Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

التطور وأصول الأمراض

التطور وأصول الأمراض(*)
أخيرا بدأت أسس علم التطور عن طريق
الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي في إثراء الطب.
<M .R. نيس> ـ <C .G. ويليامز>

القيود
مثال: يؤدي تصميم العين البشرية إلى تشكل بقعة (لُطْخَة) عمياء، كما يسمح بحصول انفصال في الشبكية؛ أما عين الحبّار فتخلو من هذه المشكلات.
الدفاعات
مثال: لا تُعَدُّ بعض الأعراض كالسعال والحمى عيوبا، ولكنها تمثل في الواقع دفاعات الجسم في طور العمل.
المقايضات
مثال: إن الإفراط في تصميم أحد أجهزة الجسم، مثل زوج من السواعد غير القابلة للكسر، سوف يفسد عمل الجسم بكامله.
الصراعات
مثال: يعيش الإنسان في صراع مستمر مع الكائنات الحية الأخرى التي عدّلها التطور بدقة.
البيئات الجديدة
مثال: لقد اختار الإنسان حديثًا بيئته الحالية المليئة بالأشياء التي كانت نادرة في الماضي كالأغذية الغنية بالدسم.

إن التأمل العميق في جسم الإنسان يثير في النفس قدرا متساويا من الروعة والحيرة. فالعين مثلا كانت دائما مثارا للعجب؛ إذ إن الأنسجة الحية الشفافة لقرنيتها مقوسة بالقدر المطلوب تماما، وقزحيتها متكيفة مع شدة الضوء، وعدستها متكيفة مع المسافات بحيث تتجمع الكمية المثلى من الضوء على سطح الشبكية تماما. ولكن إعجابنا بهذا الكمال الظاهري لا يلبث أن يفسح المجال لشيء من الرعب، ذلك أنه خلافا لأي تصميم معقول تخترق الأوعية الدموية والأعصاب باطن الشبكية مُشكِّلة بقعة عمياء blind spot في مكان خروجها.

ويتضمن الجسم مجموعة من مثل هذه التناقضات المزعجة. فمقابل كل صمام (دسّام) قلبي رائع لدينا ضرس للعقل. وأشرطة الدنا DNA توجه تنامي development التريليونات العشرة من الخلايا التي تشكل جسم الإنسان البالغ، ولكنها بعد ذلك تسمح بتدهوره المستمر ثم موته في نهاية الأمر. ويستطيع جهازنا المناعي تعرّف مليون صنف من المواد الغريبة وتخريبها، ومع ذلك هناك العديد من البكتيريا التي تستطيع القضاء على حياتنا.

والواقع إن هذه التناقضات الظاهرية تبدو معقولة فقط عندما نستقصي الأسباب الكامنة وراء قابلية الجسم للتأذي، متذكرين دائما ما قاله عالم الوراثة المشهور <تيودوسيوس دوبزانسكي> وهو أنه: «لا يوجد شيء معقول في مجال البيولوجيا إلا إذا نُظر إليه على ضوء علم التطور». ولا ريب في أن البيولوجيا التطورية هي الأساس العلمي لكل البيولوجيا، وأن البيولوجيا هي الأساس لجميع العلوم الطبية. ومع ذلك فمن المستغرب حقا أن البيولوجيا التطورية لم يُعترف بها كأحد العلوم الطبية الأساسية إلا منذ وقت قريب. وقد دُعي المشروع الذي يرمي إلى دراسة المشكلات الطبية في سياقها التطوري «الطب الدارويني». وتسعى معظم الأبحاث الطبية إلى شرح الأسباب التي تؤدي إلى إصابة شخص ما بالمرض، وتبحث عن العلاجات التي تشفي الحالات المرضية وتخفف من أعراضها. وتعتمد هذه الجهود تقليديا على دراسة القضايا القريبة، أي الدراسة المباشرة لتشريح الجسم وآلياته الفيزيولوجية في وضعها الحالي. وفي مقابل ذلك يتساءل الطب الدارويني لماذا صُمم جسم الإنسان بالشكل الذي يجعلنا جميعا عرضة للإصابة ببعض الأمراض كالسرطان وتصلب الشرايين والاكتئاب والاختناق، وهو بهذا يوفر مجالا أكثر اتساعا لإجراء البحوث العلمية.

يعاني الإنسان آلاما كثيرة لا مبرر لها، إلا أن ذلك أمر لا يمكن تجنبه بسبب طبيعة دفاعاتنا القائمة على مبدأ «كاشف الدخان». إن كلفة إنذار خطأ ـ مثل القُيَاء (الاستفراغ) الذي يحدث في غياب خطر حقيقي يهدد الحياة ـ قد تكون الانزعاج العابر، إلا أن ثمن عدم الإنذار قد يكون الموت، وذلك عندما يوجد خطر حقيقي يهدد الحياة كالذيفانات الغذائية (التسمم الغذائي). وإن انعدام الاستجابة الدفاعية أثناء الحمل مثلا قد يؤدي إلى موت الجنين.

من المدهش حقا أن التفسيرات التطورية لحالات الخلل التي تصيب الجسم تقع ضمن عدد قليل من الفئات. أولا، بعض الحالات المزعجة مثل الألم والحمى والسعال والقياء والقلق التي لا تعد في الواقع أمراضا وعيوبا في التصميم، وإنما هي وسائل دفاعية تم تطويرها. وثانيا، تعتبر الصراعات مع الكائنات الحية ـ مثل الإشريكية القولونية E. coli والتماسيح ـ من حقائق الحياة. وثالثا، إن بعض الظروف الخاصة مثل التوافر السهل للدهون الغذائية، إنما وقع حديثا جدا بحيث لم تُتَح الفرصة أمام سيرورة الانتقاء الطبيعي للتعامل معه. ورابعا، قد يقع الجسم ضحية الموازنة بين فوائد بعض الصفات (الخلات) traits ومضارها، والمثال الذي تورده المراجع على ذلك هو جينة (مورِّثة) gene الخلايا المنجلية المسببة لفقر الدم المنجلي والتي تقي في الوقت نفسه من الملاريا. وأخيرا، فإن سيرورة الانتقاء الطبيعي مقيدة بطرق تفرض علينا سمات في التصميم لا تبلغ الحد الأمثل، ومثال ذلك عيون الثدييات.

الدفاعات المتطورة
وقد يكون السعال الآلية الدفاعية الأكثر وضوحا وفائدة، فالأشخاص الذين لا يستطيعون تخليص رئاتهم من المواد الغريبة يتعرضون للموت بالتهابات الرئة. كما أن القدرة على التألم ذات فائدة كبيرة، فالأشخاص النادرون الذين لا يستطيعون الإحساس بالألم، لا يشعرون حتى بالانزعاج بعد البقاء مدة طويلة في وضعية واحدة. علما أن ثباتهم غير الطبيعي على وضع واحد يضعف التروية الدموية لمفاصلهم، مما يؤدي إلى تلفها في نهاية الأمر. وهؤلاء الأشخاص الذين لا يشعرون بالألم يموتون عادة في سن البلوغ المبكر بسبب تلف الأنسجة وإصابتها بالعدوى (الخمج). ويُعَدُّ كل من السعال والألم في العادة مرضا ورَضْحًا (أذى) trauma، والواقع أنهما يشكلان جزءا من حل مشكلة قائمة وليسا سببا لها. وتبقى هذه القدرات الدفاعية، التي تشكلت عن طريق الانتقاء الطبيعي، بحالة احتياط لاستخدامها عند الحاجة إليها.

ومن الوسائل الدفاعية الأخرى التي لا يتعرّفها الجميع الحمى والغثيان والقُياء والإسهال والقلق والتعب والعطاس والالتهاب، حتى إن هناك بعض الأطباء الذين لا يدركون فائدة الحمى. فالحمى ليست مجرد زيادة في معدل الاستقلاب (الأيض) وإنما هي ارتفاع مقنّن بدقة عن النقطة التي تُضبط عندها حرارة الجسم. إن ارتفاع حرارة الجسم يسهل تخريب المُمْرِضات (العوامل الممرضة). وقد بينت أبحاث <J .M. كلوگر> من (معهد لَڤليس في نيومكسيكو) أن العظاءة (السحلية) ذات الدم البارد عندما تصاب بالعدوى تنتقل إلى أماكن أكثر دفئا إلى أن ترتفع حرارة جسمها بضع درجات فوق حدها المعتاد. وإذا مُنعت هذه الحيوانات من الانتقال إلى الأجزاء الدافئة من أقفاصها أصبحت أكثر عرضة للموت بفعل العدوى. وفي دراسة مماثلة قامت بها <E. ساتينوف> (من جامعة ديلاوير) اتضح أن الجرذان المسنّة التي لا تستطيع رفع حرارة أجسامها كما تفعل مثيلاتها من الجرذان الفتية، كانت تذهب بالفطرة إلى البيئات الأشد حرارة عند إصابتها بالعداوي.

ويعد انخفاض مستوى الحديد في الدم آلية دفاعية أخرى لم تُفهم بشكل صحيح؛ إذ ينخفض مستوى الحديد عادة في دم الأشخاص المصابين بعدوى مزمنة. ويُتّهم انخفاض الحديد أحيانا بأنه سبب المرض، إلا أن هذا الانخفاض هو في الواقع استجابة وقائية: فالحديد يُحتجز في الكبد أثناء العدوى مما يمنع البكتيريا الغازية من التزود بكمية كافية من هذا العنصر الحيوي.

وطال ما اعتُبِر الغثيان الصباحي أحد التأثيرات الجانبية غير السارة للحمل. فالغثيان يتزامن مع فترة التمايز السريع لأنسجة الجنين عندما يكون تناميها أكثر قابلية للعطب بفعل الذيفانات (التوكسينات). وتميل المرأة المصابة بالغثيان إلى الحد مما تتناوله من المواد القوية الطعم التي يحتمل أن تكون لها تأثيرات ضارة. وقد دعت هذه الملاحظات الباحثةَ المستقلة <M. پروفيت> إلى الافتراض بأن غثيان الحمل ما هو إلا نوع من التكيف تحمي الأم بوساطته جنينها من التعرض للذيفانات. وقد اختبرت پروفيت صحة هذه الفرضية عن طريق فحص نتائج الحمل، واتضح لها أن النساء الأكثر إصابة بالغثيان هن الأقل تعرضا للإجهاض. (تدعم هذه البيّنة الفرضيةَ الآنفة الذكر إلا أنها لا تؤكدها بصفة قاطعة. وإذا صح ما تقوله پروفيت فإن المزيد من الأبحاث ينبغي أن يكشف أن الإناث الحوامل من مختلف الأنواع الحيوانية يُبدين تبدلات في خياراتهن من الطعام. كما أن نظريتها تنبئ أيضا بوجود زيادة في العيوب الولادية بين النساء اللاتي لا يصبن بالغثيان الصباحي وكانت إصابتهن به خفيفة مما يسمح لهن بتناول تشكيلة أوسع من الأطعمة أثناء الحمل).

والقلق حالة شائعة من الواضح أنها نشأت كوسيلة دفاعية في المواقف الخطرة عن طريق تشجيع الكائنات على الهرب وتجنب المواجهة. وفي عام 1992 قام <A .L. دوگاتكين> (من جامعة لويزفيل) بإجراء دراسة لتقويم فوائد الخوف عند نوع من سمك الزينة المسمى guppies، وقد صنّف دوگاتكين هذه الأسماك في ثلاث فئات: فئة جبانة وفئة عادية وفئة جريئة، وذلك استنادا إلى سلوكها عند مواجهة سمك ذئب البحر smallmouth bass. فالأسماك الجبانة اختبأت، في حين ابتعدت الأسماك العادية، أما الأسماك الجريئة فقد ظلّت في مكانها تحدق في سمكة ذئب البحر. بعد ذلك تم وضع أفراد كل فئة من الأسماك في حوض مستقل مع سمكة ذئب البحر. ثم بعد مضي ستين ساعة فُحصت الأحواض فتبيّن أن أربعين في المئة من الأسماك الجبانة بقي على قيد الحياة، في حين بقي خمسة عشر في المئة فقط من الأسماك العادية. أما الأسماك الجريئة فقد قُضِي عليها جميعا، وبذلك ساعدت على نقل جينات (مورثات) سمكة ذئب البحر بدلا من نقل مورثاتها هي.

إن الانتقاء الطبيعي للجينات التي تحفِّز سلوك القلق يقتضي ضمنا وجود أشخاص يعانون قلقا مفرطا، وهو أمر صحيح في الواقع. وفي المقابل يجب أن يكون هناك أشخاص أقل شعورا بالخوف ولا يحسون بقدر كاف من القلق؛ إما بسبب نزعاتهم الوراثية وبسبب تناولهم الأدوية التي تبدد القلق. لا نعرف بالضبط طبيعة هذه المتلازمة syndrome ومدى تواترها؛ لأن قليلا من الناس يرون في عدم الشعور بالخوف مدعاة لزيارة الأطباء النفسيين. إلا أن هؤلاء الأشخاص، الذين يعانون حالة عدم قلق مَرَضية، يمكن مشاهدتهم في السجون وغرف الإسعاف وطوابير العاطلين عن العمل.

إن فوائد بعض الحالات الشائعة والمزعجة مثل الإسهال والحمى والقلق ليست أمرا بديهيا. فإذا كان الانتقاء الطبيعي هو الذي يُحدِّد الآليات التي تنظِّم الاستجابات الدفاعية، فكيف يمكن للإنسان إذًا أن ينجو من العواقب السيئة الناجمة عن استعمال أدوية تعيق عمل هذه الدفاعات...؟ إن جزءا من الإجابة عن هذا السؤال هو أننا في الواقع نسيء إلى أنفسنا بإقدامنا على تعطيل هذه الدفاعات.

لقد درس كل من <L .H. دوپون> (من جامعة تكساس في هيوستن) و<B .R. هورنيك> (من المركز الطبي الإقليمي في أورلاندو) الإسهال الناجم عن العدوى بالشيگيلا Shigella 1 ، ووجدا أن الأشخاص الذين يتناولون الأدوية المضادة للإسهال استمر مرضهم مدة أطول، وكانوا أكثر عرضة للمضاعفات من أولئك الذين تناولوا الدواء الغُفْل. وهناك مثال آخر يقدمه <D .E. واينبيرگ> (من جامعة إنديانا)، فقد بيّن هذا الباحث أن المحاولات الجادة التي جرت في بعض مناطق إفريقيا لإصلاح عوز الحديد أدت إلى زيادة الأمراض المعدية ولا سيما الزحار الأميبي. ومع أنه من غير المحتمل أن يؤدي إعطاء جرعات إضافية من الحديد عن طريق الفم إلى حدوث أضرار لدى الأشخاص الأصحاء الذين يصابون بالعداوي الاعتيادية، فإن إعطاءه قد يؤذي بشدة الأشخاص المصابين بالعدوى مع سوء التغذية؛ إذ لا يستطيع هؤلاء الأشخاص تكوين كمية كافية من البروتين لربط الحديد الذي يبقى حرا تستعمله الأحياء الممرضة.

وفيما يخص الغثيان الصباحي، اتُهم أحد الأدوية المضادة للغثيان حديثا بإحداث عيوب ولادية. ويبدو أنه لم يؤخذ في الاعتبار إمكانية أن يكون الدواء في حد ذاته غير ضار بالجنين، ومع ذلك فقد يترافق استعماله بحدوث عيوب ولادية بسبب مقاومته لغثيان الأمّ الصباحي.

تطور فوعة (ضراوة) المُمْرضات
ترتبط التبدلات في فوعة المُمْرِضات بتاريخ حياة العامل المعدي وطريقة انتقاله. وقد أوضح <P. إيوالد> (من كلية أمهيرست) أن العدوى التي تتطلب التّماس المباشر تقود العامل الممرض عادة إلى حالة من الفوعة الضعيفة، لأن العائل (الثوي) يجب أن يبقى قادرا على الحركة مما يسمح له بالتآثر (التفاعل) مع الآخرين. أما الوسيطات التي تقوم بنشر المُمْرِضات، ولو كان ذلك نقلا من العائلين العاجزين تماما، فإنها قد تسبب اشتداد فوعة العامل الممرض. كما أن خياراتنا السلوكية، مثل العلاقات الجنسية الآمنة، قد تُحْدِث تغييرا في بنية العامل الممرض.
أسباب الانتقال من شخص إلى آخر
(العُطاس، السعال، اللمس)
الاتصال الجنسي الأحادي و/أو
الاتصال الجنسي مع اتخاذ تدابير وقائية
الوسيطات التي تنقل المرض
(البعوض، أيدي العاملين في الرعاية الصحية،
المياه غير النظيفة)
تعدد الشركاء الجنسيين و/أو الاتصالات الجنسية
من دون اتخاذ تدابير وقائية

وهناك عقبة أخرى تعترض إدراك فوائد وسائل الدفاع الآنفة الذكر، وهي ما لوحظ من أن كثيرا من الأشخاص يعانون بشكل منتظم مما يبدو أنه ارتكاسات عديمة الأهمية من القلق والألم والحمى والإسهال والغثيان. ويتطلب تفسير ذلك تحليلا لكيفية تنظيم الاستجابات الدفاعية على ضوء نظرية «كشف الإشارات» signal-detection. وقد يأتي الذيفان (السم) الذي يجول في الجسم من شيء ما في المعدة. ويمكن للكائن الحي أن يطرد الذيفان من المعدة عن طريق القُياء، ولكن مع تحمل النتائج. ويكلف الإنذار الخطأ، أي القياء عندما تخلو المعدة في الواقع من الذيفان، فقدان قليل من السعرات الحرارية (الكالوريّات). أما الإخفاق في كشف إنذار حقيقي واحد وما ينجم عنه من عدم حدوث القياء على الرغم من وجود الذيفان في المعدة فقد تكون نتيجته الموت.

ويميل الانتقاء الطبيعي إلى أن يصوغ الآليات التنظيمية بوساطة زنادات (قادحات) بالغة الحساسية hair triggers 2 ، وذلك وفقا لمبدأ «كاشفات الدخان» smoke detectors. إن نذيرات الدخان smoke alarms التي يُعوَّل عليها لإيقاظ أفراد العائلة النائمين في حالة حدوث الحريق ستعطي إنذارا خطأ في كل مرة تحترق فيها شرائح الخبز. ويحتوي جسم الإنسان العديد من «نذيرات الدخان»، مما يسبب له الكثير من الآلام التي تكون في معظم الحالات غير ضرورية. ويفسر لنا هذا المبدأ أيضا لماذا يكون إحصار الدفاعات عند الإنسان خاليا في أغلب الأحيان من النتائج الفاجعة. ولمّا كانت معظم الارتكاسات الدفاعية تُحدث استجابة لأخطار قليلة الأهمية، فإن إحصارها يكون عادة غير مؤذ. فالغالبية العظمى من الإنذارات التي تتوقف عندما تنزع البطارية من «نذير الدخان» هي في الواقع إنذارات خطأ، لذلك فإن هذه الاستراتيجية تبدو معقولة، إلى أن يحدث حريق حقيقي.

الصراع مع الكائنات الحية الأخرى
لا يستطيع الانتقاء الطبيعي تزويدنا بحماية تامة من جميع المُمْرضات؛ لأن هذه الكائنات تتطور بسرعة أكبر بكثير مما يفعله الإنسان. فالإشريكيات القولونية بما تتمتع به من سرعة فائقة على التوالد تملك من القدرة على التطفر والانتقاء في يوم واحد ما يملكه الإنسان في ألف عام. كما أن دفاعاتنا ـ سواء كانت طبيعية وصنعية ـ تساعد على تعزيز قدرات الانتقاء (الانتخاب). فالممرضات إما أن تُطوّر بسرعة وسائل دفاعية معاكسة وأنها تنقرض. وقد اقترح البيولوجي <W .P. إيوالد> (من كلية أمهيرست) تصنيف الظواهر المرافقة للعدوى بحسب ما إذا كانت مفيدة للعائل (الثوي) وللمُمْرِض ولكليهما وأنها لا تفيد أيا من الطرفين. لنأخذ مثلا السيلان الأنفي المرافق للزكام؛ إذ تستطيع مُفْرَزات الأنف المخاطية طرد العناصر الدخيلة، كما أنها تُسرّع انتقال المُمْرِضات إلى أشخاص أصحاء، وأنها تفعل الأمرين معا. وتستطيع الدراسات أن تبيّن ما إذا كان إحصار (إعاقة) المفرزات الأنفية يقصّر مدة المرض ويطيلها، إلا أنه قليلا ما أجريت مثل هذه الدراسات.

لقد انتصرت البشرية في معارك ضخمة ضد الممرضات باكتشافها المضادات (الصادات) الحيوية واللقاحات. وقد كانت انتصاراتها سريعة وتامة ظاهريا لدرجة أن كبير أطباء الولايات المتحدة <وليام ستيوارت> صرّح عام 1969 قائلا: «آن الأوان لإغلاق ملف الأمراض المعدية». وكان ذلك استخفافا بالعدو وبقدرات الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي. والحقيقة إن الممرضات تستطيع على ما يبدو التكيف مع كل مادة كيميائية يطورها الباحثون. «لقد كُسبت الحرب ولكن من قبل العدو»، هذا ما قاله بسخرية أحد العلماء.

إن مقاومة المضادات الحيوية بيان كلاسيكي للانتقاء الطبيعي. إن البكتيريا التي تمتلك جينات تسمح لها بالازدهار على الرغم من وجود المضادات الحيوية، تتوالد بسرعة أكبر من غيرها، وهكذا فالجينات التي تمنحها المقاومة تنتشر بسرعة. وقد بيَّن <J. لديربرگ> (من جامعة روكيفيلّر، الحائز جائزة نوبل) أن هذه الجينات تستطيع أن تقفز إلى أنواع أخرى من البكتيريا محمولة على قطع من الدنا المُعْدَى. وحاليا هناك في نيويورك بعض ذراري العصيات السُّلِّية المقاومة للمضادات الحيوية الثلاثة الرئيسية المستخدمة في معالجة السل (التدرن)، وإن المصابين بإحدى هذه الذراري ليس لهم حظ في البُقْيا أفضل من حظ أولئك الذين أصيبوا بالسُّل قبل قرن من الزمن. وقد لاحظ <S .S. مورْس> (من جامعة كولومبيا) أن الذرية المقاومة لعدة أدوية والتي انتشرت في كل الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة قد يكون منشؤها ملجأ للمشردين يقع في شارع قريب من المركز الطبي لجامعة كولومبيا. إن مثل هذه الظاهرة أمر يمكن التنبؤ به في بيئة يعمل فيها الانتقاء الطبيعي الشديد على التخلص السريع من الذراري الأقل قدرة على التحمل. أما العصيات الباقية على قيد الحياة فقد نُشِّئت على المقاومة.

تجلب البيئات الجديدة أخطارا صحية جديدة
الأخطار الصحية الشائعة منذ عشرين ألف سنة قبل الميلاد وحتى الأزمنة الحديثة
الحوادث الطارئة
المجاعة
الافتراس
الأمراض المُعدية
الأخطار الصحية الشائعة اليوم (في المجتمعات المتقدمة تقنيا)
النوبات القلبية، السكتات الدماغية، والمضاعفات الأخرى للتصلب الشرياني
السرطان
الأمراض المزمنة الأخرى المرتبطة بأسلوب الحياة وتطاول العمر
الداء السكري غير المرتبط بالأنسولين
البدانة
الأمراض المُعْدية الجديدة
 

مازال الكثير من الناس ومن بينهم بعض العلماء والأطباء يؤمنون بالنظرية القديمة القائلة بأن الممرضات لا بد أن تصبح حميدة (غير خبيثة وغير مؤذية) بعد ارتباطها المديد بالعائل. ظاهريا يبدو هذا القول معقولا، فالكائنات الحية التي تقتل العائل بسرعة قد لا تستطيع أبدا الانتقال إلى عائل جديد، وهكذا يبدو أن الانتقاء الطبيعي يحبذ الفوعات الأضعف. فالداء الإفرنجي (السفلس) مثلا كان مرضا شديد الفوعة عندما وصل إلى أوروبا أول مرة، ثم تناقصت حدته باستمرار بعد مرور عدة قرون من الزمن. ومع ذلك فإن فوعة الممرضات سمة مرتبطة بتاريخ حياة هذه الكائنات الحية. ويمكن لهذه الفوعة أن تزيد وتنقص، ويحدِّد ذلك أيُّ الخيارين أكثر ملاءمة لجيناتها.

وبالنسبة إلى المُمْرِضات (العوامل الممرضة) التي تنتقل مباشرة من شخص إلى آخر فإن الفوعة الضعيفة قد تكون ذات فائدة؛ لأنها تسمح للعائل بالاحتفاظ بنشاطه والبقاء على اتصال بعوائل أخرى محتملة. ولكن بعض الأمراض مثل الملاريا، تنتقل بنفس القوة، وربما بشكل أفضل، من المرضى الذين أقعدهم المرض. وقد تمنح الفوعة الشديدة ميّزة انتقائية لمثل هذه الممرضات التي تعتمد في انتقالاتها عادة على نواقل وسيطة مثل البعوض. ويحمل هذا المبدأ مضامين مباشرة فيما يتعلق بالسيطرة على العداوي في المستشفيات، حيث يمكن أن تقوم أيدي العاملين هناك بدور الناقل، ما يؤدي إلى انتقاء ذرارٍ من الممرضات أشد فوعة.

وفي حالة الكوليرا (الهيضة) تؤدي مصادر المياه العامة دور البعوض. فعندما تتلوث مياه الشرب والاستحمام بفضلات المرضى المقعدين، يؤدي الانتقاء إلى زيادة الفوعة لأن اشتداد الإسهال يعزز انتشار الممرضات حتى لو مات العائل بسرعة. وقد بين إيوالد أنه عندما يرتقي التصحاح(3) sanitation يعاكس الانتقاء بكتيريا ضُمَّات الكوليرا vibrio cholerae التقليدية لمصلحة النمط الحيوي الأقل فوعة والمسمى «الطور» El Tor. وفي مثل هذه الحالات يعتبر العائل الميت نهاية المطاف، أما العائل الأقل اعتلالا والأكثر قدرة على التنقل والقادر على إعداء الكثير من الأشخاص وعلى مدى أطول من الزمن، فإنه يصبح بذلك أداة فاعلة لنقل الممرضات الضعيفة الفوعة. وفي مثال آخر يؤدي تحسين التصحاح إلى إزاحة الشيگيلا الفلكسنرية Shigella flexneri الشديدة الخطر من قبل الشيگيلا السونية Shigella sonnei الحميدة.

وقد تكون هذه الاعتبارات وثيقة الصلة بالسياسة العامة. فنظرية التطور تنبئ بأن الإبر النظيفة وتشجيع العلاقات الجنسية الآمنة لن تقتصر فائدتهما على مجرد إنقاذ كثير من الأفراد من العدوى بڤيروس العوز المناعي البشري (HIV). وإذا أدى السلوك البشري في حد ذاته إلى إبطاء معدل انتقال ڤيروس العوز المناعي، فإن الذراري التي لا تقتل عائلها بسرعة يصبح لها ميزة البُقْيا مددا أطول مقارنة بالڤيروسات الأشد فوعة التي تموت مع عائلها وتُحرَم بذلك من فرصة الانتشار. وهكذا فإن خياراتنا الجماعية يمكنها أن تُغيِّر من طبيعة ڤيروس العوز المناعي.

إن النزاعات مع الكائنات الحية الأخرى لا تقتصر على الممرضات. ففي غابر الزمان كان الإنسان معرَّضا للخطر من قبل الحيوانات المفترسة الباحثة عن الطعام. وفي الوقت الحاضر لا تشكل آكلات اللحوم الضخمة خَطرا على الإنسان إلا في بعض الأمكنة. ولكن الإنسان أكثر تعرضا للخطر في أيامنا هذه من قبل دفاعات بعض الكائنات الأصغر حجما مثل سموم الحيّات والعناكب. ومن السخرية أن تكون مخاوفنا من المخلوقات الصغيرة التي تأخذ شكل الرُّهاب phobia أكثر ضررا لنا من التآثر مع هذه المخلوقات. إلا أن الأفراد من نوعنا ذاته هم أكثر خطورة من الحيوانات المفترسة والسامة. فنحن لا نهاجم بعضنا للحصول على الطعام وإنما للفوز بالزوج (العشير) mate والاستيلاء على الأرض وغير ذلك من الموارد. فالصراعات العنيفة بين الأفراد تحدث في معظمها بين الشبان المتنافسين وتدعو إلى تشكيل تنظيمات تهدف إلى دعم مطالبهم. والجيوش التي تتألف عادة من الشبان تخدم أغراضا مماثلة، ولكن بنفقات باهظة.

وحتى العلاقات البشرية الحميمة تؤدي إلى نشوء صراعات ذات مضامين طبية. فالمصالح التناسلية للأم ورضيعها مثلا قد تبدو متطابقة في البدء ولكنها لا تلبث أن تتباين. فقد لاحظ البيولوجي <L .R. تريڤرز> في بحث نُشِر عام 1974 وأصبح كلاسيكيا الآن، أنه عندما يبلغ الطفل بضع سنوات من العمر قد يكون من المصلحة الوراثية للأم أن تحمل مرة أخرى، بينما يكون من مصلحة ابنها أن تستمر في العناية به. ويحدث الخلاف بين الأم وجنينها حتى داخل الرحم. فمن مصلحة الأم مثلا أن يكون حجم الجنين أقل بعض الشيء من الحجم الذي يعد أفضل بالنسبة إلى الجنين ووالده. ويؤدي هذا التعارض حسب رأي <D. هيگ> (من جامعة هارڤارد) إلى تسابق مسلَّحٍ بين الجنين وأمه حول مستويات الضغط الدموي وسكر الدم عند الأم، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى حدوث ارتفاع الضغط الدموي والإصابة بالداء السكري أثناء الحمل.

التغلب على المشكلات المستجدة
إن القيام بجولة في مستشفى (مشفى) حديثة يزودنا ببيّنات محزنة عن انتشار الأمراض التي جلبتها البشرية لنفسها. فالنوبات القلبية تنجم بشكل رئيسي عن التصلب الشرياني وهو مشكلة أصبحت شائعة في هذا القرن فقط، في حين ظلت نادرة بين الأشخاص الذين يعيشون على القنص وجمع الغذاء hunter-gatherers. وتزودنا الأبحاث الوبائية epidemieological بالمعلومات التي ينبغي أن تساعدنا على الوقاية من النوبات القلبية وهي: تحديد مقدار الدهن (الدسم) في الغذاء، تناول كمية وافرة من الخضار، إجراء التمرينات الرياضية القاسية كل يوم. ولكن مطاعم الهمبرگر تتزايد باستمرار، في حين تَتلف أطعمة الحمية المرصوصة فوق الرفوف، أما آلات التمرينات الرياضية فتستخدم في كل مكان كحمالات غالية الثمن للثياب. وتبلغ نسبة الأمريكيين المفرطي الوزن ثلث السكان وهي مستمرة بالارتفاع. إننا نعلم جميعا ما هو المفيد لنا، فلماذا يستمر الكثيرون منا في اتباع الخيارات غير الصحية؟

إن قراراتنا السيئة فيما يخص الغذاء diet والتمرينات الرياضية تتخذها أدمغة تشكّلت للتغلب على مشكلات البيئة التي تختلف جوهريا عن تلك التي يقطنها النوع البشري اليوم. ففي السهوب الإفريقية (الساڤانا) حيث كان التصميم البشري المعاصر بالغ الانسجام، كان الدهن والملح والسكر مواد نفيسة ونادرة. وكان الأشخاص الميالون لاستهلاك كمية كبيرة من الدهن، عندما تتاح لهم الفرص النادرة لذلك، يتمتعون بميزة انتقائية، فقد كانت بقياهم أكثر احتمالا أثناء المجاعات التي كانت تقتل رفاقهم الأكثر نحافة. ومازلنا نحن أحفادهم نحمل تلك الدوافع لتناول الأطعمة التي لم تعد نادرة في هذه الأيام. وهذه الرغبات المتطورة ـ تؤججها إعلانات تنشرها شركات الأغذية المتنافسة التي تستمر في البقاء اعتمادا على شرائنا المزيد من أي شيء ترغب في بيعه ـ تتغلب بسهولة على عقولنا وقوة إرادتنا. وإنه لمن سخرية القدر أن تعمل البشرية قرونا طويلة من أجل أن تخلق بيئات تفيض باللبن والعسل، ثم نرى هذا النجاح مسؤولا عن كثير من الأمراض العصرية والوفيات المبكرة.

وتزداد باطراد قدرة الناس على الحصول بسهولة على مختلف أنواع المخدرات ـ ولا سيما الكحول والتبغ ـ التي تعتبر مسؤولة عن نسبة هائلة من الأمراض وتكاليف الرعاية الطبية والوفيات قبل الأوان. وعلى الرغم من أن الناس استعملوا دائما مؤثرات الحالة النفسية psychoactive substances، إلا أن المشكلات الواسعة الانتشار تجلّت فقط بعد ظهور المستجدات البيئية: وهي سهولة الحصول على عقاقير مركّزة، وظهور طرق جديدة ومباشرة لإعطائها ولا سيما عن طريق الحقن. إن معظم هذه المواد، ومن ضمنها النيكوتين والكوكائين والأفيون، هي نواتج الانتقاء الطبيعي التي تنشّأت evolved لحماية النباتات من أذى الحشرات. ولما كان الإنسان يشارك الحشرات في كثير من الإرث التطوري فإن العديد من هذه المواد يؤثر في جهازنا العصبي.

من المرجح أن الزائدة الدودية ستبقى إلى الأبد. ويعاكس الضغط التطوري الزوائد الصغيرة الحجم (الصورة العلوية)؛ لأن الالتهاب والتورم بإمكانهما إيقاف ترويتها الدموية، مما يجعل التهابها أكثر خطورة على الحياة. وهكذا فإن الزوائد الأكبر حجما سوف توفر أفضلية انتقائية.

وتوحي وجهة النظر هذه بأن الأخطار النفسية للعقاقير لا تقتصر فقط على الأشخاص المعيبين والمجتمعات المضطربة وإنما نحن جميعا معرضون لهذا الخطر؛ لأن العقاقير وكيميائيتنا الحيوية لهما تاريخ طويل من التآثر interaction. وأن فهم تفاصيل هذا التآثر، الذي يشكِّل في الوقت الحاضر محور الكثير من الأبحاث سواء من وجهة النظر التطورية والمباشرة، قد يقود إلى استنباط معالجات أفضل للإدمان.

إن الزيادة السريعة والحديثة نسبيا في حالات سرطان الثدي لا بد أن تكون ناجمة إلى حد كبير عن التبدلات في البيئة وفي أسلوب الحياة، مع وجود حالات قليلة فقط تنجم عن الشذوذات الجينية (الوراثية). وقد ذكر <B. إيتون> وزملاؤه (من جامعة إيموري) أن المعدل الحالي لسرطان الثدي في المجتمعات «غير العصرية» يمثل جزءا يسيرا من معدله في الولايات المتحدة. ويفترضون أن المدة الزمنية الفاصلة بين بدء الإحاضة والحمل الأول هي عامل خطورة مهم. وكذلك الحال بالنسبة إلى عدد مرات الطمث على مدى العمر كله. ففي المجتمعات التي تعيش على القنص وجمع الغذاء، يبدأ الطمث في نحو السنة الخامسة عشرة من العمر، ويتلوه الحمل بعد سنوات قليلة تتبعه فترة إرضاع تتراوح ما بين 2 و3 سنوات، ثم يحدث حمل آخر بعد ذلك بسرعة. ولا تطمث المرأة إلا خلال الفترة الفاصلة بين نهاية الإرضاع وبداية الحمل التالي، وتتعرض خلال هذه الفترة لمستويات عالية من الهرمونات التي قد يكون لها تأثير سيئ في خلايا الثدي.

على عكس ذلك تبدأ الإحاضة في المجتمعات العصرية في سن تتراوح ما بين 12 و13 سنة، ومن المرجح أن ذلك يعود جزئيا على الأقل إلى تناول كمية كافية من الدهن تسمح للمرأة الصغيرة السن بتغذية الجنين. أما الحمل فقد يحدث بعد عدة عقود وقد لا يحدث أبدا. وفي المجتمعات التي تعيش على القنص وجمع الغذاء قد يبلغ عدد مرات الطمث عند المرأة نحو 150 دورة طمثية، أما في المجتمعات العصرية فإن عدد مرات الطمث يبلغ 400 في المتوسط ويزيد على ذلك. ومع أن عددا قليلا من الناس يوافقون على أن المرأة يجب أن تحمل في سن المراهقة لوقايتها من الإصابة بسرطان الثدي في وقت لاحق، فإن إعطاء المرأة دَفعة من الهرمونات لمحاكاة حالة الحمل قد يخفف من خطر الإصابة بالسرطان. وتُجرى في الوقت الحاضر تجارب لاختبار صحة هذه المقولة في جامعة كاليفورنيا بسان دييگو.

مقايضات وقيود
الحلول الوسط أمر ملازم للتكيف؛ فلو بلغت كثافة عظام الذراع ثلاثة أضعاف كثافتها العادية لن تتعرض للكسر أبدا، ولكن الإنسان العاقل (الحديث) Homo sapiens في هذه الحالة سيكون مخلوقا يتحرك بتثاقل باحثا بشكل مستمر عن الكالسيوم. وقد تكون الآذان الأكثر حساسية مفيدة في بعض الأحيان، إلا أن ضجيج جزيئات الهواء التي تلطم طبلات آذاننا ستصيبنا في هذه الحالة بالخبل.

ويوجد مثل هذه المقايضات على المستوى الوراثي أيضا. فإذا جَلبت إحدى الطفرات ميزة تكاثرية واضحة فإن تواترها سوف يزداد بين الجماعة حتى ولو أدت إلى زيادة القابلية للمرض. والأشخاص الذين يحملون نسختين من جينة الخلايا المنجلية يعانون آلاما شديدة ويموتون في سن الشباب. كما أن الأشخاص الذين يحملون نسختين من الجينة «السوية» يتعرضون لدرجة عالية من خطر الإصابة بالملاريا ومن ثم الموت. أما الأفراد الذين يحملون جينة واحدة من الخلية المنجلية وجينة أخرى سوية فهم محميون من الإصابة بالملاريا ومن الداء المنجلي معا. ففي المناطق التي تنتشر فيها الملاريا يعد هؤلاء الأشخاص، من وجهة نظر الداروينية، أكثر لياقة من أفراد كل من الفريقين السابقين. وهكذا وعلى الرغم من أن جينة الخلايا المنجلية تسبب المرض، فقد تم انتقاؤها وانتخابها للمناطق التي استمر فيها انتشار الملاريا. ولنا أن نتساءل في هذه الحالة ما هو الأليل alelle الصحي في هذه البيئة؟ إلا أن هذا السؤال يبقى من دون جواب؛ إذ لا يوجد جينوم (مجين) genome بشري واحد سوي ـ وإنما توجد جينات فقط.

لا بد أن كثيرا من الجينات الأخرى التي تسبب الأمراض، لها في المقابل بعض الفوائد ولا سيما في بيئات معينة وإلا لما كانت شائعة إلى هذا الحد. ولما كان التليف الكيسي يقتل واحدا من كل 2500 قوقازي فإن الجينات المسؤولة عن حدوثه ستكون معرّضة لخطر الإزالة من الجينوم البشري، ومع ذلك فهي مستمرة في البقاء. وقد اعتقد الباحثون سنوات طويلة أن جينة التليف الكيسي، شأنها في ذلك شأن جينة الخلايا المنجلية، تمنح بعض الميزات. وحديثا، أيدت أبحاث <G. پير> وزملائه (من كلية الطب بجامعة هارڤارد) هذه التوقعات: فقد بدا لهم أن وجود نسخة واحدة من جينة التليف الكيسي تنقص من احتمال إصابة حاملها بالحمى التِّيفِيَّة (التيفويد)، التي بلغت نسبة وفيات المصابين بها 15% في وقت ما.

وقد تكون الشيخوخة أهم مثال على المقايضة الجينية. ففي عام 1957 اقترح أحدنا (ويليامز) أن الجينات التي تسبب الشيخوخة ومن ثم الموت قد تكون مع ذلك قد انتُقيت لهذا الغرض إذا كان لها بعض الفوائد في سن الشباب عندما تكون قوى الانتقاء أشد. ومثال ذلك الجينة التي يفترض أنها تتحكم في استقلاب (أيض) الكالسيوم بحيث إن العظام تشفى بسرعة، ولكنها تتسبب في الوقت نفسه بتوضُّع الكالسيوم في جدار الشرايين، قد يكون انتقاؤها تمّ لهذا الغرض على الرغم من كونها تقتل بعض الأشخاص المتقدمين في السن. لقد شوهدت تأثيرات مثل هذه الجينات العديدة التوجه pleiotropic (وهي الجينات ذات المفعول المتعدد) في ذباب الفاكهة وخنافس الطحين، إلا أنه لم يوجد لها مثيل نوعي عند البشر. ومع ذلك يبدو أن النقرس له أهمية خاصة في هذا المجال؛ لأنه ينشأ عندما يشكل حمض البول (وهو مضاد أكسدة قوي) بلورات تترسب في المفاصل. وتمتلك مضادات الأكسدة تأثيرات مضادة للشيخوخة، وترتبط مستويات حمض البول عند مختلف أنواع الرئيسيات ـ إلى حد بعيد ـ بمتوسط مدى العمر. وقد تكون المستويات العالية لحمض البول مفيدة لمعظم أفراد النوع البشري، لأنها تبطئ شيخوخة الأنسجة؛ في حين يدفع القليلون منهم الثمن نتيجة إصابتهم بالنقرس.

مبادئ مختارة من الطب الدارويني
تقود المقاربة الداروينية للممارسة الطبية إلى تغيير في وجهات النظر. إن المبادئ التالية توافر أساسا لدراسة الصحة والمرض في سياق تطوري.
الدفاعات والعيوب مظهران مختلفان جوهريا للمرض.
إن إحصار الدفاعات له فوائده ومضاره في آن واحد.
يكيف الانتقاء الطبيعي تنظيم دفاعات الجسم حسب مبدأ كاشف الدخان، لذلك فإن كثيرا من المظاهر الدفاعية وما يرافقها من آلام ليس لها ما يبررها في بعض الحالات.
على الأرجح تنشأ الأوبئة الحديثة من عدم التلاؤم بين التصميم الفيزيولوجي لأجسامنا والمظاهر الجديدة لبيئتنا.
تشكلت رغباتنا في بيئة أسلافنا كي تدفعنا للقيام بأعمال تهدف إلى زيادة قدرتنا على التكاثر، إلا أنها تقودنا اليوم إلى المرض والموت المبكر.
إن جسم الإنسان هو مجموعة من الحلول الوسط (التسويات).
لا يوجد شيء يمكن أن يسمى «الجسم السوي».
لا يوجد شيء يمكن أن يسمى «الجينوم البشري السوي».
إن بعض الجينات التي تسبب المرض قد يكون لها فوائد أيضا. وهناك جينات أخرى تمتلك خاصيات تجعلها قادرة على إحداث المرض عندما تتآثر مع عوامل بيئية جديدة.
تقود المصلحة الذاتية الجينية أعمال الفرد، ولو كان ذلك على حساب صحته وطول عمره اللتان تتحكم فيهما تلك الجينات.
الفوعة هي صفة للمُمْرِضات ويمكنها أن تشتد وأن تضعف.
يمكن لأعراض المرض المعدي أن تفيد العامل الممرض والعائل وكليهما وأنها لا تفيد أيا منهما.
لا يمكن تفادي المرض؛ وذلك بسبب الطريقة التي تتكيف بها الكائنات الحية من خلال التطور.
يحتاج كل داء إلى تفسير مباشر للأسباب التي تجعل بعض الأشخاص يصابون به دون غيرهم، إضافة إلى تفسير تطوري evoluationary explanation للأسباب التي تجعل بعض أفراد النوع أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض.
لا تنجم الأمراض عن الانتقاء الطبيعي، إلا أن القابلية للإصابة بالأمراض تتشكل في معظم الأحيان بوساطة هذا الانتقاء.
من المفضل النظر إلى الشيخوخة على أنها نوع من المقايضة trade-off أكثر من كونها حالة مرضية.
يجب أن تستند التوصيات السريرية (الإكلينيكية) إلى الدراسات السريرية، أما التدخلات السريرية التي تعتمد على النظريات فقط فليس لها أساس علمي وقد تكون ضارة.

هناك أمثلة أخرى من المرجح أنها تساهم أكثر من غيرها في التقدم السريع نحو الشيخوخة؛ ومن ذلك أن الدفاعات المناعية القوية التي تحمينا من الإصابة بالعداوي تسبب في الوقت نفسه أذية نسيجية خفيفة مستمرة. ومن المحتمل أيضا أن يكون معظم الجينات التي تسبب الشيخوخة غير ذات فائدة في أي سن ـ إلا أنها بكل بساطة لا تنقص من القدرة على التكاثر في البيئة السوية إلى الدرجة التي تدعو لاستبعادها عن طريق الانتقاء الطبيعي. ومع ذلك فما لا شك فيه أن الباحثين سيتوصلون خلال العقد القادم إلى تعرف جينات نوعية قادرة على تسريع الشيخوخة، وبعد ذلك سيتمكنون بسرعة من معرفة الوسائل التي يمكن بوساطتها التأثير في أعمال هذه الجينات وحتى تغييرها، إلا أننا قبل أن نندفع في هذه الأمور علينا أن نحدد ما إذا كانت هذه الأعمال ذات فائدة في مرحلة مبكرة من العمر.

لا يمكن للتطور أن يسير بعكس اتجاه الزمن، لذلك فإن تصميم الكائن الحي يبقى مقيدا ببنيته السابقة. فقد لوحظ أن عيون الفقاريات قد رتبت باتجاه مخالف، وذلك بعكس عيون الحبّار squid التي تخلو من هذا العيب؛ إذ إن الأوعية والأعصاب تمتد على سطحها الخارجي وتخترقها حيثما يكون ذلك ضروريا وتثبّت الشبكية بحيث لا تستطيع الانفصال. وينجم هذا العيب في عين الإنسان عن سوء الحظ، فقبل مئات الملايين من السنوات حدث أن طبقة الخلايا التي أصبحت حساسة للضوء عند أسلافنا القدماء كانت متوضعة بشكل مخالف لتوضع الطبقة المماثلة عند أسلاف الحبار. وقد تطور هذان التصميمان على مسارين مختلفين ولا سبيل الآن للعودة إلى الوراء.

إن الالتزام بالمسار الذي يتخذه التطور يفسر لنا كيف أن بعض الأعمال البسيطة مثل عملية البلع قد تكون خطرة على الحياة. فالسبيلان الهضمي والتنفسي يتقاطعان عند الإنسان؛ لأن فتحات الهواء التنفسية عند أحد أسلافنا من صنف السمك الرئوي lung fish كانت متوضِّعة في ذروة الخرطوم snout، وكانت تقود إلى فسحة مشتركة يتقاسمها السبيلان الهضمي والتنفسي. ولما كان الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يبدأ من لا شيء فقد أصبح الجنس البشري معرضا لإمكانية انسداد مدخل الرئتين بالطعام.

إن مسيرة الانتقاء الطبيعي قد تقود إلى طريق مسدود مميت كما هو الأمر في حالة الزائدة الدودية، وهي بقايا جوفٍ كان أسلافنا يستعملونه في عملية الهضم. وبسبب توقف هذا العضو عن القيام بتلك الوظيفة ولأن إصابته بالعدوى قد تكون قاتلة، أصبح من المتوقع أن يقوم الانتقاء الطبيعي بالتخلص من هذا العضو. ولكن الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك، فالتهاب الزائدة يحدث عندما يؤدي الالتهاب إلى حدوث تورم يضغط على الشريان الذي يزود الزائدة بالدم؛ إذ إن الجريان الدموي يقي من تكاثر البكتيريا، ولذا فإن أي نقص في التروية الدموية يساعد على حدوث الالتهاب الذي يزيد التورم. وإذا توقفت التروية الدموية تماما زاد نشاط البكتيريا من غير عائق وأدى إلى انفجار الزائدة. وبشكل خاص تتعرض الزائدة الصغيرة الحجم إلى هذه السلسلة من الأحداث، بحيث إن التهاب الزائدة يمكن أن يدفع عملية الانتقاء الطبيعي في الاتجاه الذي يؤدي إلى الإبقاء على الزوائد الكبيرة الحجم. ولا يستطيع التحليل التطوري الادعاء بأن جسم الإنسان بلغ حد الكمال، لا بل إنه يبيّن أن الإنسان يعيش حاملا بعض المواريث غير الملائمة وأن الانتقاء الطبيعي قد يكون السبب في استمرار الحفاظ على بعض نقاط الضعف في جسم الإنسان.

تطور الطب الدارويني
على الرغم من قوة النظرية الداروينية فإنه لم يتم الاعتراف بالبيولوجيا التطورية كأحد العلوم الأساسية الضرورية للطب إلا منذ وقت قريب. فمعظم الأمراض تُنقص لياقة الجسم بحيث يبدو لنا أن الانتقاء الطبيعي يعلل ويفسر حالة الصحة فقط وليس الحالات المرضية. وتبدو المقاربة الداروينية معقولة فقط عندما نحاول تفسير الصفات التي تجعل الإنسان أكثر عرضة للأمراض وليس تفسير الأمراض نفسها. كما أن الافتراض بأن الانتقاء الطبيعي يحسِّن الصحة أمر غير صحيح ـ فالانتقاء الطبيعي يزيد القدرة التكاثرية للجينات. والجينات التي تمنح الجسم قدرة أكبر على التكاثر ستصبح أكثر شيوعا وإن كانت تُعرِّض صحة الفرد للخطر في نهاية الأمر.

أخيرا، أقام التاريخ والفهم الخطأ عوائق أمام قبول الطب الدارويني. فالمقاربة التطورية للتحليل الوظيفي يمكن أن تبدو وكأنها ذات صلة بمبدأ الغائية (teleology (4 ومذهب الحيوية(5) vitalism، وهي أخطاء تخلّص منها التفكير الطبي مؤخرا فقط وبعد جهد كبير. ومن الطبيعي أنه كلما ذكر التطور والطب معا تراءى للذهن شبح تحسين النسل. إن وجهة النظر الداروينية القائلة بأن جميع الأجسام البشرية متشابهة فيما يخص قابليتها للمرض وما نجم عن ذلك من اكتشافات ستكون ذات فائدة كبيرة للأفراد، إلا أن مثل هذه النظرة الثاقبة لا تعني ضمنا أن من واجبنا وأن باستطاعتنا تحسين الجنس البشري. إن هذه المقاربة تحذّر من أن العيوب الخلقية الظاهرة قد يكون لها أهمية تكيفية غير معروفة، وأنه لا يوجد جينوم سويّ واحد وأن مفهوم السواء normality يبدو وكأنه مفرط في تبسيط الأمور.

إن التطبيق المنظم للبيولوجيا التطورية في الطب مشروع حديث العهد. وكما كانت الحال بالنسبة إلى الكيمياء الحيوية في مطلع هذا القرن، يحتاج الطب الدارويني على الأرجح إلى التطور في عدة حاضنات قبل أن يتمكن من إثبات قوّته وفائدته. وإذا كان عليه أن يتقدم عن طريق جهود العلماء من دون أن تتوافر لديهم الأموال لجمع المعلومات واختبار آرائهم، فإن وصول هذا العلم إلى مرحلة النضج سيتطلب عقودا. وإن وجود أقسام للبيولوجيا التطورية في كليات الطب سيسرّع هذه السيرورة، إلا أن أكثر هذه الكليات لا تضم مثل هذه الأقسام. وإذا كانت الهيئات المموِّلة تضم لجانا استشارية ذات خبرة في موضوع التطور فإن البحث العلمي سيتقدم بسرعة، إلا أن مثل هذه اللجان لم تتشكل بعد، ونأمل أن يتحقق ذلك.

إن وجهة النظر التطورية تكوِّن ارتباطا عميقا بين الحالات المرضية والحالات السوية، ويمكنها أن تدمج عدة طرق متباينة للبحث الطبي، كما أنها تفتح مجالات جديدة ومهمة للبحث. وإن فائدتها وقوتها ستؤديان في النهاية إلى الاعتراف بالبيولوجيا التطورية كواحد من العلوم الطبية الأساسية.


المؤلفان
Randolph M. Nesse - George C. Williams
هما مؤلفا كتاب بعنوان «لماذا نُصاب بالمرض: العلم الجديد عن الطب الدارويني» وقد صدر عام 1994. حصل نيس في عام 1974 على إجازة في الطب من جامعة ميتشيگان، وهو الآن أستاذ الأمراض النفسية في هذه الكلية ومدير «برنامج التطور والتكيف البشري» في معهد البحوث الاجتماعية. أما ويليامز فقد حصل في عام 1955 على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس وأصبح بسرعة أحد المنظِّرين العالميين الرئيسيين في موضوع التطور. وهو عضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم وأستاذ فخري لعلم البيئة والتطور في جامعة ولاية نيويورك، ويرأس تحرير «المجلة الفصلية للبيولوجيا».


مراجع للاستزادة 
EVOLUTION OF INFECTIOUS DISEASE. P. W. Ewald. Oxford University Press, 1994.
DARWINIAN PSYCHIATRY. M. T. McGuire and A. Troisi. Harvard University Press, 1998. EVOLUTION IN HEALTH AND DISEASE. Edited by S. Stearns. Oxford University Press, 1998.
EVOLUTIONARY MEDICINE. W. R. Trevathan et al. Oxford University Press (in press).
Scientific American, November 1998
 

Evolution and the Origins of Disease(*)
(1) جنس من البكتيريا.
(2) زنادات بالغة الحساسية تُثار عند حدوث أدنى مؤثر ولو كان في دقة الشعرة. (التحرير)
(3) تدابير حفظ الصحة العامة
(4)الاعتقاد بأن كل شيء في الطبيعة يهدف إلى تحقيق غاية معينة.
(5)مذهب يقول إن الحياة مستمدة من مبدأ حيوي وإنها لا تعتمد على العمليات الفيزيائية الكيميائية. (التحرير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق