Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

تعطيل ڤيروسات الإنفلونزا


تعطيل ڤيروسات الإنفلونزا(*)
عما قريب، ستتوافر أدوية جديدة مصمَّمة لمعالجة الإنفلونزا
عن طريق إيقاف تنسّخ الڤيروس في النسج البشرية.
وقد تؤدي هذه العقاقير دور نوع جديد من الأدوية الواقية.
<G .W. لاڤر> ـ <N. بيشوفبيرگر> ـ <G .R. وبستر>

«الأدوية السادّة للموضع الفعال» (الأسافين الحمراء) تبدو واعدة جدا لمنع الإنفلونزا ومعالجتها. وهي تعمل عن طريق سد الموضع التحفيزي الفعال لإنزيم يدعى النيورامينيداز ينتأ من سطح ڤيروسات الإنفلونزا. ويمكّن هذا الإنزيم الجسيمات الڤيروسية المتشكلة حديثا من الرحيل من خلية إلى أخرى في الجسم. فإذا تعطّل الإنزيم توقف الڤيروس في مساراته.

كثيرا ما تبدأ ذرية من ذراري الإنفلونزا (النزلة الوافدة) غير مألوفة في البشر بالانتقال المفاجئ من شخص إلى آخر. ولما كان هذا الڤيروس غير عادي البتة، فإن القلة من الناس ـ إن وجدت ـ لديها مناعة راسخة نتيجة لتعرّضات سابقة. وتنعدم القدرة الدفاعية حتى بين من سبق تلقيحهم. إن ما توفره حقنات (زرقات) اللقاح من وقاية ضد أشكال(1) الإنفلونزا التي توقّعها خبراءُ الصحة ستكون فعّالة في فصل معين تقع فيه، وليس ضد أشكال أخرى غير متوقَّعة. فإن لم تجد الذرية الجديدة عائقا انتشرت بكامل قوتها محدثة مرضا ـ وموتا ـ على نطاق شامل.

إن أسوأ وباء عالمي (أو جائحة pandemic) مسجَّل قد ضرب ضربته عام 1918 وقتل أكثر من 20 مليونا من البشر، وجرى ذلك أحيانا خلال ساعات من ظهور أول الأعراض. إن تلك الكارثة، التي عُزيت إلى ما يُدعى بڤيروس الإنفلونزا الإسبانية، تلتها أوبئة الإنفلونزا الآسيوية عام 1957 وإنفلونزا هونگ كونگ عام 1968 والإنفلونزا الروسية عام 1977. (تعكس الأسماء الانطباعات الشائعة عن مكان بدء الجائحات، ولو أنه يُعتقد حاليا أن النوائب episodes الأربع كلها ـ وربما معظم النوائب الأخرى ـ نشأت في الصين.)

ويحذّر خبراء الصحة العامة من أنه يمكن لجائحة أخرى أن تضرب ضربتها في أي وقت الآن؛ وقد تبلغ في ضراوتها نائبةَ عام 1918. وفي عام 1977، عندما ابتلَى شكل قاتل من ڤيروس الإنفلونزا 18 شخصا في هونگ كونگ وأدى إلى موت ستة أشخاص، خشي المسؤولون أن تكون الموجة التالية قد بدأت. غير أن السلطات في تلك المنطقة تمكنت من احتواء المشكلة بسرعة، باكتشاف المصدر ـ وهو دجاج وبط وإوز مصاب بالعدوى ـ ثم القضاء على جميع الدواجن في هونگ كونگ.

ولكن البشرية قد لا تكون محظوظة بالقدر نفسه في المرة القادمة. فإذا شقّ ڤيروس مميت مثل ڤيروس هونگ كونگ طريقه خلال مجتمعات العالم المزدحمة اليوم، أمكن تصوّر أن 30% من سكان الأرض قد يلقون حتفهم (من الڤيروس نفسه ومن العداوي البكتيرية الثانوية) قبل أن يتوافر لقاح يقي أولئك الذين تمكنوا من الإفلات من العدوى. ويستغرق تحضير اللقاحات ضد أي شكل معين من ڤيروس الإنفلونزا قرابة الستة أشهر كي تُنتَج وتُختبر من حيث السلامة ثم كي توزَّع، وهي مدة طويلة جدا إلى حد يجعل فائدتها ضعيفة أمام جائحة سريعة الانتشار.

وإذا لم تقع الجائحة التي يُخشى منها حتى السنة القادمة وما بعدها، فإن أساليب جديدة للحد من المرض والموت قد تصبح متاحة. وفي وقت متأخر من هذا العام قد يتم ترخيص دواءين للبيع هما الآن قيد الاختبار وتجرى عليهما تجارب سريرية عديدة. ويعتبر هذان العقاران سلاحين جديدين في محاربة الإنفلونزا. إن هذين العقارين ـ اللذين دعيا Relenza) Zanamivir) وGS 4104 ـ هما عاملان واعدان للوقاية من عداوي الإنفلونزا وتقصير فترة الأعراض وإنقاص شدتها لدى الذين يسارعون إلى المعالجة فور بدء شعورهم بالاعتلال.

وعلى خلاف اللقاحات (التي تحفّز الجهاز المناعي لمنع الڤيروسات من اتخاذ موطئ قدم لها في الجسم) وعلى خلاف الأدوية المنزلية الشائعة (لتي تخفّف الأعراض ولكنها لا تؤثر في العدوى نفسها)، فإن هذين الدواءين مصمَّمان لمهاجمة ڤيروس الإنفلونزا بصورة مباشرة. إنهما يعوقان إنزيما ڤيروسيا خطيرا يُسمَّى النيورامينيداز neuraminidase، وبفعلهما هذا يُنقصان من تكاثر الڤيروس في الجسم على نحو ملموس. وهناك أيضا مثبطات نيورامينيداز إضافية قيد الدراسة ولمّا يتم تقويمها في البشر بعد.

وكما يعرف الكثير من الناس، يتوافر في الأسواق دواءان مضادان للإنفلونزا هما الأمانتادين amantadine والريمانتادين rimantadine. غير أن لهذين المركبين اللذين يعملان بآليتين مختلفتين عيوبا كبيرة؛ إذ يمكن أن يسببا تخليطا confusion وتأثيرات جانبية عصبية أخرى؛ وهما غير فعّالين ضد أحد صنفي الإنفلونزا الرئيسيين اللذين يصيبان البشر (النمط B). وفضلا عن ذلك، يبدو أن ڤيروسات الإنفلونزا تصبح مقاومة للعقارين بسهولة نسبية، ولذا يمكن للأشخاص المعالَجين في الأطوار الأولى من وباءٍ ما أن ينشروا نسخة محوَّرة version من الڤيروس مقاومة للدواء وأن ينقلوها إلى أشخاص آخرين لن يستجيبوا للأدوية عندئذ. وهذه المشكلة الأخيرة مشكلة حادة ولا سيما في المجتمعات «المغلقة»، مثل دور الرعاية (النقاهة) nursing homes.

إن قصة كيفية تطوير العقارين الجديدين، تشمل مشاركة رائعة بين الحظ والمنطق. فالاختراق الذي أدّى مباشرة إلى تصميمهما كان في فكّ شيفرة البنية الثلاثية الأبعاد للنيورامينيداز عام 1983. ومع ذلك فإن سلسلة من الاكتشافات السابقة هي التي مكّنت العلماء من إدراك أن جزءا معينا من جزيء النيورامينيداز ربما كان «كعب أخيل»، أي الموقع غير المنيع (أو نقطة الضعف)، بين جميع أشكال الإنفلونزا: وهو ضَعْفٌ يمكن للأدوية المصمَّمة بذكاء أن تستغله.

فَهْم البلاء
إن خطا من ذلك البحث المبكر قد كشف بعض الخصائص الأساسية لڤيروسات الإنفلونزا ولاستراتيجية بُقياها survival. لقد عرف البيولوجيون منذ مدة طويلة أن الڤيروسات هي في أساسها جينات مغلفة في بروتينات، وهذه إما أن تحمي الجينات وتساعد الڤيروسات على التنسخ في الجسم. وكما هي الحال في الإنفلونزا، تُغلَّف هذه الأجزاء المتنوعة أحيانا بغشاء دهني (شحمي). وعندما يُحدث أي ڤيروس مرضا، فإنه يفعل هذا بغزو أنماط خلوية منتقاة، متنسّخا ضمن تلك الخلايا ومن ثمَّ يدلف إلى خارج الخلايا ليعدي خلايا أخرى. وتنشأ الأعراض لسببين، لأن التكاثر الڤيروسي يسبب تمزق الخلايا المستعمَرة ولأن الجهاز المناعي يحاول أن يحتوي العدوى؛ الأمر الذي يسبب في تلك السيرورة التهابا موضعيا وأوجاعا مجموعية (جهازية)(2) systemic وحمّى.

إن لذراري الإنفلونزا التي تستعمر البشر أُلفة خاصة نحو الخلايا الطلائية (الظهارية) التي تشكّل بطانة الجهاز التنفسي. وفي الحالات النموذجية تؤدي العدوى الناجحة إلى أعراض تقليدية (وصفية) بعد يوم واثنين، مثل سيلان الأنف واحتقانه والسعال الجاف والنوافض chills والحمى والأوجاع والتعب الشديد وفقدان الشهية. إن النصوص التاريخية التي تقدم أوصافا للأعراض تشير إلى أن أوبئة الإنفلونزا ربما ابتلت المجموعات البشرية منذ زمن يرجع إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد.

وفي عام 1933 عزل (استفرد) العلماء إحدى ذراري الإنفلونزا من الإنسان أول مرة. ومنذ ذلك الحين، عرفوا أن ڤيروسات الإنفلونزا تأتي في «نكهتين» اثنتين رئيسيتين هما: النمط A والنمط B ـ اللذان يختلفان في بعض بروتيناتهما الداخلية. وهناك نمط ثالث (C)، لا يبدو أنه يُحدث مرضا خطيرا.

وبعد ذلك صنف اختصاصيّو الڤيروسات أشكال النمط A بحسب الاختلافات في بروتينين ينتآن من سطح الڤيروس مثل الشوك (السَّفَا) spikes هما: الراصّة الدموية hemagglutinin والنيورامينيداز (الإنزيم الذي تستهدفه الأدوية الجديدة). إن هذين البروتينين يتألّفان من خيوط ملتفّة من الحموض الأمينية شأنهما في ذلك شأن البروتينات الأخرى. وبصورة أساسية تتخذ أشكال الراصة الدموية كلها البنية الثلاثية الأبعاد نفسها، كما تتخذ أشكال النيورامينيداز كلها شكلا مُميَّزا. ولكن يمكن للبروتينات الفردية ضمن كل زمرة أن تختلف بشكل ملحوظ في تسلسل حموضها الأمينية المكونة لها. وهكذا فإن 15 راصة دموية وتسعة أنماط فرعية subtypes من النيورامينيداز قد تم تعرفها في ڤيروسات الإنفلونزا A، وقد سُمِّيت بحسب جزيئات الراصة الدموية والنيورامينيداز التي تُظهرها: H1N1, H1N2, H2N2، وهكذا دواليك.

إن ڤيروسات النمط B هي مجموعة أكثر اتساقا. فهي تحمل شكلا واحدا من الراصة الدموية وشكلا واحدا من النيورامينيداز، ولو أن من الممكن لسلاسل الحموض الأمينية أن تختلف على نحو طفيف من إحدى ذراري B إلى أخرى. وبالمثل، فبإمكان كل نمط فرعي من الإنفلونزا A أن يضم أيضا ذراري متفاوتة تفاوتا بسيطا.

غالبا ما تشمل دورة حياة ڤيروس الإنفلونزا انتقاله (سرايته) من المسالك الهوائية لشخص ما إلى آخر عبر قطيرات الماء المنبعثة مع العطاس (a). يدخل ڤيروس واحد (التفصيل أعلاه) إلى خلية تبطن السبيل التنفسي بعد أن يرتبط جزيء على سطح الڤيروس يدعى الراصة الدموية بِحمض السياليك الموجود على الخلية (b). هذا الارتباط يحرّض الخلية على التقاط الڤيروس (c)، الذي سرعان ما يُطلق مادته الوراثية (الجينية) ـ المصنوعة من الرنا RNA ـ وبروتيناته الداخلية إلى النواة (e, d). وعندئذ تساعد بعض تلك البروتينات على تضاعف الرنا (f) وعلى إنتاج الرنا المرسال messenger RNA (mRNA)، الذي تستعمله آلة الخلية الصانعة للبروتين كمرصاف (قالب) template لصنع بروتينات ڤيروسية (h, g). وبعد ذلك تتجمع البروتينات والجينات الڤيروسية مشكلة نسخا ڤيروسية (أو جسيمات) جديدة (i)، لا تلبث أن تتبرعم من الخلية. وتبزغ الجسيمات وهي مغطاة بحمض السياليك، فإذا بقيت تلك المادة على الڤيروس وعلى الخلية، فإن جزيئات الراصة الدموية الموجودة على أحد الجسيمات سرعان ما تلتصق بحمض السياليك الموجود على جسيمات أخرى وعلى الخلية، مسببة تكتل الڤيروسات الجديدة معا والتصاقها بالخلية. ولكن النيورامينيداز الواقع على الڤيروس يقص حمض السياليك من السطوح المهاجِمة (j)، تاركا الجسيمات الجديدة حرة لتكمل رحلتها (k) وتغزو خلايا أخرى.

وإضافة إلى تباين نمطي الإنفلونزا A وB من الناحية الكيميائية فهما يختلفان أيضا في مدى فعاليتهما. فڤيروسات النمط B تُعدي البشر فقط، وتسبّب أوبئة إقليمية أكثر من أن تسبب جائحات. وفي المقابل، تصيب ڤيروسات الإنفلونزا A الخنازير والخيل وحيوانات الفقمة والحيتان والطيور إضافة إلى البشر، ولو أنه ليست جميع الذراري معدية للأنواع كلها (وبالفعل، فقد وجدت أربعة أنماط فرعية فقط في البشر). وهي مسؤولة أيضا عن جائحات هذا القرن جميعها.

وعلى الرغم من الفروق بين نمطي الإنفلونزا، فللنمطين كليهما الدورة الحياتية الأساسية نفسها. فلكي تدخل نسخة مفردة من ڤيروس الإنفلونزا (أو جسيم ڤيروسي) إلى خلية بشرية، يجب على الراصة الدموية الموجودة على الڤيروس أن ترتبط بجزيء سكري (هو حمض السياليك sialic acid) موجود على سطح الخلية. ويحرض هذا الارتباط الخليةَ على ابتلاع الڤيروس، الذي يُحتجز في البدء ضمن ما يشبه الفقاعة. ومع ذلك، سرعان ما تتحرر الجينات الڤيروسية (المؤلفة من خيوط الرنا RNA) والبروتينات الداخلية، وتشق طريقها نحو نواة الخلية.

وهناك تشرع بعض البروتينات الڤيروسية بنسخ خيوط الرنا الڤيروسي وببناء شكل (يدعى الرنا المرسال messenger RNA) يمكن أن يُقرأ ويُترجم إلى بروتينات من قبل الآلة الخلوية المصنِّعة للبروتين. وفي النهاية تتجمع الجينات والبروتينات المصنَّعة حديثا وتتبرعم من الخلية كجسيمات ڤيروسية جديدة.

ومما لا يلائم الڤيروس أن الجسيمات المتبرعمة تتغلف بحمض السياليك، وهي المادة ذاتها التي تربط ڤيروسات الإنفلونزا بالخلايا التي تحاول غزوها. فلو سُمح لحمض السياليك بالبقاء على الڤيروس وعلى سطح خلية مصنِّعة للڤيروس، فإن الراصة الدموية الواقعة على الجسيمات الجديدة سترتبط بحمض السياليك، مؤدّية إلى تكتل الجسيمات معا على سطح الخلية، كحشرات اقتنصها ورق الذباب المصمَّغ. ومادامت الجسيمات محتجزة على هذا النحو فلن تستطيع أن تنتشر إلى خلايا أخرى.

ولكن الڤيروس يمتلك سهما في جعبته؛ إذ يمكن لجزيئات النيورامينيداز على الجسيمات المصنوعة حديثا أن تشطر حمض السياليك. وبكلمات أخرى، فإن أشواك (سفا) النيورامينيداز تذيب «غراء» حمض السياليك غير المرغوب فيه، مما يمكّن الجسيمات الڤيروسية من الرحيل. ويساعد الإنزيم أيضا الڤيروس على شق طريقه عبر المخاط ما بين الخلايا في المسالك (الطرق) الهوائية.

بلورات نيورامينيداز تم الحصول عليها من ڤيروس للإنفلونزا كان يُعدي الطيور البرّية على حيد الحاجز العظيم The Great Barrier Reef في أستراليا. لقد مكّنت بلّورات النيورامينيداز العلماء من تحديد البنية الثلاثية الأبعاد للإنزيم ومن إعداد أدوية مصمَّمة لسدّ موضعها الفعّال. إن تدرجات اللون هي انعكاسات للأضواء الملونة.

أصول الجائحات
مع حلول الستينات من هذا القرن كان الباحثون مدركين تماما أن أي دواء قادر على إحصار أية خطوة في سيرورة التنسخ قد يمنع الڤيروس من إحداث المرض وقد يُنقص من حدة عدوى موجودة، ولكن لم يكن أحد يعرف بدقة كيف يستطيع أن يتدخل. وفضلا عن ذلك، عرف البيولوجيون أنه لما كانت ڤيروسات الإنفلونزا تنمو داخل الخلايا وتستخدم الآلة الخلوية المصنِّعة للبروتين، فإن معظم العوامل القادرة على إهلاك الڤيروس سوف تحدث اضطرابا في الخلايا السليمة أيضا.

وبينما كان العاملون يواجهون هذه الصعوبة، فقد استمروا أيضا في محاولة فهم لماذا تسبب بعض ذراري الإنفلونزا أوبئة محلية في حين تحدث ذرارٍ أخرى جائحات كاملة. وفي النهاية سيكشف هذا البحث أنه لكي يكون دواء الإنفلونزا ناجعا جدا يجب أن يتمكن من مهاجمة جميع أشكال الإنفلونزا، بما فيها تلك التي لا يعرف أنها تُمرض البشر.

ولا تستطيع ذرية الإنفلونزا أن تحدث وباء محليا وعالميا إلا إذا كان الناس المعرّضون للڤيروس يفتقدون المناعة الكافية تجاهه. فمثلا، عندما يُصاب أحدهم بالإنفلونزا ينتج الجهاز المناعي جزيئات تعرف بالأضداد وهي التي تتعرف شدفا (قطعا) نوعية للراصة الدموية وللنيورامينيداز على سطح الڤيروس. فإذا تعرض الشخص ثانية فيما بعد إلى الذرية نفسها، فإن هذه الأضداد (ولا سيما تلك الموجهة نحو الراصة الدموية) ترتبط على الفور بالڤيروس وتمنعه من إحداث عدوى أخرى.

وإذا لم يتغير الڤيروس بتاتا كما هي الحال مع الحصبة والنكاف، فإن الأضداد التي سبق إنتاجها خلال العدوى وعن طريق اللقاح، يمكن أن تؤمِّن مناعة مديدة. ولكن ڤيروسات الإنفلونزا تغيّر نفسها دائما. ونتيجة لذلك، فإن الأضداد التي تظهر في سنةٍ ما قد تكون أقل فعالية وعديمة الجدوى إذا واجهت شكلا مختلفا من الڤيروسات في موسم الإنفلونزا المقبل. إن مدى التغير هو الذي يحدد إلى درجة كبيرة ما إذا كان بالإمكان احتواء الجائحة نسبيا وانتشارها في أرجاء المعمورة من غير أن يعترض سيرها شيء.

إن إحدى الطرق التي تتغير بوساطتها ڤيروسات الإنفلونزا هي «الانجراف» المستضدي antigenic drift، وهو تنقيح تدريجي لتسلسل الحمض الأميني في بروتين (مستضد) قادر على إحداث استجابة مناعية. وتنشأ هذه التغيرات عن طريق طفرات صغيرة في الجينة التي تؤلّف مخطط ذلك البروتين. وتُحدث الطفرة أحيانا فَرْقا طفيفا في ثبات البروتين وفعاليته؛ كما أنها أحيانا تخرب البروتين وتنقص عيوشية viability الڤيروس. ومع ذلك فهي، في أحيان أخرى، تعزز البُقْيا، مثلما يحدث عندما تعيد شكل موضع ما على الراصة الدموية جرى تعرُّفُه مسبقا من قبل الضد.

وعندما تتراكم تغيرات عديدة في جينات وبروتينات الراصة الدموية والنيورامينيداز، تصبح في النهاية غير قابلة للتمييز عمليا من جانب معظم الأضداد في مجموعة سكانية، وقد تُحدث وباء جديدا. ولكن الوباء يجابه حدودا عندما يصل إلى مجموعات (سكانية) سبق لأجهزتها المناعية أن «رأت» الكثير من التغيرات.

يبدو أن ڤيروسات الإنفلونزا B تتغيّر حصرا بانجراف مستضدي كهذا، وتتطور تدريجيا في عوائلها hosts من البشر خلال محاولتها أن تصير أقل قابلية للتعرف من قبل الذخيرة المناعية لمجموعة سكانية ما. وفي المقابل، إن ذراري الإنفلونزا A يمكنها، إضافة إلى ذلك، أن تتعرض لتغيّر أكثر إثارة يُعرف باسم «الزَّيَحان» المستضدي antigenic shift الذي يمكّنها وحده من التسبّب بالجائحات.

عندما يحدث الزيحان المستضدي، تبرز ذرار تحمل شوكة (سفاة) جديدة تماما للراصة الدموية، كما قد تحمل أحيانا جزيء نيورامينيداز جديدا لم يصادفه معظم الناس من قبل. ونتيجة لذلك فإن الڤيروس قد يتملّص من ذخيرة الأضداد التي تحملها كل المجموعات السكانية حول العالم ويطلق زناد جائحة. وفي عالم اليوم المترابط بالطائرات النفاثة، يمكن للناس أن ينشروا ڤيروسا جديدا خطيرا من بقعة من الأرض إلى بقعة أخرى في يوم واحد.

إن تحولا بالغا كهذا لا يمكن أن يحدث عبر طفرة جينية بسيطة. وأفضل سيرورة تمت دراستها وأدت إلى زيحان مستضدي تضمنت مزج ذريتين ڤيروسيتين في خلية عائلة (ثوية) واحدة، إذ إن الجينات التي صُرَّت في جسيمات ڤيروسية جديدة (وفي بروتيناتها) أتت من كلتا الذريتين. ويمكن لإعادة التنضيد reassortment هذه أن تحدث لأن الجينوم (المجين) genome (أو المجموعة الجينية لڤيروس الإنفلونزا) يتألف من ثمانية خيوط متمايزة من الرنا (يكوِّد كل خيط منها بروتينا واحدا واثنين). ومن السهل أن تمتزج هذه الخيوط وتتوافق عندما تتشكل جسيمات جديدة من الإنفلونزا A في خلية ثنائية العدوى. فمثلا تُعدي بعض ڤيروسات الإنفلونزا كلا من البشر والخنازير. فلو حدث وأصيب خنزير بشكل ما بڤيروس بشري وكذلك بذرية كانت تعدي بصورة نموذجية الطيور فقط، فقد ينتهي الأمر بالخنزير إلى إنتاج ذرية هجينة تماثل الڤيروس البشري في كل شيء، إلا أنها تعرض ـ مثلا ـ جزيء راصة دموية مصدره ڤيروس الطير.

وحديثا عرف العلماء أن الزَّيَحان المستضدي يمكن أن يحدث أيضا بطريقة ثانية. وفي هذه الحالة، إن ڤيروسا حيوانيا للإنفلونزا لم يكن من قبل قادرا على إحداث عداوي في البشر يقوم بقفزة مباشرة إلى الكائنات البشرية.

لا يعرف أحد أي شكل من الزيحان المستضدي قد أدى إلى جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، التي سببها النمط الفرعي H1N1 للإنفلونزا A. وعلى كل حال، لقد ثبت أن إعادة التنضيد كانت هي المسؤولة عن جائحتي الإنفلونزا الآسيوية عام 1957 وإنفلونزا هونگ كونگ 1968، اللتين أطلقتهما كل من H2N2 وH3N2 على التتالي. وتقترح بعض الدراسات أن الطيور المائية ربما أسهمت بتقديم الجينات غير المألوفة وأن الخنازير ربما قامت بدور أواني الخلط. فإذا كانت الخنازير أحيانا تؤدي هذه الوظيفة، فإن اشتراكها قد يساعد على شرح سبب نشوء الجائحات عموما في الصين: فالملايين من الطيور والخنازير والناس تزدحم هناك في حيز محدود.

وعلى العكس، إن الڤيروس الذي قتل ستة أشخاص في هونگ كونگ عام 1997 (H5N1) لم يكن ڤيروسا ناجما عن إعادة التنضيد. لقد سبّب هذا الڤيروس المرضَ البشري بعد أن وثب مباشرة من الطيور إلى البشر: وهي ظاهرة لم تُشاهد في السابق. ولم يكن النمط الفرعي H5N1 قادرا من قبل على الانتقال من إنسان إلى إنسان. ومع ذلك، فلو أُعطي له الوقت لاكتساب السراية transmissibility عن طريق الطفرة وإعادة التنضيد، فلربما أصبحت السيطرة السريعة عليه متعذرة.

إن النجاة بأعجوبة والتي حدثت عام 1997 أقنعت اليوم الكثير من خبراء الصحة العامة بأن حالات الإنفلونزا تحتاج إلى المراقبة، لا في البشر فقط (كما يحدث الآن) بل في الحيوانات أيضا. وبالتأكيد يجب أن تشمل تلك الحيوانات الطيور المهاجرة؛ لأنها ربما تشكل مستودعا على مدار السنة لڤيروسات الإنفلونزا A التي تنتشر بعدئذ إلى الطيور الأليفة والأنواع الأخرى. وقد يساعد التعرف السريع للذراري الحيوانية، التي تمتلك إمكانية الإضرار بالبشر، على تجنّب كارثة في الصحة العامة.

إن حادثة هونگ كونگ قد أضافت إلحاحية جديدة إلى ضرورة البحث في طبيعة ما يُدعى بحائل الأنواع species barrier الذي يمنع الكثير من ذراري الإنفلونزا من العبور من نوع حيواني ما إلى آخر. فلو تم فهم الحائل بصورة أفضل، لربما تمكن العلماء من سدّ الثغرات التي تسمح الآن لذرارٍ حيوانية معينة بانتهاك الحائل وإحداث المرض في البشر.

تسدّ الأدوية الجديدة الموضع الفعّال للنيورامينيداز عن طريق الارتباط به بسهولة أكبر من ارتباط حمض السياليك به ـ والحمض هو المادة التي يشطرها النيورامينيداز عادة. يُمسَك حمض السياليك (في اليسار) في الموضع، (أو الفَلْح clift)، بصورة رئيسية بوساطة زمر الگليسرول والكربوكسيلات، التي تشكّل روابط (الخطوط الخضراء) مع الحموض الأمينية في الموضع الفعال. ويضيف الزناميڤير (في الوسط) روابط أخرى بالاستعاضة عن هدروكسيل أحد مشتقات حمض السياليك بگوانيدين كبير إيجابي الشحنة يشكّل مرتكزات قوية لحمضين أمينيين سلبيي الشحنة في قعر الفلح. في الجسم يتحول المركب GS 4104 إلى المركب GS 4071، ويحتفظ الجزيء الناتج (في اليمين) بروابط الكربوكسيلات التي يصنعها حمض السياليك، ولكنه يستفيد أيضا من زمرة كارهة للماء. تحرّض هذه الزمرة الفلح الرابط ليشكّل جَيْبَا كارها للماء، يثبّت الدواء في مكانه بوساطة جواذب attractions كارهة للماء (الخطوط الخضراء القصيرة).

وجدتها!
إن جملة الدراسات التي أجريت على بيولوجية الإنفلونزا قبل أوائل الثمانينات، دلّت على أن الدواء المثالي المضاد للإنفلونزا ـ إضافة إلى حصره فعالية جزيء ما مشارك في دورة الڤيروس التوالدية ـ يقوم بعمله عند موضع «مصون» conserved على الجزيء المستهدَف؛ أي إنه سيأوي إلى منطقة مؤلفة من حموض أمينية تبقى ثابتة عبر جميع ذراري الڤيروس. إن الدواء الذي يستهدف منطقة مصونة يُفترض أن يعمل ضد أي ڤيروس للإنفلونزا قد يظهر في البشر، بما في ذلك الڤيروسات التي تنتشر فجأة من الحيوانات.
إعداد لقاحات أفضل
عند النظر في إمكانيات أدوية الإنفلونزا (النزلة الوافدة)، ربما يحق للمراقبين أن يتساءلوا عما إذا كانت مكافحة المرض تتحقق على نحو أفضل بوجود لقاح شامل: لقاح قادر على منع العدوى (الخمج) عن طريق تحريض الجسم على شن استجابة مناعية واقية ضد أية ذرية للإنفلونزا قد تظهر. ولكن مع الأسف، لم يتحقق بعد إنتاج لقاح شامل الأهداف كهذا.
ومع ذلك، يمهد اختصاصيو المناعة السبل لتسريع إنتاج اللقاح، بحيث يمكن تحقيق التمنيع immunization بسرعة إذا ما ظهر وباء مفوَّع على نحو مفاجئ. ويعملون أيضا على إيجاد لقاحات لا تحتاج إلى حقن (زرق)(3) وذلك لتحسين قبولها ولتشجيع تمنيع الأطفال. وعلى الرغم من أن المسنين هم عادة الأشد اعتلالا عندما يُصابون بالإنفلونزا، فإن الأطفال هم المسؤولون عن معظم انتشارها.
إن لقاحات الإنفلونزا شائعة منذ الأربعينات. وتبدأ اليوم عملية التصنيع بعد تحليل عينات الإنفلونزا المجموعة من 110 مواقع ترصّد surveillance في أرجاء العالم. وفي الشهر الثاني من هذا العام حددت منظمة الصحة العالمية ثلاث ذرارٍ (ذريتين من النمط A وذرية من النمط B) يحتمل أن تكون مسؤولة عن معظم إصابات الإنفلونزا التي ستحدث في الفصل القادم (بدءا من الشهر 11/1999 وحتى الشهر 3/2000 في نصف الكرة الشمالي). وستكون هذه الذراري أساسا للّقاح.
ومن الطرق البسيطة لصنع لقاحٍ هي إنماء أعداد هائلة من الذراري المنتقاة، وإبطال فعاليتها على نحو لا تستطيع فيه أن تسبّب عدوى مع إمكان جمعها في مستحضر واحد. ولكن مع الأسف، تميل الذراري المنتقاة إلى النمو ببطء في المختبر، وهي بالتالي صعبة الإنتاج بكميات كبيرة. وللتغلّب على هذه الصعوبة، يبدأ العلماء بصورة أساسية، بإدخال بروتينات محرِّضة للمناعة ـ الراصة الدموية والنيورامينيداز ـ من سطح الذراري المنتقاة إلى داخل شكل من ڤيروس الإنفلونزا ينمو بسرعة في المختبر. وفيما يتعلق بكل ذرية، فإنهم يُعْدون مُضَغ أفراخ الدجاج بكل من الڤيروس السريع النمو والڤيروس المنتقى. إن الكثير من جسيمات الڤيروس المهيأة من المضغ تنمو بسرعة، غير أنها تُظهر الآن أشواك (سفا) الراصة الدموية والنيورامينيداز التي تملكها الذراري التي يتوقع أن تُحدث أوبئة هذا العام. ثم تُعزل (تستفرد) الڤيروسات المعاد تنضيدها والفائقة النمو هذه وتُنقل إلى مصنِّعي اللقاح الذين ينتجونها على نطاق واسع في المزيد من مضغ أفراخ الدجاج.
وفي وقت ما، قامت بمهام اللقاح أشكال معطَّلة من هذه الڤيروسات، بما في ذلك أشكال مُعاد تنضيدها reassortments من جميع الذراري الثلاث المنتقاة. ويمضي معظم المصنعين الآن بهذه السيرورة خطوة أبعد؛ فهم يجزئون الڤيروسات ويركّبون اللقاح من البروتينات الڤيروسية وحدها. تُحدث البروتينات مناعة، ولكنها عاجزة كليا عن إحداث أي نوع من العدوى. وفي كلتا الحالتين، يحثّ اللقاحُ الجهاز المناعي على صنع أضداد قادرة على الارتباط بالڤيروسات المُعْدية التي تحمل تلك البروتينات نفسها، والمساعدة على طرحها.
إن التلقيح السنوي هو أفضل طريقة الآن لتحاشي الإنفلونزا. ويرى البعض أن طريقة إعطاء اللقاح حقنا سوف تتراجع يوما ما لتحلَّ محلَّها طريقة إعطائه على هيئة رذاذ أنفي.
وفي مقاربة بديلة، يختبر الباحثون لقاحات مصنوعة من ڤيروسات حيّة مُضعفة؛ لأن الڤيروسات الحيّة لا تحرّض إنتاج الأضداد فقط، بل إنتاج خلايا الدم البيضاء أيضا المعروفة باللمفاويات التائية T lymphocytes. وتقوم هذه الخلايا بتعرّف الخلايا المُعداة بالڤيروس وطرحها. ولقد تبيّن أن الخلايا التائية تستجيب لعدد من ذراري الإنفلونزا المتقاربة، وليس فقط لذرار مفردة تعرفتها الأضداد الفردية. ومن هنا، يمكن لها أن تؤمّن مناعة مدة من الزمن، حتى بعد أن تعتري ذريةَ الإنفلونزا تبدلات ضئيلة في بنية جزيئاتها السطحية.
لقد طوّرت الشركة Aviron في كاليفورنيا لقاحا ڤيروسيا حيا مُضْعَفا يُعطى بشكل رذاذ أنفي. وقد أظهر اختباره نتائج حسنة في البشر، ومن ضمنهم الأطفال؛ وربما سيطرح في الأسواق في غضون سنة واثنتين. ولسوء الحظ، لا يمكن للّقاحات الڤيروسية الحية المُضعَفة أن تُنتَج بسرعة أكبر كثيرا من سرعة إنتاج اللقاحات الڤيروسية المقتولة؛ وبهذا فربما لن تؤمّن دفاعا سريعا ضد جائحة مفاجئة.
ولكي يختصر العلماء زمن الإنتاج، فإنهم يفحصون أساليب التصنيع التي تتجنّب الحاجة إلى الحصول على أعداد كبيرة من البيوض المُخْصَبة. وتعتمد إحدى المقاربات إدخال جينات الراصة الدموية والنيورامينيداز من ذرار منتقاة للإنفلونزا إلى داخل نوع آخر من الڤيروسات (مثل baculovirus) الذي ينمو بسرعة في الخلايا المستنبتة: وهو أمر لا تقوم به ڤيروسات الإنفلونزا إلا على نحو ضئيل. وعندما تتكاثر الڤيروسات المبدَّلة وراثيا (جينيا) في الخلايا، فإنها تصنع أيضا كميات كبيرة من بروتينات الإنفلونزا المكوَّدة encoded، والتي يمكن عندئذ أن تُنقّى للاستعمال في اللقاحات. ويمكن تحضير لقاحات مأشوبة recombinant وتوزيعها في غضون شهرين وثلاثة فقط، ولكن فعاليتها مازالت قيد التقويم.
ومع ذلك هناك استراتيجية أخرى للقاحات قادرة على تقديم المنتَج بسرعة أكبر، وتعتمد على دنا DNA «عارٍ». وفي هذه الخطة، يهيئ الباحثون جينات الراصة الدموية والنيورامينيداز المرغوب فيها داخل حلقات الدنا المعروفة بالپلازميدات plasmids. ومن الوجهة النظرية، لو حُقنت پلازميدات كهذه داخل الجلد والعضل، فإن الخلايا المجاورة ستلتقطها وتستعملها لصنع بروتينات الإنفلونزا. وعندئذ ستتبدى هذه البروتينات على سطح الخلايا، حيث يمكن لخلايا الجهاز المناعي أن تكتشفها. واستجابة لهذا، سيحشد الجهاز المناعي الأضداد والخلايا التائية القادرة على تحييد الڤيروس الحر والقضاء على أية خلايا مُعْداة. ولقد نجحت لقاحات الإنفلونزا ذات الدنا العاري في عملها بصورة جيدة في حيوانات المختبر، ولكن يجب مع ذلك أن تختبر في البشر.

ومن المثير للاهتمام أن الدراسات البنيوية التي مكّنت الباحثين من تصميم مثبطات النيورامينيداز قد نشأت عن اكتشاف عرضي. ففي أواخر السبعينات، كان أحدنا (وهو لاڤر Laver) يحاول أن يحدد ما إذا كانت شوكة N2 على الڤيروس الذي سبب جائحة هونگ كونگ (H3N2) عام 1968 قد أتت من الذرية المسؤولة عن جائحة الإنفلونزا الآسيوية (H2N2) عام 1957. وكجزء من ذلك الجهد، أراد أن يقارن بين تسلسلات الحمض الأميني للجزيئات. ولكي يبدأ عمله كان عليه أن يعزل رؤوسها ويركّزها، والرؤوس هي المناطق domains التي تنتأ من الڤيروسات.

وعندما حرّر لاڤر رؤوس النيورامينيداز من الڤيروسات المنقَّاة وركَّزها في منبذة (جهاز طرد مركزي) centrifuge، وجد ـ لدهشته ـ أن حُبَيْبة pellet المادة الناتجة لم تكن عديمة الشكل amorphous كما هي الحال في البروتينات عادة، بل كانت بدلا من ذلك متشكلِّة من بلّورات. إن البلورات، التي هي مجموعات فائقة الترتيب من الجزيئات، أساسية لفك شيفرة البنية الثلاثية الأبعاد للبروتينات الكبيرة. ومن هنا، دلّ الإنتاج غير المتوقع لبلورات النيورامينيداز على أن بالإمكان فك شيفرة بنية النيورامينيداز.

وفي عام 1983 قام <P. كولمان> وزملاؤه [في منظمة الكمنولث للبحث العلمي والصناعي (CSIRO) في أستراليا] بهذا العمل بالضبط. وكشفوا أن أشواك النيورامينيداز على ڤيروسات الإنفلونزا تتألف من أربعة جزيئات متماثلة [أو ما يسمى مونوميرات (مواحيد) monomers]. ويشبه المربوع tetramer الناتج أربعة بالونات مربعانية squarish على رأس قضيب مفرد. ويكون القضيب منطمرا في الغشاء الڤيروسي، في حين تكون البالونات ناتئة. وسرعان ما اكتشفت مجموعة كولمان أن كل مونومير للنيورامينيداز في الرباعية foursome له غورٌ dent (أو فَلْحٌ cleft) مركزي عميق على سطحه.

يمكن للجسيمات الڤيروسية المصنوعة حديثا أن تبزغ من الخلية كخيوط (في اليسار)، إنما يمكن لها أيضا أن تكون كروية وأن تتخذ أي شكل وسط بينهما. يمكن رؤية الجسيمات وهي تتعنقد بصورة غير فعالة على السطح الخلوي (عصيات وكريات في أعلى الصورة اليمنى) عندما تُعطَّل فاعلية جزيئات النيورامينيداز الخاصة بها.

وكذلك وجد الفريق أنه حتى لو أمكن لجزيئات نيورامينيداز الإنفلونزا أن تختلف في الحموض الأمينية الدقيقة التي تحتويها، فإن لجميع النسخ المحوَّرة المعروفة ـ بما في ذلك تلك التي هي من ڤيروسات النمط A والنمط B ـ صفات مشتركة تسترعي الانتباه. أما الحموض الأمينية التي بطّنت جدار الفلح فقد كانت غير متفاوتة.

عندما تقاوم أجزاء من الجزيئات التبدل فإن الثبات يدل عادة على أن المكوّنات غير المتبدلة هي أساسية لقيام الجزيئات بوظيفتها. وفي هذه الحالة، دل التماثل على أن الفلح كان قد شكل موضع التشطر الفعال لحمض السياليك على النيورامينيداز، وعلى أن الحموض الأمينية غير المتبدلة (أو المصونة) الواقعة في الفلح كانت أساسية للمحافظة على الوظيفة التحفيزية catalytic. وقد أكدت بحوث لاحقة هذا الاقتراح.

وبما أن ڤيروسات الإنفلونزا لا يمكنها أن تنتشر مباشرة من خلية إلى أخرى من دون مساعدة النيورامينيداز. فقد دلت الاكتشافات الجديدة على أن الدواء القادر على شغل الموضع الفعال والالتصاق به سيثبط النيورامينيداز في جميع النسخ المحوَّرة لڤيروس الإنفلونزا؛ أي إن دواء «سادا» للموضع الفعال plug drug كهذا قد يشكل علاجا شاملا للإنفلونزا.

صنع دواء سادٍّ للموضع الفعال
ولتعقّب هذه الفكرة المثيرة، حددت مجموعةُ كولمان هويةَ الحموض الأمينية في الموضع الفعّال والتي تمسّ حمضَ السياليك عادة. كما فتشوا عن الحموض الأمينية في الفلح والتي لم تربط حمض السياليك بل التي ربما أمكن استغلالها للمساعدة على تثبيت الدواء السادّ. ولاحظوا، مثلا، أن الفلح كان يشمل ثلاثة حموض أمينية إيجابية الشحنة وقد التصقت بإحكام بزمرة سلبية الشحنة (كربوكسيلات) على حمض السياليك.

إضافة إلى هذا، اكتشفوا في قعر الفلح جيبا pocket صغيرا يحتوي على حمضين أمينيين سلبيي الشحنة. هذان الحمضان الأمينيان ـ گلوتامات ـ لم يتماسّا مع حمض السياليك، وإنما مع ذلك كانا موجودين في جميع نيورامينيدازات الإنفلونزا التي فُحصت. وكانت هناك زمرة هدروكسيل (OH) على حمض السياليك المرتبط متجهة نحو الأسفل باتجاه ذلك الجيب الإضافي من غير أن تصل إليه.

أوحت هذه الملامح أن الاستعاضة عن زمرة الهدروكسيل هذه بزمرة ذريّة كبيرة إيجابية الشحنة قد تُنتج مشتقا محكم الارتباط. ومن المفترض أن تأوي الزمرة الإيجابية إلى الجيب الإضافي في قعر الموضع الفعال وأن تثبّت نفسها هناك بالارتباط بحمضَيْ الگلوتامات السلبيَّي الشحنة، غير المستعملين سابقا، في الجيب.

وبعد التجربة والخطأ، وجد <M. ڤون إيتزشتاين> وزملاؤه (من جامعة موناش في ملبورن) عام 1993 أن الاستعاضة عن زمرة الهدروكسيل على حمض السياليك بزمرة گوانيدينو guanidino (وهي زمرة كبيرة إيجابية الشحنة) قد أنتجت مثبِّطا قويا إلى درجة خارقة لنيورامينيدازات الإنفلونزا. وعلاوة على ذلك، كان للمثبِّط تأثير ضئيل في الإنزيمات ذات الصلة التي تصنعها البكتيريا والثدييات؛ وهي علامة على أن المركّب قد لا يخرب الخلايا البشرية.

وبعدئذ، كشفت الدراسات في الحيوانات والتجارب الأولية في البشر أن المادة ـ الزناميڤير zanamivir ـ قد وَقَتْ من أعراض الإنفلونزا في الأفراد الذين عُدُوا لاحقا بڤيروساتها، وخففت أيضا من حدة الأعراض لدى أولئك الذين تناولوا العقار بعد أن عُدوا. ولكن المركّب لا يجدي نفعا إذا ابتُلِع على هيئة حبوب، إذ ينبغي أن يُستنشق عن طريق الأنف والفم كي يصل إلى الجهاز التنفسي.

ومما يدعو إلى السخرية أن الزمرة گوانيدينو التي تجعل من الزناميڤير مثبِّطا جيدا هي السبب في أنه لا يمكن تناول المادة على شكل حبوب. فعلى الدواء المُبتَلع أن يعبر الخلايا المبطِّنة للمِعَى وأن يهاجر إلى مجرى الدم قبل أن يرحل إلى الأجزاء الأخرى من الجسم. إلا أن الجزيئات المشحونة تواجه صعوبة في عبور الأغشية الخلوية، التي هي دهنية (شحمية) ونفوذ في المقام الأول للمواد غير المشحونة.

وبما أن الاستنشاق هو وسيلة شائعة لتناول دواء الغاية منه أن يعمل في الجهاز التنفسي، فإن الشركة Glaxo Wellcome في إنكلترا قد بدأت بالمزيد من اختبار الزناميڤير على البشر. ومع ذلك، ولأن بعض المرضى يفضّلون تناول الدواء حبوبا pills، قامت الشركة Gilead Sciences في ولاية كاليفورنيا ـ بالاشتراك مع الشركة F. Hoffman-La Roche في سويسرا ـ بالبحث عن مثبِّط للنيورامينيداز يؤخذ على هيئة أقراص tablet. ويمكن أيضا تصوّر أن الدواء المجموعي (الجهازي) systemic الذي يسير في الدم قد يساعد على محاربة أي ڤيروس عالي الفَوْعة (الضراوة) للإنفلونزا أعدى خلايا خارج الجهاز التنفسي.

بروز مرشح ثان
بعد تكوين العديد من المركّبات واختبارها، وجدت الشركتان Gilead وF. Hoffman-La Roche أخيرا مركبا أُعطي اسما رمزيا هو GS 4071، ويتمتع بقوة الزناميڤير. وأظهرت التحاليل البنيوية أنه احتفظ بزمرة رئيسية رابطة للنيورامينيداز موجودة أيضا في الزناميڤير هي زمرة كربوكسيلات سلبية الشحنة مرتبطة بحموض أمينية إيجابية الشحنة في الموضع الفعال للإنزيم. وإضافة إلى هذا، إن تآثر interaction المركب GS 4071 مع الموضع الفعال قد سبّب بطريقة ما دوران أحد الحموض الأمينية في الفَلْح وتشكيل جَيْب جديد كاره للماء hydrophobic. وصار هذا الجيب مرتكزا لمركّب مماثل من العقار كارهٍ أيضا للماء (هو سلسلة من ذرات الكربون والهدروجين).

في البداية قامت المادة بوظيفتها على نحو حسن في أنبوب الاختبار ولم تضرّ بالخلايا السليمة، ولكنها أخفقت في اختبار حاسم: لقد منعتها زمرة الكربوكسيلات السلبية الشحنة من العبور إلى خارج المعى والدخول إلى مجرى الدم في الحيوانات. ومع ذلك ولحسن الحظ، قام تعديل بسيط بحلّ تلك المشكلة، وهو في جوهره وضع قناع على الزمرة السلبية. إن الشكل المقنَّع لهذه المادة والذي يرمز له GS 4104 عَبَر بسهولة إلى مجرى الدم، وصار بعد ذلك غير مقنَّع ولاسيما في الدم والكبد. وبعد أن انقلب عائدا إلى شكله الأصلي (GS 4071)، بادر إلى تثبيط فعالية النيورامينيداز وانتشار الڤيروس في الجهاز التنفسي لحيوانات التجربة. وهو يشبه الزناميڤير من حيث إظهاره علامات تدل على حسن أدائه وظيفته في البشر.

إن تقارير خريف عام 1998 المستندة إلى تجارب بشرية كبيرة مراقَبة controlled عن الزناميڤير والمركب GS 4104 أكدت النتائج السابقة وعزّزتها. فإذا ما استنشق الإنسان الزناميڤير وابتلع حبوب المركب GS 4104 خلال يوم ونصف تقريبا من ظهور الأعراض، أمكن إنقاص المدة التي يشعر فيها الناس أنهم مرضى بنحو 30 في المئة (1.5 - 3 أيام)، كما أن المركبين يقللان من شدة الأعراض. وفي تجربة لاختبار المركب GS 4104، مثلا، أظهرت اليوميات التي دوّنها المرضى عن شدة مرضهم أن الأعراض كانت أخف بنسبة 25 إلى 60 في المئة من أعراض المرضى الذين تناولوا حبّة من دواء غفل (زائف)(4). إضافة إلى ذلك يقلل الدواءان، بنسبة النصف وأكثر، من مخاطر العداوي البكتيرية الثانوية ـ كالتهاب القصبات ـ التي قد تكون قاتلة. إن مضاعفات كهذه هي سبب رئيسي لوفيات الإنفلونزا، وبخاصة بين المسنّين وذوي الاضطرابات المتزامنة.

وأشارت دراسة محدودة أجريت على الزناميڤير مؤخرا أن شكلا قابلا للحقن من الدواء مفيد أيضا. كما أن الاستقصاءات المستقلة التي درست موضوع قدرته على الوقاية مشجعة. فعندما تم اختبار الزناميڤير تبين أن 6 في المئة من غير مستعمليه أصيبوا بالإنفلونزا، في حين أصيب 2 في المئة فقط من مستعمليه. وأعطى المركب GS 4101 نتائج مشابهة، ولم يسبّب أي من الدواءين حتى الآن تأثيرات جانبية خطيرة.

وعلى أساس دراسات كهذه، طلبت الشركة Glaxo Wellcome الموافقة على تسويق الشكل المستَنْشَق من الزناميڤير في أستراليا وأوروبا وكندا والولايات المتحدة. ويُتوقع أن تقدّم الشركتان U.S. Gilead وF. Hoffman-La Roche طلبا مشابها بخصوص المركب GS 4101 في الولايات المتحدة وأوروبا هذا العام. ولقد أظهرت مثبّطات أخرى للنيورامينيداز طوّرتها الشركة BioCryst Pharmaceuticals في ولاية ألاباما أنها ذات فعالية حسنة نتيجة الدراسات على الحيوانات، كما جرى الترخيص للشركة Johnson & Johnson بإجراء المزيد من التطوير.

وبالنسبة إلى المراقب العادي، قد يُظن أن إنقاص عدة أيام من نوبة(5) الإنفلونزا إنجاز بسيط. إلا أن هذا الإنجاز أكثر عمقا مما يبدو للوهلة الأولى. إن التعب والإزعاجات الأخرى التي يشعر المريض بها خلال الأيام الأخيرة من الإنفلونزا تنشأ بصورة رئيسية عن تواني نشاط الجهاز المناعي بعد أن يكون قد طَرح معظم الڤيروسات من الجسم. ولا يمكن للأدوية المضادة للإنفلونزا أن تؤثر في هذا النشاط، ولكن من المؤكد أن باستطاعة المركبات أن توقف التفسخ الڤيروسي، وبذا تنقص إلى الحد الأدنى من مدة الجزء المبكر من نائبة الإنفلونزا وحدّته ـ وهو الجزء الأكثر إزعاجا.

ما المسؤول عن الفوعة(6)؟
عندما تقتل الإنفلونزا، فإنها تطيح عادة بحياة الناس ذوي المناعة المنقوصة، بسبب تقدم السن مثلا ولوجود اضطراب سابق. ومع ذلك، فإنها تصرع أحيانا بسرعة ومن غير ريب شبابا نشيطين مثلما تصرع الواهنين.
هكذا كانت الحال عام 1918، عندما قتلت جائحة «الإنفلونزا الإسبانية» من الناس أكثر من الذين ماتوا في القتال في الحرب العالمية الأولى. وخلال تلك الجائحة، هلك حتى الجنود الأشداء. لقد شعر البعض أنهم سقام في الصباح، ومضوا إلى الفراش بعد الظهر ثم قضوا نحبهم في الليل. وفي عام 1997 أيضا وقع شباب نشيطون ضحية الإنفلونزا عندما مات ستة من بين 18 شخصا ضربتهم ذرية غير مألوفة منها في هونگ كونگ.
والسؤال هنا ما الذي يجعل ذرية معينة مميتة أكثر من الذراري الأخرى؟ يكمن جزء من الجواب في المقدرة على إعداء عدد من النسج المختلفة بدلا من المجموعة المحدودة التي تفضلها عادة ڤيروسات الإنفلونزا: أي الجهاز التنفسي في الثدييات والسبيل المعدي المعوي في الطيور. ولهذا فإن الكثير من الباحثين المهتمين بفهم التحول إلى الفوعة يتعقبون أثر الملامح التي تمكّن بعض الذراري من أن تصبح عديمة التمييز وشاملة الانتحاء(7) في الخلايا التي تهاجمها.
وقبل نحو 15 سنة، قام أحدنا (وبستر) وزملاؤه [في مستشفى أطفال سانت جود للبحوث St. Jude Children's Research Hospital في ممفيس] بكشف مفتاح محتمل للغز. ففي عام 1983 كان هناك ڤيروس يسبب مرضا مَعِديا معويا بسيطا في الدجاج في پنسلڤانيا؛ ثم بدأ هذا الڤيروس بالقضاء فجأة على كامل القطعان التجارية. ووجد الفريق أن المتهم كان هو إبدال حمض أميني واحد فقط بحمض آخر في البروتين الڤيروسي السطحي (الراصة الدموية). وبطريقة ما مكَّن هذا التبدلُ الصغيرُ الڤيروس من التنسّخ في الأعضاء في كامل جسم الطيور ومن تخريبها.
وأظهرت أبحاث تالية لماذا كان لهذا التبدل البنيوي الدقيق تأثير كبير في فاعلية الڤيروس. فعندما يدخل ڤيروس الإنفلونزا أولا إلى خلية، فإنه يُحجز في البدء في نوع من السجن داخل الخلوي (الجسيم الداخلي endosome). ومع ذلك يتمكن الڤيروس من التكاثر؛ لأن جزيئات الراصة الدموية على السطح الڤيروسي تساعد الغشاء الڤيروسي على الاندماج مع قفص الجسيم الداخلي). وعندما يحدث هذا الاندماج، تفلت الجينات والبروتينات الڤيروسية من الجسيم الداخلي وتبدأ بإنتاج نسخ جديدة من الڤيروس بصورة هائلة. ويمكن للراصة الدموية أن تسهّل الاندماج فقط إذا كانت قد انشطرت إلى جزأين قبل أن يدخل الڤيروس إلى الخلية. ويتحقق هذا التشطر بوساطة إنزيمات خاصة، تتبع عائلة السيرين بروتياز serine protease التي تُصْنَع في الجهاز الهضمي للطيور وفي الجهاز التنفسي للثدييات، إلا أنه أقل وضوحا في معظم النسج الأخرى.
إن نتائج جائحة «الإنفلونزا الإسبانية» التي بدأت عام 1918 لم تقتصر على قتل 20 مليونا على الأقل من البشر، بل إنها دفعت بأفراد من عائلات ضحايا الإنفلونزا إلى الاصطفاف في طوابير توزيع الطعام. حدث المشهد أعلاه في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو الأمريكية.
إن استبدال الحمض الأميني المكتَشف في ڤيروس الطيور المميت قد غيَّر موضع التشّطر على الراصة الدموية بطريقة جعلته عرضة للتقطيع بالپروتيازات الشبيهة بالفيورين furinlike proteases، التي تشيع في نسج الجسم كله. إن مثل هذا الاستعداد المتزايد للتشطّر قد مكّن الڤيروس من إعداء النسج على مستوى الأجهزة.
وقد أوحى هذا الاكتشاف بأن جائحة 1918 البشرية ربما صارت مميتة؛ لأن ذرية الإنفلونزا المسؤولة قد حملت شكلا طافرا من الراصة الدموية كان قابلا للتشطّر ببروتيازات شائعة موجودة خارج المسالك (الطرق) الهوائية لدى البشر. ولمواجهة هذا الاحتمال وللبحث عن مصادر أخرى للفوعة، يقوم <J. توبنبرگر> وزملاؤه (في معهد الباثولوجيا التابع للقوات المسلحة الأمريكية U.S. Armed Forces Institute of Pathology) بدراسة المادة الوراثية (الجينية) المأخوذة من ثلاث من ضحايا الجائحة القديمة وهم: جنديان (حُفظت منهما عينات نسيجية) وامرأة من الإسكيمو أخرجت جثتها من الجَمَد السرمدي permafrost في ألاسكا في الشهر 8/1997.
في الشهر  2/1998 شحن الدجاج إلي هونگ كونگ لتعويض بعض ملايين الدجاج الذي قتل وذلك بهدف انتقال ڤيروس إنفلونزا مميت إلى البشر. وكان المسؤولون على وشك فحص دم الطيور.
لقد أظهرت الدراسات الجينية تسلسل الحمض الأميني لجزيء الراصة الدموية في الڤيروس، وقد شارف فريق توبنبرگر على إكمال العمل على تسلسل جزيء سطحي ثان هو النيورامينيداز. لقد اتضح أن جزيء الراصة الدموية لا يمكن إدراكه عند موضع التشطر. وإضافة إلى ذلك، يقول توبنبرگر إن تحليله غير المنشور بعد لجينة النيورامينيداز يشير إلى أن النيورامينيداز يفتقر إلى نوع آخر من الطفرة كان قد افترض كطريق ممكن لعدم تمييز promiscuity الڤيروس. وأشار هذا الاقتراح المثير للاهتمام إلى أن طفرة معينة في النيورامينيداز ستسمح له بصورة أساسية بادخار إنزيمات السيرين بروتياز واستعمالها لتشطير جزيئات الراصة الدموية في النسج التي لم تهيئ تلك البروتيازات.
وستبقى أسباب الفوعة الشديدة لجائحة عام 1918 غامضة حاضرا وربما مستقبلا أيضا، إلا أن الباحثين لديهم إدراك عن سبب كون ذرية الإنفلونزا التي ظهرت في هونگ كونگ عام 1997 مميتة إلى حد كبير.
كان ذلك الڤيروس الذي نشأ في الدواجن يمتلك شكلا من الراصة الدموية عالي الاستعداد للتشطّر. ومع ذلك، فليس لدى الباحثين برهان مطلق على أن هذا الشكل من الراصة الدموية هو المسؤول عن الفوعة. ولهذا السبب، فإنهم يواصلون تمشيط الجينات الڤيروسية بحثا عن دلائل على تفسيرات أخرى.

وكقاعدة عامة، كلما بدأ الشخص المعالجة بصورة مبكرة كانت النتيجة أفضل. ويعزى ذلك جزئيا إلى أن الجسم سيؤوي كمية أقل من الڤيروس يمكن التعامل معها (تدبيرها) على نحو أفضل؛ كما يعزى ذلك إلى أن الأدوية لا يمكنها أن تُبطل الضرر النسيجي الذي يسببه الڤيروس قبل بدء المعالجة. وهذه النتيجة، إضافة إلى البحث في سبل الوقاية، تعني أن الطريقة المثلى لاستعمال هذه الأدوية قد تكون باقترانها باختبارات فورية تُشعر بوجود عدوى بدئية قبل ظهور الأعراض لدى الشخص المريض. ومن السهل التصور أن الناس، في المستقبل القريب، سيمسّون بلسانهم، فرضا، كل صباح شريطا صغيرا من ورق الاختبار الكاشف للإنفلونزا. فإذا أبدى الشريط لونا معينا، عرف الأشخاص أنهم يؤوون ڤيروس الإنفلونزا وأنهم يحتاجون إلى البدء بتناول دواء مقاوم لها حتى يتفادوا أذى الأعراض. إن العتائد(8) السريعة الكشف متوافرة الآن للاستعمال في عيادات الأطباء. ويحاول المصنِّعون أن يحسنوا الاختبارات كي تلائم الاستعمال المنزلي أيضا.

ومن المهم التحقق من أن الشخص قد أصيب بعدوى الإنفلونزا وأن ما به ليس مجرد زكام واضطراب آخر؛ لأن قدرة الأدوية المذكورة هي قدرة مضادة لڤيروسات الإنفلونزا فحسب. وستذهب هباء إذا ما أُخذت لتقاوم أنواع الزكام (التي تسببها أشكال أخرى من الڤيروسات)، والأرجيات allergies والعداوي البكتيرية التي تُحدِث أعراضا شبيهة بأعراض الإنفلونزا.

أسئلة
على الرغم من أن الأدوية الحاصرة للنيورامينيداز تثير حماسة كبيرة، تبقى هناك بعض التساؤلات المحددة. فالمنطق يملي أن تثبيط التنسخ الڤيروسي وإنقاص المضاعفات الثانوية يجب أن ينقذا الحياة، ولكن لا يعرف حتى الآن ما إذا كانت الأدوية ستقي فعلا من الموت.

وعلاوة على ذلك، إن معظم الأدوية تقريبا التي يطلقها البشر على الڤيروسات والبكتيريا يضعف تأثيرها في النهاية بسبب مقاومة الڤيروسات والبكتيريا للدواء. وفي حين تصارع المكروبات (الأحياء المجهرية) من أجل البُقْيا، فإن تلك المكروبات التي تغير من هدف الدواء وتجعل هذا الدواء غير قادر على تعرفها، تستطيع أن تفلت من تأثيرات الدواء. إن الأمانتادين والريمانتادين هما من بين تلك الأدوية التي ابتليت بمشكلة المقاومة الدوائية. ترى هل توجد أية أسباب للظن بأن الأدوية الجديدة للإنفلونزا ستنجو من هذا المصير؟

في الحقيقة، هنالك أسباب. لقد حاول العلماء جاهدين أن ينتجوا ذراري لڤيروس الإنفلونزا في المختبر مقاومة للزاناميفير والمركب GS 4101، ولم يحالفهم حتى الآن إلا نجاح محدود. فقد اكتسبت بعض الذراري مقاومة، كما هو متوقع، عن طريق تغيير الحموض الأمينية في الموضع الفعال من النيورامينيداز. ولكن هذه التبدلات جعلت الإنزيم أقل ثباتا وأقل فعالية من المعتاد، مما يوحي أن بُقيا الڤيروس في الجسم سوف تتأثر سلبا.

وهناك ذرار أخرى أصبحت مقاومة لا بتبديل النيورامينيداز بل بتغيير البنية الكيميائية للراصة الدموية. ويجب تذكُّر أن النيورامينيداز ضروري لتعرية حمض السياليك من الجسيمات الڤيروسية الحديثة النشوء، حتى لا تَلْصق الراصة الدموية بحمض السياليك في الجسيمات المجاورة وتمنع الڤيروس من الانتشار إلى خلايا أخرى. إن التغير في الراصة الدموية أنقص أُلفتها لحمض السياليك، مما جنّب بالتالي الحاجة إلى تدخل النيورامينيداز. وعلى الرغم من أن الأمر قد نجح في المستنبت الخلوي، فإن هذه الزمرة الثانية من الطافرات mutants لم تُظهر مقاومة للأدوية في الحيوانات. ومن الممكن أن نتصور أن الرّبْط المُضْعَف بين الراصة الدموية وحمض السياليك قد أنقص من عدوائية infectivity الذراري بإضعاف مقدرتها على الدخول إلى الخلايا.

ليست الأدوية الحاصرة للنيورامينيداز وحدها قيد الدراسة. فالعلماء يحاولون منذ فترة طويلة إعداد أدوية «سادّة» تستهدف موضع ربط حمض السياليك على الراصة الدموية مثلا، إلا أن الجهود أخفقت حتى الآن. لقد تبيَّن أن الأمانتادين والريمانتادين، وهما الدواءان المتوافران في الأسواق، قد استعملا بنجاح قبل معرفة آلية فعلهما. ومن الواضح الآن أنهما يتدخلان في فعالية بروتين ڤيروسي يدعى M2 ويعمل كقناة أيونات (شوارد). ويفسّر تثبيط M2 هذا لماذا لا تمتلك الأدوية تأثيرا ضد الإنفلونزا من النمط B: إن تلك الڤيروسات لا تحمل جزيء M2. وفي حين تستمر البحوث على أدوية جديدة، تستمر أيضا الجهود لتحسين لقاحات الإنفلونزا [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 68 و69].

وما بين الجائحات يشيع حدوث أوبئة للإنفلونزا، وهي مهمة على الرغم من أنها أقل شأنا. ففي عام 1994 قدّرت المراكز الأمريكية للوقاية ومكافحة الأمراض Centers for Disease Control and Prevention، أن نحو تسعين مليونا من الأمريكيين (نحو 35 في المئة من السكان) قد أصيبوا بعدوى الإنفلونزا. وقد قضى أولئك الناس في المجموع 170 مليون يوم في السرير وأضاعوا 69.3 مليون يوم عمل. ومن الوجهة النمطية تصيب الإنفلونزا 10 إلى 20 في المئة من سكان الولايات المتحدة كل عام وتسبب نحو 000 20 وفاة نتيجة المضاعفات الناجمة عنها.

ومن المحتمل خلال السنوات القليلة القادمة أن تنخفض هذه الأعداد شأنها شأن الأعداد المرتبطة بالجائحات. وسيتحقق هذا عندما تتوافر الأدوية المضادة للإنفلونزا وعندما تصير اللقاحات أوسع استعمالا وأسرع إنتاجا. وقد يتجه المجتمع في النهاية نحو عصر تكون الغلبة فيه للجنس البشري على ڤيروس الإنفلونزا المروع جدا.


المؤلفون
W. Graeme Laver - Norbert Bischofberger - Robert G. Webster
ساهموا جميعا في تحقيق التقدم في مكافحة أوبئة الإنفلونزا (النزلة الوافدة) وجائحاتها. لاڤر، وهو أستاذ في الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية في الجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا، أنتج أول بلورات النيورامينيداز ويواصل تزويدها للباحثين الذين يصمّمون مثبطات نيورامينيداز جديدة. وبيشوفبيرگر هو النائب الأول لرئيس مجلس الإدارة لشؤون البحوث في الشركة Gilead Sciences بولاية كاليفورنيا. أما وبستر، الذي كان مع لاڤر أول من تعقب الذراري الجائحية لڤيروسات الإنفلونزا في الحيوانات الدنيا، فهو أستاذ ورئيس قسم علم الڤيروسات والبيولوجيا الجزيئية في مستشفى أطفال سانت جود للبحوث في ممفيس. وهو أيضا مدير المختبر المشترك لدراسة إيكولوجية ڤيروسات الإنفلونزا في الحيوانات الدنيا والطيور التابع لمنظمة الصحة العالمية.


مراجع للاستزادة 
THE PLAGUE OF THE SPANISH LADY. Richard Collier. Atheneum, 1974.
EPIDEMIC AND PEACE, 1918. Alfred W. Crosby, Jr. Greenwood Press, 1976.
INFLUENZA. Edwin D. Kilbourne. Plenum Medical Book Company, 1987.
INFLUENZA VIRUS. Frederick G. Hayden and Peter Palese in Clinical Virology. Edited by Douglas D. Richman, Richard J. Whitley and Frederick G. Hayden. Churchill Livingstone, 1997.
TEXTBOOK OF INFLUENZA. Edited by Karl G. Nicholson, Robert G. Webster and Alan Hay. Blackwell Science, 1998.
Scientific American, January 1999
 

Disarming Flu Viruses(*)
(1) (متغايرات) variants.
(2) متعلقة بالجسم ككل.
(3)injection - free
(4) virulence
(5) pantropic
(6) dummy pill
(7) bout
(8) kits

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق