثدي والرحم، بهدف الحفاظ على صحة النساء بعد الإياس (سن اليأس) حيث ينخفض إنتاج الإستروجين لديهن.

لماذا يُنَظَّم الإستروجين؟
يعتبر الإستروجين جزيئا متناقض الأداء، فهو ضروري للنساء وضار بهن في آن معا. وفائدة الإستروجين الأكثر وضوحا هي برمجة جسم الأنثى للتناسل (ولا سيما الثدي والرحم والدماغ)، وهو وظيفة أساسية للحفاظ على الجنس البشري.

وخلال العشرين سنة الماضية وُجد أن هرمون الإستروجين يؤثر في أعضاء أخرى بطرق فعالة تسهم في المحافظة على صحة الجسم. وعلى سبيل المثال فإنه يؤثر في مراكز الدماغ التي تحافظ على حرارة الجسم، كما أنه يحافظ على سماكة بطانة المهبل ويجعلها زلقة، وما هو أكثر أهمية من هذا دوره في حماية القلب، فهو يحدُّ من تراكم لويحات التصلب العصيدي atherosclerotic plaque في شرايين القلب الإكليلية (التاجية) لأن الإستروجين يتدخل في تركيب الكولستيرول في الكبد؛ فيحد من إنتاج الشحوم المسببة للتصلب العصيدي، أي الكولستيرول ذي البروتينات الدهنية الخفيضة الكثافة low-density lipoproteins LDL ؛ وبالمقابل يرفع نسبة الكولستيرول ذي البروتينات الدهنية العالية الكثافة high-density lipoproteins HDL التي تحدُّ من تكوين العصيدة الشريانية. كما أن الإستروجين يحمي العظام، فيساعد على المحافظة على التوازن بين بنائها وانحلالها. وهناك شواهد حديثة على أن الإستروجين يمكن أن يقوي الذاكرة ويؤخر داء ألزايمر Alzheimer's disease أو يخفف من حدته.

وتشعر النساء عادة بأهمية الإستروجين وفضله عليهن عندما يعانين فقدانه عند سن الإياس وما بعدها. وهذه الفترة تبدأ عادة في سن الخمسين، وعندها يتوقف مبيضا المرأة عن إطلاق البويضات وإنتاج الإستروجين. وتبدأ المرأة تعاني الشعور بهبات حرارة في بدنها مع تعرق ليلي. وهذه الأعراض المزعجة قد تستمر سنوات عديدة. وفي غضون ذلك يرتفع في الجسم إنتاج الكولستيرول LDL، وتحصل سائر التغيرات القلبية الوعائية فتزداد إمكانية حدوث أمراض الشرايين الإكليلية والنوبات القلبية، كما أن ترقق العظام الذي يبدأ عادة في الثلاثينات من العمر يتسارع بعد الإياس ويؤدي غالبا إلى هشاشة العظام وتشوهها في سن السبعينات.

كيف تعمل المركبات SERMs
لم يعرف الباحثون بعدُ كيف يمكن أن تكون المركبات المعروفة باسم الناظمات الانتقائية لمستقبِلات الإستروجين (SERMs) ـ مثل التاموكسيفين والرالوكسيفين ـ مضادات إستروجينية في بعض الخلايا، في حين تكون إستروجينية في بعضها الآخر. وكل ما توصلوا إليه حتى الآن لا يعدو أن يكون مجرد تكهنات.
لقد قامت أفكارنا حول عمل هذه المركبات على أساس فهمنا لكيفية عمل الإستروجين في الجسم (التتابع في a، في الأسفل). فالهرمون يؤثر فقط في الخلايا التي تصنع البروتينات النووية المسماة «مستقبِلات الإستروجين». وعندما تلتقي هذه البروتينات النووية الإستروجينَ (1) تقترن به، وتغير الشكل، وتكوّن أزواجا، وتلتصق بمواقع على جينات معينة تسمى عناصر الاستجابة للإستروجين estrogen response elements (EREs). وهذا الاقتران يحثُّ على تشكيل مركب انتساخ (2)، وهو تجمع ما يسمى بالمآزرات coactivators مع بروتينات أخرى بحيث تتداخل جميعها حول المستقبلات مثل قطع الفسيفساء. وهذا المركب المعقد ينشط بدوره الجينات (المورثات) المرتبطة ويحث پوليميراز (إنزيم بلمرة) الرنا RNA polymerase لكي يقوم بانتساخ الجينات إلى جزيئات من الرنا المرسال messenger RNA ـ أي قوالب الرنا الجوالة التي تقوم بتصنيع بروتينات جديدة. وهذه البروتينات تحث بدورها الخلايا على الانقسام أو التغير بطرق شتى (3).
وعندما تحاصر المركبات SERMs عمل الإستروجين فإنها تفعل ذلك من خلال إغلاقها لمنافذ اقتران الإستروجين بالمستقبلات (b)، وهذا ما يحول دون حصول الإستروجين على إذن بالدخول، وعندما تقترن هذه المركبات بالخلايا فإنها تمنع المستقبلات من تعديل نفسها بالشكل المطلوب للتفاعل مع البروتينات المآزرة التي تتضافر مع المستقبلات من أجل تكوين مركب انتساخ طبيعي. ويأتي البرهان على هذه التفسيرات من مختبر <E.R. هابارد> بجامعة يورك في إنكلترا. وبمقارنة تركيب المستقبِلة المقترنة بالإستروجين مع واحدة من المستقبلات المقترنة بالرالوكسيفين وجد الباحثون أن الإستروجين يدير جزءا لولبيا من المستقبلة ـ هو اللولب 12 ـ عبر موقع الاقتران، مثلما يحدث في أراجيح مدينة الألعاب (الملاهي) حين يتحرك قضيب مانع (مزلاج) ليحجز الراكب ويقيه من السقوط من المركبة. إن إزاحة (إدارة) اللولب 12 توجّه بعض مكوناته من الحموض الأمينية بحيث يمكّنها من الارتباط بمآزرات معينة. وعلى العكس من ذلك فإن الاقتران مع الرالوكسيفين يكبح عمل «مِفْصلة» القضيب (المزلاج) وبذا يمنع اللولب 12 من الدوران بحرية [انظر الشكل في الصفحة 48].
وقد وجدنا في مختبرنا أن الرالوكسيفين والتاموكسيفين يلجمان المِفْصلة بوساطة الاقتران بحمض أميني معين ـ رقم 351 ـ في شريط الحموض الأمينية التي تتكون منها مستقبِلة الإستروجين. وقد ساعدنا هذا الاكتشاف على فهم بعض الحالات التي لا تحصل فيها الاستجابة للتاموكسيفين في المصابات بسرطان الثدي واللواتي عولجن أصلا بنجاح بهذا العقار. ففي هذه الحالات وجدنا أن الأورام تؤثر في المستقبلة مؤدية إلى حلول حمض أميني آخر مكان الحمض الأميني المناسب في الموضع 351، وهذا الحمض البديل يتفاعل مع التاموكسيفين متيحا للولب 12 أن يدور بصورة اعتيادية، وعندها تتصرف المستقبلة كما لو كانت مقترنة بالإستروجين وليس بالتاموكسيفين، وعندئذ ينمو الورم.
 
ولكن كيف يمكن للمركبات SERMs التي تسلك سلوك مضادات الإستروجين في بعض الخلايا السليمة أن تتحول إلى محاكاة فعل الإستروجين في خلايا أخرى؟ يفترض أن هذه العقاقير تؤثر في المستقبلات في مختلف أنواع الخلايا بطريقة متماثلة، لذلك فمن المرجح أن يرجع الاختلاف في نوع الاستجابة إلى بعض مظاهر الاختلاف بين الخلايا بعضها عن بعض.
وقد ركزت إحدى النظريات بهذا الخصوص على البروتينات المآزرة التي تتفاعل مع المستقبلات الموجودة على الجينات (الشكل c، في الأعلى)، فالخلايا التي لا تبدي استجابة إستروجينية للمركبات SERMs قد لا تكون قادرة على إنتاج مآزرات قابلة للتفاعل مع المستقبلات المرتبطة بهذه المركبات، في حين أن الخلايا التي تبدي استجابة يمكن لها بالمصادفة أن تنتج مآزرات قادرة على الاقتران بالأشكال الشاذة من المستقبلات فتؤدي إلى تشكل مركب انتساخ فعال.
وهناك فكرة تقول: إن المستقبلات المرتبطة بالمركبات SERMs غير قادرة على الاقتران بعناصر معيارية (قياسية) من عناصر الاستجابة للإستروجين الموجودة في الجينات. ومع ذلك، ففي بعض الخلايا تُظهر جينات معينة نقاط اقتران بديلة (الشكل c، في الوسط)، وعندما تستقر المستقبلات الحاملة للمركبات SERMs على هذه النقاط تتشكل مركبات انتساخ، ويحدث الانتساخ كما لو كان الإستروجين هو الذي يوجهه.
وحديثا اكتشف الباحث <A..J گوستافسون> وزملاؤه (في معهد كارولينسكا باستوكهولم) أن مستقبلات الإستروجين لها شكلان على الأقل، أحدهما وهو الذي عرف أولا يدعى المستقبلة ألفا والآخر الذي عرف حديثا يدعى المستقبلة بيتا. ويعتقد أنه في الخلايا التي تصنع فقط المستقبلة ألفا فإن المركبات SERMs تمنع مستقبلة الإستروجين من تحريض الانتساخ، أما في الخلايا التي تصنع المستقبلة بيتا (الشكل c، في الأسفل) فإنها عندما تقترن بأحد المركبات SERMs قد تحث تلك المستقبلات على تنشيط عملية الانتساخ. وفي هذه الحالة تشير بعض الدلائل إلى أن المستقبلات يمكن أن تحرض على تشكيل مركب انتساخ عبر الاقتران، ليس بالجينات مباشرة ولكن بالاقتران بالبروتينات Fos و Jun التي تربط الدنا DNA. وهناك فرضيات أخرى حول النشاط الإستروجيني لاتزال قيد البحث والدراسة.

إلا أن المظهر الأكثر شراسة من مظاهر تدني نسبة الإستروجين في بدن المرأة هو القابلية لإثارة سرطاني الثدي وبطانة الرحم اللذين يكثر حدوثهما في السنوات التي تلي سن الإياس. ومن المحتمل أن الهرمون لا يبدأ بإحداث التغيرات الخلوية التي تؤدي إلى هذه السرطانات، ولكنه يحث على نمو الخلايا التي تكون قد بدأت خطواتها الأولى نحو التكاثر السرطاني غير المنضبط. ومن جهة أخرى فإن تعرض المرأة خلال عدة عقود من عمرها لتأثير الإستروجين (أي خلال سنوات نشاطها الجنسي) يزيد كثيرا من فرص تعرضها للإصابة بالأورام، وهذا ما يجعل تقدم المرأة بالعمر عامل خطورة كبيرًا من حيث الإصابة بسرطاني الثدي وبطانة الرحم، علما بأن سرطان الثدي الذي يعد من أكثر السرطانات شيوعا في النساء؛ إذ يصيب واحدة من كل 15 امرأة تتراوح أعمارهن ما بين 60 و 79 سنة.

ويلاحظ بعد توقف الإباضة في النساء، أنهن كثيرا ما يلجأن لتعويض النقص الحاصل في الآثار المرغوبة للإستروجين، وذلك بتناول بعض البدائل الطبيعية أو المركبة. هذه المعالجة تخفف من هبات الحرارة، وإذا ما استمرت فترة طويلة فإنها تعمل على مقاومة ترقق العظام. وقد ذكرت دراسات عديدة أنها تقلل أيضا من إمكانية حصول النوبات القلبية، وإن كانت المسألة بحاجة إلى المزيد من الدراسات المستقبلية. ولكن ـ من جهة أخرى ـ قد تحرض هذه المعالجة التعويضية replacement therapy على حدوث سرطاني الثدي والرحم، وفي بعض النساء قد تسبب جلطات (خثرات) دموية خطيرة في الأوردة. إلا أن إضافة الپروجستين (وهو صورة اصطناعية(3) من هرمون الپروجسترون) للبرنامج العلاجي تقي من سرطان الرحم؛ لأن الپروجستين يحرض على تساقط بطانة الرحم شهريا (بما قد تحمله من خلايا ورمية). ولكن المشكلة في هذه الحالة هي أن العديد من النساء اللواتي تقدمن بالسن لا يرغبن في عودة العادة (الدورة) الشهرية مجددا، إضافة إلى أن الپروجستين لا يقلل من إمكانية حدوث سرطان الثدي أو الجلطات الوريدية.

لقد ساعدت معرفتنا للتركيب على فهم كيف يمارس العقار رالوكسيفين نشاطه المضاد للإستروجين. فالإستروجين عندما يقترن بإحدى مستقبلاته (الشريط الأحمر) يلتف اللولب 12 في المستقبِلة عبر جزيء الإستروجين (اليسار)، وهذا الالتفاف يجعل بعض الحموض الأمينية (الكرات الحمراء) تشتبك بجزيئات أخرى ضرورية لتنشيط الجينات (الموروثات) المستجيبة للإستروجين. إلا أن اللولب لا يلتف عندما يكون الاقتران بالرالوكسيفين (اليمين). والإخفاق في الالتفاف يمكن أن يمنع المستقبلات من التفاعل المناسب مع جزيئات التفعيل. ويبدو أن الرالوكسيفين يعوق الالتفاف باقترانه بالحمض الأميني 351.

ومن الآمال العريضة المعقودة على استخدام المركبات SERMs أنها ستضاعف من الفوائد الجليلة للإستروجين فيما يخص القلب والعظام، وإن كانت ستعمل كمضادات للإستروجين antiestrogens (حاصرات للإستروجين estrogen blockers) في الثدي والرحم، وبهذا تغلق الباب على الخطر الذي ينشأ عادة عن الإستروجين. وبما أن هذه المركبات يمكن أن تزيد من الإزعاج الناجم عن هبات الحرارة المصاحبة عادة لسن الإياس، فمن المرجح أن يقتصر استخدامها على النساء اللواتي خمدت عندهن تلك الأعراض ولم يعدن يعانينها.

ولا بد من ملاحظة أن التمارين الرياضية والعناية الشديدة بالتغذية ومقدار الكالسيوم في الطعام يمكن أن يساعد على المحافظة على العظام والقلب من دون الحاجة إلى تناول أية أدوية. ويؤكد بعض العلماء أن هذه الطريقة يمكن أن تقي من سرطاني الثدي والرحم، ولكن يجب أن يُختبر جيدا مدى تفضيل هذه الطريقة على العلاج الدوائي.

التاموكسيفين: الرائد
وعلى الرغم من أن الأضواء قد سُلِّطت فجأة على قدرة المركبات SERMs على الوقاية من الأمراض، فإن هذه القدرة لم تؤخذ في الاعتبار مطلقا عندما عرف العقار تاموكسيفين (وهو أشهر أفراد هذه المركبات) قبل نحو 40 عاما! ولكن للحقيقة نقول إن أحدا لم يتحقق بعد من أن هذا العقار أو أي دواء كيميائي آخر يمكن أن يسلك سلوك الإستروجين في بعض الأنسجة، في حين يعمل مضادًا للإستروجين في أنسجة أخرى! وما هو أكثر من ذلك، فإن التاموكسيفين الذي صنف حينذاك على أنه مضاد للإستروجين لم يتوقع أحد أن يعالج أو يقاوم أي مرض على الإطلاق، وكان التوجه لدى العلماء أنه سيكون واحدا من موانع الحمل contraceptives. ولكن من سخرية الأقدار أن فشله في منع الحمل ـ الذي خيب الآمال في البداية ـ كان الخطوة الأولى نحو عدد من الاكتشافات المهمة التي قادت إلى المزيد من الاستعمالات القيمة للتاموكسيفين ومشتقاته.

ففي بداية الستينات من هذا القرن ذكر فريق مكون من <N.D. ريتشاردسون> و<J .K .M. هارپر> و<L .A والپول> (من شركة ICI للمستحضرات الصيدلانية في إنكلترا، وتسمى الآن زينيكا Zeneca) أن العقار تاموكسيفين يعمل مضادًا للإستروجين، فقد لاحظوا أنه يمنع تأثير الإستروجين في زيادة حجم أرحام الفئران. وفي الآونة التي شاعت فيها مقولة «مارسوا الحب وليس الحرب»، وجدت حبوب منع الحمل سوقا رائجة لها، وأدرك الفريق في حينه أن التاموكسيفين بتثبيطه للإستروجين في الرحم يمكنه أن يمنع الحمل وأن يُستخدم علاجا ملائما لذلك. إلا أن دراسات لاحقة أثبتت إخفاق هذا العقار إخفاقا ذريعا في تحقيق هذا الغرض. وفي الحقيقة فإنه بدلا من أن يتدخل بمنع الحمل عزز إمكانية الحمل عند النساء الأقل خصوبة!

ولحسن حظ ضحايا سرطان الثدي فقد كانت لدى والپول أسباب وجيهة ليخمن بأن موانع الحمل الخاصة التي أنتجتها الشركة ICI والتي لم تفد في منع الحمل قد تقدم طرقا جديدة لعلاج أورام الثدي. إلا أن والپول الذي كان مكلفا بإنتاج موانع للحمل لم يمكنه متابعة هذا الأمر بنفسه، ولكنه كان يشجع الآخرين عليها بشدة، وقد كنت واحدا من هؤلاء. فقد قابلت والپول أول مرة في عام 1967، عندما كنت طالبا مقيما في الشركة ICI، ثم في عام 1972 عندما كان رئيسا للجنة الامتحان التي تقدمت لها بأطروحة الدكتوراه حول عمل مضادات الإستروجين.

وقد بنى والپول آماله في قدرة العقار تاموكسيفين على الإسهام في إنتاج مضادات فعالة للسرطان، من خلال فهم متنامٍ للطريقة التي يتدخل بها الإستروجين في إحداث سرطان الثدي. كان الباحثون يعرفون منذ عقود خلت بأن الإستروجين يوجه بطريقة ما نمو أورام الثدي. ومن التطورات التي حصلت خلال القرن العشرين فإن الأطباء تعلموا أن استئصال المبيضين ـ اللذين هما مصدر الإستروجين عند النساء ـ يمكن أن يؤدي إلى تراجع الورم بدرجة ما لدى نحو ثلث المصابات بحالة متقدمة من سرطان الثدي (الذي يكون قد انتشر إلى ما هو أبعد من العقد اللمفاوية تحت الإبط).

وفي عام 1936 أوضح العالم الفرنسي المتميز <أنطونيو لاكاسانْي> أن العقاقير القادرة على معاكسة فعل الإستروجين يمكنها أن تقي من الإصابة بسرطان الثدي. وفي الثلاثينات لم تكن هناك مضادات إستروجين ولا أي مركب آخر مرشح لمثل هذه المهمة، ولم يكن أحد يعرف التفاعلات الجزيئية التي يحرض الإستروجين من خلالها النمو السرطاني في الثدي أو حتى نضج الجهاز التناسلي في الأنثى.

وفي أواخر الخمسينات عاد الاهتمام بهذا الموضوع حينما توصل كل من <V.E. جنسن> و<I.H. جاكوبسون> (من جامعة شيكاگو) إلى أن الإستروجين يغير من سلوك الأنسجة المستجيبة له من خلال ارتباطه بجزيء اقتراني (أو مستقبِلة) تنتجه فقط هذه الأنسجة، وبعد نحو خمس سنوات أثبت <J. گورسكي> وزملاؤه (في جامعة إلينوي) وجود هذه المستقبلات، وقد عزلوها من خلال أرحام الفئران. وقد تنبأت هاتان المجموعتان ـ وكانتا على صواب ـ بأن المستقبلات الاقترانية في الخلايا تنشِّط بعض الجينات (المورثات) التي تقوم بدورها في تغيير سلوك الخلايا. وعلى سبيل المثال فإن الجينات المثارة بالإستروجين في خلايا الثدي وبطانة الرحم تؤدي إلى انقسام هذه الخلايا.

وقد أحدث جنسن قفزة حاسمة في المفاهيم التي حفَّزت تطوير التاموكسيفين علاجا لسرطان الثدي، فقد حدّس أن المصابات بسرطان الثدي ـ اللواتي استجابت الأورام عندهن لاستئصال المبايض فتراجعت ـ كنّ مصابات بأورام تضم كمية وافرة من مستقبلات الإستروجين، وأن نمو هذه الأورام يتطلب اقتران الإستروجين بهذه المستقبلات. وفي غياب هذا الاقتران فإن الأورام كثيرا ما تتوقف عن النمو وأحيانا قد تختفي. وبالمقابل فإن الأورام التي لم تستجب لاستئصال المبايض يعوزها مستقبلات الإستروجين، وأنها تنمو حتى في غياب الإستروجين. وبناءً عليه فإن المصابات بأورام غنية بالمستقبلات يمكن أن يستفدن كثيرا من المعالجة الغُدِّية (قطع الإستروجين estrogen removing)، في حين لا تستفيد منها المصابات بأورام تفتقر إلى هذه المستقبلات.

وقد قادت دراسات جنسن إلى وضع معالجة تقوم على وجود أو عدم وجود مستقبلات الإستروجين في أورام الثدي. وفي السبعينات اقترحت هذه الدراسات أن التاموكسيفين باعتباره مضادا للإستروجين يمكن أن يوقف نمو أورام الثدي الغنية بالمستقبلات، بل يمكنه أن يقضي عليها من دون حاجة المصابات إلى الجراحة أو استئصال الأعضاء المنتجة للإستروجين. فالتاموكسيفين يمكن أن يرتبط بمستقبلات الإستروجين في أورام الثدي الغنية بالمستقبلات، ومن ثمَّ يمنع الإستروجين من أن يُحدث تأثيراته المسرطنة.

وفي تلك الأيام كان معظم الأطباء في شك من الأمر، وعلقوا آمالهم ـ بدلا من ذلك ـ على المعالجة الكيميائية، أي إعطاء كيماويات سامة تنتشر في الدم فتقتل الخلايا السرطانية، ولكنها تخرب في الوقت نفسه الكثير من الخلايا السليمة.

أدت دراسة التاموكسيفين إلى تقييم قدرة هذا العقار على الوقاية من سرطان الثدي في 388 13امرأة من المعرضات بشدة لهذا النوع من السرطان. ونرى في الصورة ثلاثا من النساء المختارات من بين المتطوعات للدراسة، وهن ممن لا تقل أعمارهن عن ستين سنة، أو اللواتي يدل تاريخهن المرضي أو العائلي على إمكانية التعرض للمرض. إن السنوات الأربع المخصصة للدراسة قد انتهت في فصل الربيع من عام 1998. وبمقارنة مجموعة النساء المعالجات بهذا العقار بمجموعة أخرى أعطيت علاجا غُفْلا placebo وجد أن عدد النساء اللواتي شخص لديهن سرطان الثدي في المجموعة المعالجة يقل بنسبة 45% عن مجموعة المقارنة. وكان الدواء فعالا في جميع المجموعات العمرية.

وعلى الرغم من الشك الذي كان سائدا حول أهمية التاموكسيفين، فإني بعد أن حصلتُ على الدكتوراه، ركَّزْتُ على تقييم القدرة الانتقائية للتاموكسيفين على الحد من النمو السرطاني في الثدي. ومن خلال تجاربي الخاصة أثبتُّ أن هذا العقار يحاصر (يعيق) عمل الإستروجين، بأن يقترن بمستقبلات الإستروجين عوضا عن الإستروجين. وكذلك وجدت أن هذا العقار قلَّص في الفئران أورام الثدي الغنية بمستقبلات الإستروجين ومنع المُسَرْطِنات(4) المعروفة من إحداث أورام جديدة.

وفي عام 1974 وبعدما اكتملت هذه الدراسات في مؤسسة وورشستر للبيولوجيا التجريبية (بولاية ماساتشوستس)، توجه البحث نحو الوقاية من سرطان الثدي، ثم في مدة لا تقل عن عقد من الزمن لم يحاول أحد القيام بتجارب على البشر بشأن الوقاية من السرطان بوساطة هذا العقار. ومع هذا فقد تابعت مع زملاء من عدة جامعات التجارب المختبرية التي أعطتنا أدلة علمية منطقية كافية إلى حد ما للبدء بتجريب التاموكسيفين على البشر. وقد توصلنا إلى أن الجسم يُحوِّل التاموكسيفين إلى عدد من المشتقات (أي المستقلَبات metabolites) المختلفة. ونختبر الآن نسخا معدَّلة من بعض هذه المستقلبات التي كان الرالوكسيفين واحدا منها.

التاموكسيفين يثبت أنه علاج
في خضم انشغالنا بتجاربنا كانت هناك فرق أخرى تقوم بتجارب على التاموكسيفين في النساء المصابات بسرطان الثدي. وفي أوائل السبعينات أظهر اختباران متواضعان أن هذا الدواء يقلل من الأورام مؤقتا في نحو ثلث المصابات بأورام متقدمة (مستفحلة) واسعة الانتشار، إضافة إلى ذلك فإن التأثيرات الجانبية كانت أخف كثيرا من التأثيرات التي تنتج عادة من المعالجة الكيميائية. وعلى هذا الأساس فإن الحكومة البريطانية سمحت بتداول التاموكسيفين في الأسواق عام 1973، وفي عام 1978 صار العقار متوافرا لعلاج المراحل المتأخرة من سرطان الثدي في الولايات المتحدة.

ومن المعروف أن السرطان في مراحله المتقدمة يصعب شفاؤه، ولكن التراجع في الأورام نتيجة لهذه التجارب المبكرة بيّن أن التاموكسيفين يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات تدوم فترة أطول إذا ما أعطي للنساء المصابات بسرطانات أقل تفاقما. وفي الواقع بدأت أتساءل ـ وكثيرون غيري ـ عما إذا كان بعض المصابات بأورام محدودة يمكن أن يشفين إذا ما أعطين التاموكسيفين دواء مساعدًا أو علاجا إضافيا بعد استئصال الورم كليا بالجراحة. وكان لنا أمل في أن يقضي هذا العقار على النقائل(5) المكروية micrometastases ـ وهي خلايا ورمية يصعب اكتشافها، تكون قد انتشرت في جسم المرأة انطلاقا من الورم الأصلي. ويمكنها، إذا ما تركت لحالها، أن تنمو إلى كتل ورمية مميتة.

بعد هذا عزم بعض الباحثين السريريين على تقييم هذه الطريقة بإعطاء المريضات العقّار تاموكسيفين مدة سنة واحدة علاجا مساعدا، أما فريقي فكان يعمل خلال تلك الفترة على الحيوانات؛ إذ كنا نحرض تشكيل بعض الأورام المكروية (المجهرية)، ثم نختبر تأثير التاموكسيفين في «شفاء» الورم ومنع الشذوذات السرطانية الدقيقة من النمو.

ومن خلال التجارب التي أجريت على البشر وتجاربنا التي أجريناها على الحيوانات تبين أن المعالجة القصيرة الأمد قد فشلت فشلا ذريعا. وفي المقابل تبين أن تعاطي الحيوانات للتاموكسيفين بشكل متواصل مدة طويلة (أكثر من خمس سنوات من تعاطي العقار في البشر) قد حاصر الأورام ومنع تطورها. ففي المرحلة الأولى من المعالجة تبين لنا أن التاموكسيفين يعمل كما يعمل كاتم النيران(6): فهو يخمد الأورام فقط مادام في مجرى الدم. وبعد ذلك ظهر لنا أن له تأثيرات أطول أمدا، وقد أقنعت هذه النتائج الباحثين لتجريب برنامج علاجي في البشر مددًا أطول.

عظم امرأة سليم (في اليسار)، ويبدو واضحا أنه أقوى من العظم المأخوذ من إحدى المصابات بترقق العظام (في الوسط): وهو هشاشة العظام التي تصيب النساء بعد سن الإياس. وقد أجيز استخدام أحد المركبات SERMs وهو الرالوكسيفين للحفاظ على كثافة العظم. وتشير الدلائل الأولية إلى أن هذا العقار يمكنه أيضا أن يقلل من خطر حدوث سرطان الثدي عند هؤلاء النساء (الرسم البياني)، وكذلك سرطان بطانة الرحم والنوبات القلبية، غير أننا مازلنا بحاجة إلى المزيد من البحث. إن البيانات الواردة عن سرطان الثدي مأخوذة من دراسة ضمت أكثر من عشرة آلاف امرأة جرت متابعتهن لأكثر من ثلاث سنوات.

وحتى وقتنا الحالي، فإن التاموكسيفين يكون قد جرب في البشر لأكثر من عشرين عاما. وقد دلت هذه الخبرة على أن العلاج الأطول يكون أفضل: فإن خمس سنوات من المعالجة المساعدة بالتاموكسيفين أفضل من المعالجة لسنة واحدة أو اثنتين. ويعرض الباحثون من جامعة أكسفورد تباعا تقارير أبحاث سريرية على التاموكسيفين، ويحوي أحدث تقاريرهم نتائج علاج 000 30 مصابة بسرطان الثدي من اللواتي لم ينتشر الورم فيهن إلى ما بعد العقد اللمفاوية قبل الجراحة أو المعالجة بالأشعة، منهن000 18 مريضة كن مصابات بأورام غنية بمستقبلات الإستروجين و000 12 مريضة لم تكن حالة المستقبلات لديهن معروفة (منهن 8000 مريضة يحتمل أنهن يحملن المستقبلات). وقد بينت الدراسة أن المعالجة بالتاموكسيفين مدة خمس سنوات قد خفضت بنسبة 50% من الانتكاسات السرطانية سواء في المناطق الأصلية للورم أو النقائل (الانتقالات) السرطانية. وقد بقي هذا التأثير الجيد مدة لا تقل عن خمس سنوات بعد انتهاء المعالجة بالتاموكسيفين. وبالمثل فإن النساء اللواتي أخذن التاموكسيفين علاجا مساعدا مدة خمس سنوات قد انخفض لديهن ظهور الأورام في الثدي الآخر بنسبة 50%، وقد استمرت هذه الوقاية خمس سنوات على الأقل بعد اكتمال المعالجة.

تأثير مزعج للتاموكسيفين
مع حلول عام 1986 كان التاموكسيفين يوصف بصورة واسعة علاجا مساعدا في مختلف مراحل سرطان الثدي، وقد صُممت تجربتان رئيسيتان على الأقل لتقييم فعاليته في منع المرض. ومع التوسع في استعماله، بدأتُ أخشى أن يسبب تناوله لفترات طويلة تأثيرات جانبية غير متوقعة، ولذا بدأنا في مختبري بجامعة ويسكنسن-ماديسون سلسلة من التجارب على الحيوانات لتحديد تأثيراته السامة المحتملة.

في البداية كنا نخشى أن يقوم التاموكسيفين ـ باعتباره مضادا للإستروجين ـ بإبطال مفعول الإستروجين في الأنسجة التي تحتاج إليه فعلا، فعندئذ ما فائدة السيطرة على سرطان الثدي بالتاموكسيفين إذا كان العلاج سيؤدي في الوقت نفسه إلى ترقق العظام والموت بنوبة قلبية؟

ولهذا بدأنا نوجه اهتمامنا إلى تقييم تأثيرات المعالجة في العظام، ولم نقتصر على فحص التاموكسيفين وحده بل أدخلنا معه الرالوكسيفين أيضا، إضافة إلى مركب تجريبي كانت الشركة إيلي ليلّي Eli Lilly تسعى ـ حينذاك ـ لإدخاله عقارا تعويضيا مضادا للإستروجين لمعالجة سرطان الثدي. ومما يُدهش حقا أن هذين الدواءين المعروفين بأنهما مضادان للإستروجين قد حافظا على كثافة العظام عند الفئران المحرومة من الإستروجين، تماما كما يفعل الإستروجين عادة!

لقد كان واضحا إذًا أن عمل هذين العقارين يستهدف مناطق محددة من الجسم، وأن هذه المركبات تقترن دائما بمستقبلات الإستروجين عوضا عن الهرمون نفسه فتحول دون اقتران هذا الهرمون بالمستقبلات. وفي بعض أنواع الخلايا، مثل خلايا الثدي، يضمن هذا الاقتران (كما توقعنا) بقاء المستقبلات هامدة. وعلى الأقل ففي الخلايا العظمية يحض هذان العقاران المستقبلات على العمل وكأنها مقترنة بالإستروجين.

إذًا هذه العقاقير ليست مجرد مضادات للإستروجين، بل هي وسائط انتقائية لمستقبلات الإستروجين، وهذا ما أثار فينا الفضول لفهم هذا التأثير الانتقائي في الأنسجة، أو هذه المفارقة الغريبة التي بقيت غير مفهومة لنا تماما [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 46 و 47]، ولكننا مع هذا كنا مبتهجين لأن التاموكسيفين لم يسبب تآكل العظام.

غير أن فرحتنا لم تدم طويلا؛ لأن تأثيرا جانبيا بليغا للتاموكسيفين قد اعترض طريقنا. فقد عرفنا من خلال بعض الأبحاث العلمية المنشورة بأن التاموكسيفين يمكن إلى حد ما أن يثير نمو سرطان بطانة الرحم في حيوانات التجربة. ونتيجة لهذه الملاحظة بدأ <M. گوتارديس> من فريقي بتجربة (تعتبر الآن من الكلاسيكيات) أوضحت بأن العقار يسلك في الرحم سلوك الإستروجين نفسه. فعندما حَقَن الفئران التي زرع فيها أوراما من الثدي والرحم البشريّيْن بالتاموكسيفين والإستروجين، وجد أن التاموكسيفين قد أوقف قدرة الإستروجين على إثارة نمو سرطان الثدي، ولكنه لم يستطع إيقاف سرطان الرحم. وفي عام 1989 لاحظ كل من <T. فرناندر> و <E.L. روتكفيست> (من معهد كارولنسكا Karolinska في استوكهولم) ظاهرة مماثلة في النساء المصابات بسرطان الثدي اللواتي كن في سن الإياس. فقد لاحظا أن التاموكسيفين قد قلل من معدل حدوث الأورام في الثدي الثاني، ولكنه زاد من معدل حدوث سرطان الرحم.

ومنذ ذلك الحين أصيب الأطباء والمرضى بقلق شديد نتيجة لهذه الآثار التي ظهرت للتاموكسيفين. إن الحذر له ما يبرره بالتأكيد، ولكن مدى الخوف قد يكون مبالغا فيه. وفي الآونة الأخيرة، أفادت إدارة أبحاث السرطان في منظمة الصحة العالمية بأن النساء اللواتي يتعاطين التاموكسيفين لعلاج سرطان الثدي يجب ألا يتوقفن عن تعاطيه تحسبا من الإصابة بسرطان الرحم؛ لأن فوائده في الحفاظ على الحياة تفوق أخطاره بدرجة كبيرة. وبعبارة أخرى، إن فوائده في الحفاظ على الأرواح تفوق بنحو 30 مرة معدل الوفيات التي قد تحصل من جراء تأثيراته الجانبية. وفضلا عن هذا فقد تبين بالاستقصاء أن معظم حالات سرطان الرحم الذي قد يحصل عند اللواتي يتعاطين التاموكسيفين يمكن كشفه مبكرا في مرحلة يمكن فيها علاجه وشفاؤه.

ويبقى هناك تأثير جانبي للتاموكسيفين غير شائع نسبيا ولكنه قد يؤدي إلى الموت، وهو أن التاموكسيفين مثل الإستروجين يمكن أن يزيد من فرصة حدوث الجلطات الدموية في الأوردة وبخاصة عند النساء اللواتي أعمارهن فوق الخمسين.

التاموكسيفين يقي من سرطان الثدي
مع تقدم البحوث حول التأثيرات الجانبية للتاموكسيفين فإن دراسات أخرى أجريت حول فوائده في الوقاية من سرطان الثدي. وتُجرى حاليا واحدة من هذه الدراسات برئاسة  <.J.Tپاولز > (من مستشفى مارسدن الملكي بلندن) والأخرى ـ وهي «محاولة للوقاية من سرطان الثدي» ـ قد ألمحنا إلى نتائجها في مطلع هذه المقالة.

والمشروع الأخير هو مجهود أمريكي كندي مشترك برئاسة <B. فيشر> (الذي يعمل حاليا بجامعة ألِّگيني للعلوم الصحية) وقد شمل 388 13 امرأة تبلغ أعمارهن 35 سنة أو أكثر ويوصفن بأنهن معرضات بشدة للإصابة بالمرض، وذلك استنادا إلى سيرتهن العائلية أو تاريخهن المرضي أو أعمارهن (فوق 60 سنة). وقد أعطي نصفهن العقار تاموكسيفين وأعطي نصفهن الآخر علاجا غُفْلا placebo. فكانت نجاعة التاموكسيفين قوية للغاية، فقد وجد أن المجموعة التي عولجت بالتاموكسيفين قد وقعت بينها حالات من سرطان الثدي أقل بنسبة 45% مما وقع في المجموعة الأخرى التي لم تُعْطَ هذا العقار، ولهذا قرر القائمون على الدراسة وَقْفها بعد أربع سنوات بدلا من السنوات الخمس التي كانت مقررة لها، وأعطوا المجموعة الأخرى العقار تاموكسيفين لما ثبت من فائدته.

ولأن الأطباء يمكنهم أن يصفوا أي دواء مطروح في الأسواق لأي غرض يرونه مناسبا، فقد بدءوا بوصف التاموكسيفين لمريضات معينات رؤوا أن مخاطر الإصابة لديهن تماثل مخاطر الإصابة لدى النساء اللاتي خضعن للتجربة السابقة. وقد تبين أن هؤلاء المريضات كن معرضات لخطر الإصابة بالسرطان أكثر بأربع مرات من النساء الأخريات في المجموعة العمرية نفسها في المجتمع.

وبصرف النظر عما إذا كان القلق من التأثير الجانبي للتاموكسيفين في الرحم مبالغا فيه أو لا، فإن حقيقة أن العقار يمكنه أن يزيد القابلية للإصابة بسرطان الرحم تعني أنه لا يمكن استخدامه للوقاية من سرطان الثدي في نساء ليست لديهن قابلية واضحة للإصابة بسرطان الرحم (ربما إلا في النساء اللواتي استؤصلت أرحامهن لأسباب أخرى)، حتى ولو كان احتمال إصابتهن بسرطان الرحم ضعيفا، وحتى لو أن بعضًا منهن سوف يصاب بالتأكيد بسرطان الثدي.

وبينما كنت أفكر فيما إذا كانت أية مادة أخرى قد تكون أكثر أمانا في الاستعمال العام، تبينت أن أي مركب أقل خطورة يُعتقد بقدرته على الوقاية من سرطان الثدي قد يمكن إتاحته للمجتمع العام بسرعة إذا كانت له فوائد طبية في مجالات أخرى. ويمكن للباحثين ـ حينئذ ـ أن يختبروا فاعلية العقار في المجالات الأخرى من دون الاقتصار على المريضات ذوات الاستعداد المؤكد والموثّق للإصابة بسرطان الثدي، ومن دون الحاجة إلى الانتظار سنوات عديدة حتى يتنامى السرطان في المجموعات التي تلقت العلاج، وتلك التي تلقت علاجا غُفْلاً. ومع مرور الوقت نستطيع أن نتحقق من قدرة هذا العقار على الوقاية من سرطان الثدي.

وبحلول عام 1990 بيّن گوتارديس أن العقار رالوكسيفين ـ الذي كان يعرف من قبل أنه يحافظ على العظام في الفئران ـ يمكنه أن يقي من سرطاني الثدي والرحم في القوارض. ثم أكد باحثون سريريون أن التاموكسيفين الذي يسلك إلى حد بعيد سلوك الرالوكسيفين يمكنه أيضا أن يقلل من نسبة الكولستيرول LDL في النساء. وقد دلت هذه النتائج مجتمعة على أن الرالوكسيفين أو مماثلاته من المركبات SERMs يمكن أن تقدم فوائد طويلة الأمد كعلاجات تعويضية عن الإستروجين (لحماية العظام والقلب) من دون تعريض المريضات لخطر الإصابة بالسرطان.

نظرة على صحة النساء بعد الإياس
بناء على ذلك فقد دعوتُ شركات تصنيع الدواء لتطوير عقاقير تستهدف الوقاية من ترقق العظام أو من النوبات القلبية أو من كليهما معا في النساء بعد سن الإياس، مع فائدة إضافية هي الوقاية من سرطانات الثدي والرحم. وقد أطلقنا على هذا الأسلوب من العلاج اسم «استراتيجية حصان طروادة»؛ لأن العقار سيسري في الجسم ليعمل ظاهريا عملا واحدا محددا، وَلْنَقُلْ مثلا: إنه مقاومة ترقق العظام، ولكنه في الوقت نفسه يقوم بمهام أخرى سرية.

وقد استجاب عدد من الشركات لدعوتي هذه، وأدت الجهود ـ قبل أقل من عام مضى ـ إلى إجازة استخدام عقار الرالوكسيفين من أجل المحافظة على كثافة العظام وعدم ترققها في النساء بعد سن الإياس، ومن خلال التجارب التي أجريت على البشر، وجدنا دلائل تؤيد احتمال أن يقي العقار من السرطان وأن يفي بالمعايير الأخرى التي كنا قد وضعناها عام 1990.

وخلال الربيع المنصرم (1998)، على سبيل المثال، تبين أن إعطاء الرالوكسيفين للنساء بعد سن الإياس يقلل من نسبة الكولستيرول LDL «السيئ» من دون أن يقلل من نسبة الكولستيرول HDL «الجيد»، ولذا فإنه ربما يقلل أيضا من معدل النوبات القلبية. وهناك دلائل أخرى مهمة من دراسات ركزت على ترقق العظام وأفادت أن العقار ربما يستطيع أن يقي من سرطان الثدي في الفئة نفسها من النساء، خافضا معدل حدوثه بنحو 50%. كما بينت دراسات سريرية محدودة عدم حدوث نشاط شبه إستروجيني مقلق في الرحم بعد تعاطي العقار، ولكن هذا التأثير لايزال يلزمه المزيد من التقييم.

وعلى الرغم من كل ما ذكرناه فإن الرالوكسيفين لايزال عقارًا غير مثالي. فهو مثل التاموكسيفين والمعالجات التعويضية عن الإستروجين يزيد من معدل حدوث جلطات الدم في الأوردة، ولاتزال تدور حوله عدة أسئلة ليس لها جواب حتى الآن. وعلى الأطباء السريريين أن يبينوا ما إذا كان الرالوكسيفين يظل فعالا وآمنا إلى ما لانهاية، وما إذا كان ناجحا ويضارع الإستروجين في الوقاية من ترقق العظام، وكذلك ما إذا كان يعمل مضادًا للإستروجين في مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة، على الرغم من أنه ليست هناك مؤشرات إلى أنه ـ هو أو التاموكسيفين ـ يتلف الذاكرة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن التجارب التي أجريت على بعض البشر وعلى الحيوانات أظهرت دلائل دعمت فكرة أن الرالوكسيفين يمكن أن يقلل معدل حدوث نوبات القلب وسرطان الرحم في النساء اللواتي انقطعت عندهن الإباضة، فإن الأطباء تنقصهم بيانات مؤكدة بهذا الشأن. وفيما يتعلق بفائدة الرالوكسيفين في الوقاية من أمراض القلب فتُجرى عليه حاليا تجربة تشمل عشرة آلاف امرأة من المعرضات بشدة للإصابة بأمراض الشرايين القلبية. ومن المتوقع أن تبدأ نتائج هذه التجربة في الظهور خلال ست أو سبع سنوات، وسوف توفر لنا تلك التجربة أيضا بيانات عن معدل حدوث سرطان الثدي.

وعلينا ألا نستغرب تواصل البحوث للكشف عن فوائد استخدام الرالوكسيفين في النساء بعد سن الإياس بشكل عام؛ لأن العلماء مازالوا راغبين في معرفة ما إذا كان العقار فعالا، وما إذا كان مأمونا أكثر من التاموكسيفين، وبالتحديد في الوقاية من الأورام في النساء المعرضات بشدة لسرطان الثدي. وفضلا عن هذا كله فإن تأثير الرالوكسيفين في معظم الأنسجة يشبه تأثير التاموكسيفين ما عدا غياب تأثيرات الرالوكسيفين غير المرغوبة في تحريض بطانة الرحم على النمو السرطاني. وتُجرى حاليا مقارنة مباشرة حول تأثير هذين العقارين في النساء بعد سن الإياس المعرضات بشدة لسرطان الثدي. وهذه التجربة التي أطلق عليها اسم Study of Tamoxifen and Raloxifene STAR تُجرى في المعهد القومي للسرطان وتشمل000 22 مريضة وسوف تستغرق ما بين خمس وعشر سنوات.

وهناك الجديد من المركبات SERMs على الطريق، ونتوقع أن النساء وأطباءهن سوف يمكنهم يوما ما أن يختاروا من بين عدة بدائل لمعالجات تعويض الإستروجين(7) والوقاية من السرطان على أساس طبيعة الأخطار عند كل مريضة على حدة.

وبينما تستمر الدراسات حول هذه المركبات، فإن الجهود تتقدم أيضا لتحسين عقاقير مشتقة من المركبات SERMs لمعالجة السرطان؛ فقد يغدو سرطان الثدي أحيانا مقاوما للتاموكسيفين ولا يستجيب له. ويرغب القائمون على أبحاث السرطان أن يعرفوا كيف تحدث هذه المقاومة للدواء لكي يستطيعوا إيجاد طرق للتغلب عليها. وفي السنوات الماضية كشف فريقي البحثي (في جامعة نورث ويسترن Northwestern) النقاب عن واحدة ـ وإن كانت نادرة ـ من تلك الآليات التي يقاوم بها الورم ذلك العقار: فقد وجدنا أن استبدال مكوِّن ضئيل(8) ـ حمض أميني واحد ـ في مستقبلة الإستروجين يجعل المستقبلات الموجودة في خلايا سرطان الثدي تسلك السلوك نفسه كما لو كانت مقترنة بالإستروجين المحرض، حتى وهي مرتبطة بالتاموكسيفين المثبط [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 46 و 47].

وفي بعض الحالات وجدنا أن الأورام المقاومة للتاموكسيفين تستجيب للأدوية التي لها مفعول خالص ضد الإستروجين وليس لها أي نشاط إستروجيني. وهذه الأدوية تستخدم ملاذًا أخيرا لأنها (كما كان الأمر مع التاموكسيفين) تحاصر عمل الإستروجين حيثما وجدته سواء في العظام أو في الكبد، على الرغم من أن وجود الإستروجين في هذه المواقع مطلوب. وكما أن عددًا من المركبات SERMs يجرى تقييمها علاجا تعويضيا عن الإستروجين، فإن مضادات إستروجينية خالصة يُجرى تطويرها علاجا جديدا للسرطان.

وهكذا، فقد حدثت خلال العشرين سنة الأخيرة ثورة حقيقية في تحسن المستوى الصحي للنساء. فقد حافظ التاموكسيفين ـ وهو أول ما عُرف من المركبات SERMs ـ على ملايين الأرواح من خلال تأثيره المضاد للإستروجين في خلايا سرطان الثدي، وبعد أن كان يعامل على أنه مضاد للإستروجين فحسب، فإن تعرّف تأثيراته الإستروجينية الأخرى قد دفعت إلى دراسة بعض المركبات SERMs التي لها تأثيرات مضادة للإستروجين في بعض الأنسجة وتأثيرات إستروجينية في بعضها الآخر. وقد أدى تقييم هذه المركبات، ولا سيما الرالوكسيفين، إلى التنبؤ بإمكانيتها في أن تقي العديد من النساء من خطر الإصابة بترقق العظام وأمراض القلب وسرطان الثدي وسرطان بطانة الرحم. واليوم هناك إشارات قوية إلى قرب تحقق هذه التنبؤات.


 المؤلف
V. Craig Jordan
يوصف بأنه القوة المحركة لتطوير العقار تاموكسيفين. وقد حصل على الدكتوراه في الأقرباذين pharmacology من جامعة ليدز في بريطانيا. ويعمل حاليا مديرا لبرنامج Lynn Sage لأبحاث سرطان الثدي بالمركز الشامل للسرطان في جامعة نورث ويسترن بشيكاگو. وهو أيضا المدير العلمي للاختبار (STAR) الذي يدرس قدرة العقارين تاموكسيفين ورالوكسيفين على الوقاية من سرطان الثدي. ويرجع إليه وإلى زملائه الفضل في فكرة أن التعديل الانتقائي لمستقبلات الإستروجين يمكن أن يحمي صحة النساء. وقد حصل المؤلف على عدة جوائز عالمية تقديرا لأعماله على العقار تاموكسيفين، أشهرها الجائزة كاميرون التي جرت العادة منذ عام 1879 أن تمنح لكبار العلماء في الطب.


مراجع للاستزادة 
CONTRASTING ACTIONS OF TAMOXIFEN ON ENDOMETRIAL AND BREAST TUMOR GROWTH IN THE ATHYMIC MOUSE. M. M. Gottardis, S. E Robinson, P. G. Satyaswaroop and V. Craig Jordan in Cancer Research, Vol. 48, No. 4, pages 812-815; February 15, 1988.
TAMOXIFEN: A GUIDE FOR CLINICIANS AND PATIENTS. V. Craig Jordan. PRR, Huntington, N. Y.,1996.
TAMOXIFEN: THE HERALD OF A NEW ERA OF PREVENTIVE THERAPEUTICS. V. Craig Jordan in Journal of the National Cancer Institute, Vol. 89, No. 11, pages 747-749; June 4, 1997.
BASIC GUIDE TO THE MECHANISMS OF ANTIESTROGEN ACTION. Jennifer I. MacGregor and V. Craig Jordan in Pharmacological Reviews, Vol. 50, No. 2, pages 151-196; June 1998.
Scientific American, October 1998
 

(*)Designer Estrogens
(1) ويقال أيضا تخلخل العظام ومَسَامِيّة العظام؛ وهو حدوث هشاشة في العظم تضعف مقاومته للكسور، ويصيب النساء بعد سن الإياس.
(2) الذي يصيب بطانة الرحم. (التحرير)
(3) synthetic form
(4) (المواد المسرطنة) carcinogens.
(5) النقيلة metastasis هي انتشار خلايا ورم خبيث من بؤرته الأصلية في الجسم إلى بؤرة أخرى، عبر الأوعية الدموية أو الأوعية اللمفية.
(6) fire blanket. (التحرير)
(7) estrogen replacement therapy.
(8) tiny component.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق