Translate

الاثنين، 19 مارس 2012

الأفلام السينمائية في عيوننا

الأفلام السينمائية في عيوننا(*)
تعالج الشبكية معلومات تفوق كثيرًا ما تخيَّله أي شخص على الإطلاق، بحيث تُرسِل دستة أفلام سينمائية مختلفة إلى الدماغ.
<F.ويربلين> ـ<B.روسكا>


كثيرًا ما نأخذ قابلياتنا الإبصارية المذهلة كأمر مسلَّم به، بحيث لا يتوقف إلا قليل منا متفكِّرًا في الكيفية التي نحقق بها الرؤية فعليّاً. ولعدة قرون، ربط العلماء بين آلة المعالجة الإبصارية وآلة التصوير التلفازية؛ إذ تركِّز عدسة العين الضوء الداخل على صفيف(1) من المستقبلات الضوئية في الشبكية. وتحوِّل هذه المكاشيف الضوئية تلك الفوتونات بطريقة سحرية إلى إشارات كهربائية، يجري إرسالها على طول العصب البصري إلى الدماغ لمعالجتها. ولكن التجارب الحديثة التي أجريناها نحن الاثنين وغيرنا، تشير إلى أن هذه المضاهاة الوظيفية غير كافية. فالشبكية تقوم في الواقع بإجراء كم هائل من سيرورات المعالجة في داخل العين مباشرة، ومن ثمّ تُرْسَل سلسلة من العروض  representation الجزئية إلى الدماغ لتفسيرها.

لقد توصلنا إلى هذا الاستنتاج المدهش بعد قيامنا باستقصاء شبكيات عيون الأرانب المشابهة بشكل رائع لشبكيات عيون البشر. [وقد أدى عملنا على شبكيات عيون حيوانات السلمندر، وهو نوع من الضفدعيات، إلى نتائج مماثلة]. إن الشبكية فيما يبدو هلالٌ بالغ الصغر من مادة دماغية جرى إبعادها إلى محيط الجسم من أجل أن تحظى باتصال مباشر مع العالم الخارجي. ونتساءَل هنا كيف تُركِّب الشبكية العروض التي ترسلها؟ وكيف "تبدو" هذه العروض عندما تصل إلى المراكز الدماغية الإبصارية؟ وكيف تنقل تلك العروض الثراء الضخم للعالم الحقيقي؟ وهل تضفي هذه العروض أي معان تساعد الدماغ على تحليل مشهد ما؟ هذه التساؤلات هي مجرد بعض الأسئلة الملحة التي شرع بحثنا في الإجابة عنها.

لقد وجدنا أن خلايا عصبية متخصصة (أو عصبونات) قابعة عميقًا داخل شبكية العين، تقوم بإرسال ما يُعتقد بأنه دستة مسارات tracks  من أفلام سينمائية (بمعنى مستخلصات متميِّزة  distinct abstractions من العالم المرئي). ويجسد كل مسار بيانًا ابتدائيّاً لأحد جوانب المشهد الذي تواصل الشبكية تحديثه وإرساله إلى الدماغ. فعلى سبيل المثال، ينقل أحد المسارات صورة تشبه الرسم التخطيطي، بحيث لا تحدد إلاَّ حافات الأشياء؛ في حين يستجيب مسار آخر للحركة التي غالبًا ما تكون ذات توجيه معين، كما تحمل بعض المسارات الأخرى معلومات حول الظلال والإنارات. هذا ولا يزال من الصعب تصنيف بعض العروض الأخرى في أبواب تخصُّها.

 يتم نقل كل مسار بواسطة حشد من الألياف تخصُّه ضمن العصب البصري إلى المراكز العليا في الدماغ، حيث يحدث المزيد من سيرورات المعالجة الأكثر تعقيدًا. [وللجهاز السمعي البشري كذلك بنيان مماثل، إذ ينقل كل عصب سمعي معلومات تخصُّ مجالاً محدودا جدا من طبقات الصوت pitches، ثم يقوم الدماغ بعد ذلك بتجميعها معا]. لقد بين الباحثون الذين يدرسون القشرة الإبصارية أن الصفات المختلفة (مثل: الحركة واللون والعمق والشكل) تُجرى معالجتها في مناطق مختلفة من الدماغ، وأن إصابة منطقة معينة يمكن أن تسبب عجزًا في حس وإدراك وفهم صفة محددة ما. ولكن مقدرة الدماغ على مجرد استكشاف مثل هذه الصفات إنما تنشأ في المقام الأول في الأفلام السينمائية الشبكوية retinal movies.

تبيِّن الأشكال في الصفحات التالية أفضل تفسيراتنا فيما يخصُّ الكيفية التي تقوم بها الشبكية بابتداع الصور الكهربائية السريالية surreal التي تخبر الدماغ بالمعلومات. وبمتابعة بحثنا سنبدأ بإلقاء بعض الضوء على الكيفية التي أُنشيء وفقها كل فيلم من هذه الأفلام السينمائية، ولكننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال تقديم نموذج كامل. هذا وتحمل الأفلام السينمائية الاثنا عشر كافة المعلومات التي سوف يستقبلها الدماغ في أي وقت لتأويل العالم المرئي. ولكننا لا نستطيع حتى الآن أن نقول كيف يتم دمج أنماطها وأشكالها. ربما كانت تلك الأفلام السينمائية تعمل كدالاّت clues  أوّلية، كنوع من السقالات scaffolding  يُشيِّد عليها الدماغ مضامينه. ولا يختلف هذا المفهوم كثيرًا عما يوصف «بعين العقل» mind's eye التي تُسبك كلمات رواية ما في حكاية هادفة.




ومع أن عروض الشبكية فيما يبدو تلتقط الحقائق الإبصارية لمشهد ما (كمائدة عشاء أو شلال أو وجه يتحدَّث) بشكل تام، فإن هناك مكونات أساسية تبدو مفقودة. فلا شيء يتعلق بالمشاعر أو المواقف أو الحبكة أو المباءَرة يظهر ماثلاً. ربما تكون تلك السمات أصيلة إلى حد ما في مسارات الأفلام السينمائية التي يترجمها الدماغ، أو ربما نكون باستخدامنا شبكيات عيون الأرانب قد فشلنا في العثور على جميع العروض التي يمكن أن تلتقطها شبكية العين البشرية ـ والمتمثلة في عروض عالية الميز يمكن أن تستخلص نعوتا كالمشاعر بطرق مازال علينا أن نكشف عنها النقاب.

ومع ذلك فمن الواضح أن عروض الشبكية retina's representations تشكل لغة إبصارية طبيعية. ويتمتع اليوم فهم هذه اللغة بأهمية خاصة. فثّمة مجموعات بحثية على امتداد العالم تحاول إعادة حاسة الإبصار إلى المكفوفين، وذلك عبر إدخال محَسٍّ sensor  صنعي أمام العصب البصري مباشرة، بحيث يقوم مقام الشبكية. لقد تقدم هذا العمل، ولكن لا تزال النتائج فجّة نسبياً، إذ لا تزال المبثوثات transmission تقتصر على ترجمات مبهمة للنماذج الأساسية. لقد بدأت تجارب على البشر في معهد Doheny Eye التابع لجامعة ساذرن كاليفورنيا. وثمة تجارب مماثلة على وشك الانطلاق في كلية الطب بجامعة ولاية واين. صحيح إن الهدف النهائي لهذه المحاولات بعيد المنال على الأرجح، بيد أن نجاحها يكمن أخيرًا في تزويد الدماغ بأنماط من النشاط تشبه تلك التي تزوده به الشبكية في الأحوال الطبيعية، بما في ذلك اللغة الطبيعية للرؤية. وسوف يتمثّل التحدي اللاحق في اكتشاف كيفية شبكhook-up  كل صفة تجريدية بألياف مناسبة في العصب البصري.

إن الفهم المفصل للغة الطبيعية للإبصار التي تتكون داخل الشبكية ضروري لصنع الأجهزة البديلة prosthetic  الناجعة. وفي الوقت نفسه سوف يساعد هذا الفهم الباحثين على تعلم المزيد عن الكيفية التي تشترك فيها العين والدماغ معًا في الرؤية بوضوح، وكيف يتم خداعهما بصريّاً، وكيف يتتبعان الأجسام السريعة الحركة، وكيف يعبِّئان الأجزاء الناقصة التي تتضمنها أي صورة معروضة على شاشات التلفاز أو الحاسوب أو سينما السيارات. ونحن نأمل أن يكون وصفنا لقدرة الشبكية على المعالجة التمهيدية هذهِ خطوة نحو الهدف.

 
نظرة إجمالية/ رؤية سريالية(***)
 
إن وظيفة الشبكية أكثر بكثير من مجرد تمرير إشارات بسيطة إلى الدماغ. فمن المثير للدهشة أنها تستخرج دستة عروض متميّزة لأي مشهد مرئي، وذلك على هيئة أفلام سينمائية معقدة ذات ظلال باهتة كالأشباح تولدها أنواع قليلة نسبيا من العصبونات.
يستخدم الدماغ هذه العروض التجريدية لبناء عالم مرئي دقيق في التفاصيل وغني بالمعاني.
إن فهم "اللغة البصرية" التي تحملها هذه الأفلام السينمائية سوف يساعد الباحثين الذين يبتدعون أجهزة إحساس بصرية صنعية قد تساعد المكفوفين على الرؤية. وينبغي أيضًا أن تدعم تلك التبصرات الجهود المبذولة لتحديد الكيفية التي ترى فيها العين والدماغ الأشياء بوضوح.
 
تشريح نشيط(***)

ينشأ سلوك الشبكية المذهل من بنيتها المعقدة. لقد أضافت التجارب المضنية التي أجراها الكثير من المتخصصين تفاصيل فيزيولوجية إلى الأنموذج الكلاسيكي الخاص بالداريّة circuitry الشبكوية الذي فصّله أول مرة عالم التشريح الإسباني العظيم <R.S.كاجال> قبل قرن من الزمن، والذي ظل يعاد في مراجع التشريح منذ ذلك الحين إلى اليوم 1. فالشبكية الشفافة تتألف من طبقات من العصبونات مرتبّة بشكل بديع 2. وتضمّ الطبقة الخارجية الأكثر بعدًا عن العدسة كلاًّ من خلايا النبابيت (الأعمدة)   rodsوالمخاريط cones التي تمتص الضوء الوارد إلى كليهما وتحوله إلى فعالية عصبونية. وتتصل هذه المستقبلات الضوئية بعشرة أنواع مختلفة من العصبونات تعرف بالخلايا ذات القطبين (ثنائية القطب)  bipolarالتي ترسل أذرعًا طويلة ناقلة للإشارات (تسمى محاوير) إلى طبقة مركزية «ضفيريةٍ داخلية» inner plexiform. وتبدو هذه العصابة كسلسلة من عشر نضائد (طبقات) strata متميزة متوازية. ويُوصل محوار كل خلية من أنماط الخلايا ذات القطبين إشاراته إلى قلّة من هذهِ النضائد فقط.

وعلى الجانب الداخلي الأقصى من الطبقة الضفيرية  3  يوجد اثنا عشر نمطا مختلفا من الخلايا العقدية ganglion cells (باللون الأرجواني). ويرسل معظم هذه الأنواع امتدادات تشبه الأصابع تسمى تغصناتdendrites  إلى داخل نضيدة واحدة منفردة، حيث تستقبل دَخل استثاريّاexcitatory input  من عدد محدود من العصبونات ذات القطبين (باللون الأخضر). وتولِّد الخلايا العقدية خَرج output  من كينونات سينمائية ينقلها العصب البصري إلى مناطق الدماغ المختلفة لتفسيرها وتأويلها. هذا وتتفرع بعض التغصنات العقدية تفرعا واسع النطاق، بحيث تنقل معلومات متناثرة؛ في حين تتفرع تغصنات أخرى على نطاق أكثر ضيقا، بحيث تنقل معلومات عالية الميز. هذا ويستجيب البعض للتغير المتزايد في معدل ما تطلقه الخلايا ذات القطبين من نواقل عصبية neurotransmitter (الجزيئات المرسالية)، في حين يستجيب البعض الآخر للتغير المتناقص في هذا المعدل.




 إن دخول inputs  التي ترسلها الخلايا ذات القطبين إلى خلايا خروج outputs العقدية ضمن كل نضيدة من النضائد لا تكفي لتوليد دستة العروض السينمائية في جميع الأحوال، ويشار هنا إلى أن الإشارات التي تبثها الخلايا ذات القطبين تحوِّرها تشكيلة منوّعة من العصبونات الصغيرة تسمى الخلايا المقرنية (العديمة الاستطالات) amacrine (باللون الرمادي). ويزاول بعض هذه الخلايا عمله بشكل عرضاني ضمن إحدى النضائد على نحو يمنع التواصل بين الخلايا العقدية البعيدة في هذه النضيدة. كما تثبط عصبونات مقرنية أخرى انتقال الإشارات عموديّا بين النضائد، ومن ثم بين الأفلام السينمائية المختلفة -كما لو كانت تبلِّغ إحدى النضائد ألاّ تسجل ما تسجله نضيدة أخرى. وبهذه الطريقة تلتقط الخلايا المقرنية الإشارات وتبثها من أجل تنسيق المسارات السينمائية. وقد تمكن باحثون أمثال  <H.واسل> [من معهد ماكس پلانك لأبحاث الدماغ بفرانكفورت]، و<Th .يولر> [من معهد ماكس پلانك للأبحاث الطبية في هايدلبرج]، و<R.ماسلاند> [من مستشفى ماساشوستس العام] من تحديد 27 نمطا مختلفا من الخلايا المقرنية (إلى جانب 10 أنماط من الخلايا ذات القطبين و12 نمطا من الخلايا العقدية).

إن كل ما نراه في حيِّز ما نشاهده والزمن يمضي قدمًا، وحتى تسجيل نقطة سوداء ساكنة ثابتة في حيِّز ثلاثي الأبعاد لا لون له إنما يؤلف فيلما سينمائيا مادامت الشبكية تراه بشكل متواصل والزمن يتقدم. صحيح إن خلايا كثيرة من كل نمط من الخلايا العقدية تشغل الشبكية ويقوم طقم من هذه الأنماط بنقل فيلم سينمائي منفرد، ولكن أفلام الخلايا العقدية السينمائية هذهِ تمثل سيولاً مستمرة من الإشارات على عكس أفلام شباك التذاكر التي يُجرى إعدادها صورة فصورة.

إن التآثرات interactions بين الخلايا ذات القطبين والخلايا المقرنية التي تقوم بقراءَتها في آن معًا كل مجموعة من الخلايا العقدية تؤلِّف البيانات التي نستقبلها لتأويل العالم الإبصاري. فحينما نقرأ ونمسك بالأشياء ونتعرف الوجوه ونسير هنا وهناك، تمثِّل التآلفات المختلفة لهذه الأفلام السينمائية الدالات الإبصارية الوحيدة التي يتلقاها الدماغ. إنها تشكل "لغة إبصارية" أصيلة ذات صياغة وقواعد نحوية خاصة بها تشمل مجموع المفردات العصبية لحاسة الإبصار.

أفلام سينمائية في ومضة(****)

 تستند توصيفاتنا للنشاط المعقد في الشبكية إلى تجاربنا الخاصة، فنحن نقوم بتسجيل ما يحدث في خلايا عقدية فرادى بواسطة إبرة زجاجية مجوفة بالغة الصغر. ويتم بواسطة هذا الممص الميكروي (المجهري) حقن صبغ أصفر اللون ينتشر بسرعة عبر جميع تغصنات أي خلية عقدية منفردة مبينا لنا النضائد التي يصلها ذلك الصباغ. ويعمل هذا الممص أيضا كإلكترود يقيس النشاط الكهربائي للخلية، وهذا يعكس توليفة الإشارات الاستثارية الواردة من الخلايا ذات القطبين والإشارات التثبيطية الواردة من الخلايا المقرنية.

ولنكتسب شعورًا بالأفلام السينمائية التي تسيِّرها الخلايا العقدية إلى العصب البصري، شرعنا أولاً، بمنتهى البساطة في تسجيل كيف صورت مصفوفة خطية من الخلايا العقدية ومضة مربعة من ضوء جرى تسليطه على شبكية عين أرنب 1 . لقد استمرت الومضة ثانية واحدة واقتصرت على مربعٍ قياسُ كل جانب من جوانبه 600 ميكرون. وهكذا وقع الوميض على منطقة صغيرة محددة من الشبكية لفترة زمنية معينة.

قمنا بتسجيل إشارات الاستثارة والتثبيط التي استقبلها نمط واحد من الخلايا العقدية خلال هذه الفترة وكرّرنا هذا الإجراء على كل نمط من أنماط دستة الخلايا العقدية. فكان لكل نمط استجابة مميزة، كما تنوّع مدى الاستجابات بشكل لافت للنظر. وفي الشكل أدناه  2  يمثِّل كل مربع ثانية واحدة، ويشير اللون إلى شدة تيار الإشارة في واحد من أنماط الخلايا.

 

وكان من المثير للاهتمام بالنسبة إلى نمط الخلايا العقدية الموضح هنا أن الخلايا على امتداد عرض الومضة قد استجابت، ولكنها لم تكن ناشطة طوال الفترة الزمنية التي كان الضوء يسطع فيها. وكان من الغريب أن بعض الخلايا خارج امتداد الـ 600 ميكرون قد تنشّطت بعد انتهاء الومضة، وهو السلوك الذي ظهر على المخطط على شكل فصَّين (باللون الأزرق) بعد زمن الثانية الأولى. وهناك ساحة ثالثة داخل منطقة الومضة تنشطت كذلك نشاطا طفيفا بالقرب من العلامة التي تحدد مرور ثانيتين.

كيف لنا أن نفسر هذا النمط من الاستجابة ؟ لو ظلت جميع الخلايا ترسل خروج outputs طوال مدة الثانية لكان نموذج الاستجابة «نيِّرًا» عبر الفسحة span  جميعها طوال الثانية بأكملها، بحيث يملأ المربع المقابل على لوحتنا grid  3   . ولكن في الحقيقة تحدث تصفية للخرج، فهو يبلغ في الاتساع عرض الومضة ولكنه يُقْتَضَبُ بانقضاء الوقت بحيث لا يستمر إلاَّ جزءًا من عشرة أعشار الثانية، ولا يبدأ إلاَّ بعد نحو عُشْر الثانية من بداية الومضة. لم يكن هناك فقط تأخير طفيف قبل استجابة الخلايا العقدية، بل إن هذه الخلايا استجابت لمدة تكفي فقط لملاحظة كيف تغير الضوء الداخل من مظلم إلى ساطع. وربما يمثِّل هذا النمط من الخلايا العقدية بدء الإضاءة وليس بقاءَها المتصل. وربما كان التنشيط الطفيف للخلايا الممثَّل في الفصين النائيين ينقل نوعا من إشارات "التوقف". أما البقعة الزرقاء الثالثة عند علامة مرور ثانيتين فإنها مكوِّن من مكوِّنات الإشارة لم نفهمه بعد.

صحيح إن كل مجموعة من دستة الأطقم المختلفة للخلايا العقدية تبتدع قراءة مميَّزة تتركَّز على ناحية ما من العالَم الإبصاري، ولكن علينا أن نتذكر أن هذا الخرج ينجم عن الاستثارة التي تحدثها الخلايا ذات القطبين والتنشيط الذي تحدثه الخلايا المقرنية. وما النتيجة النهائية إلاَّ النموذج الصافي النهائي المشذّب. هذا وتبيِّن المخططات أدناه   4  و   5  و   6  كلا الدخل والخرج النهائي لنمط من الخلايا العقدية يختلف عن النوع الموضح سابقا.

بهذه الطريقة يرسل كل نمط من الخلايا العقدية تمثيلا زمكانيّا spacetime نهائيّا على طول العصب البصري إلى الدماغ. ويكون كل تمثيل مُنْتَجا مميِّزا ينشأ عن زوج من نماذج الاستجابة الاستثارية والتثبيطية   7   . وتُرسِل أنماط الخلايا العقدية الاثنا عشر مع مرور الزمن اثنيْ عشر من هذه السيول السينمائية إلى الدماغ. (ولم نسجل هنا إلاَّ سبعة من أجل جعل التجربة طيعة). هذا ويحدث تنوع لا يصدق من النشاط عند الاستجابة لمربع وامض بسيط ما.
   
وجهٌ مُصَفَّيً(*****)

هدفنا، بالطبع، هو معرفة كيف تستخرج كل مجموعة من الخلايا العقدية معنيً من معاني العالم المرئي. ولما كانت الشبكية مصممة لمعالجة معلومات تفوق في الأهمية مجرد ومضة الضوء، فإننا تساءلنا ماذا يمكن أن يحدث حينما تشاهد الشبكية مشهدا طبيعيا مثل شخص يتحدث. فما الذي ستظهره عروض كل من الأفلام الاثني عشر؟ وهل يستخرج الفيلم الواحد صفة تغفلها الأفلام الأخرى؟

وعلى الرغم من الشروح التي تبدو مباشرة ودقيقة عن الكيفية التي فهمنا بها معالجة مربع من الضوء، فإنه يصعب، إلى حد لا يُصدَّق، سَبْر شبكية عين أرنب حي فعليّاً باستخدام عدد كافٍ من الإلكترودات(4) أثناء ومضة بسيطة مدتها ثانية واحدة، باعتبار ذلك أقل بكثير من مشهد طبيعي يدوم دقيقة من الزمن. ومن أجل هذا التمرين الأخير قمنا ببرمجة المعلومات من تجربة الومضة داخل حاسوبٍ يحاكي شيپةَchip  شبكيةٍ صنعية شهيرة (هي الشبكية العصبية الخلوية) كان قد طورها  <L.شوا> [من جامعة كاليفورنيا ببيركلي] و<T.روسكا>(5) [من الأكاديمية المجرية للعلوم في پودابست]. فقد حوّلت هذه المنظومة system المربع الوامض إلى اثني عشر نموذجا زمكانيّا من الاستثارة والتثبيط تشبه إلى حد كبير النماذج التي تولِّدها الشبكية الحيّة.




وبشيء من الجرأة عرضنا شيپة الشبكية المبرمجة في مشهد طبيعي، إذ جلس أحدنا (<ويربلين>) أمام الكاميرة وتحدث لمدة لا تزيد كثيرا على دقيقة. وهنا ولّد جهاز المحاكاة الذي قام ببرمجته لهذا التمرين <D.باليا> [من جامعة بودابست للتقانة والاقتصاد] بياناتا سينمائية لسبعة من عروض الخلايا العقدية المختلفة  1 .

ولتأكيد أن محاكاة الشيپة كان دقيقا، قمنا بقياس استجابات بضعة عصبونات في شبكية الأرنب الحي إزاء وجه يتحدث. وهنا اتضح بسرعة أن كل مجموعة من الخلايا العقدية تعمل كمصفاة filter تستخلص بيانا زمكانيّا مميَّزا للعالم ويرسله في فيلم سينمائي مميّز إلى الدماغ. وقد قمنا بإضفاء لون على كلٍّ من العروض التي ولدها الحاسوب بغية تمييز أحدهما من الآخر.

فعلى سبيل المثال، يبدو أن إحدى المصافي filters لم تستخلص إلاَّ حافات edges الملامح (باللون البرتقالي في الصفحة المقابلة) الموجودة على الوجه المتحدث بحيث يظهر العالم من الناحية الأساسية على شكل رسم خطي line-drawing، في حين قامت مصفاة أخرى (باللون الأرجواني) بإبراز الظلال أسفل العينين والأنف، وأنتجت مصفاة ثالثة (باللون البيج) أضواء ساطعة بدلاً من الظلال والحافات.

بالطبع يمكن أن تكون استنتاجاتنا فيما يخصُّ المعلومة التي التقطتها كل واحدة من المصافي الاثنتي عشرة غير صحيحة. ولسوء الحظ فإنه يستحيل تمثيل النماذج التي سجلناها على الصفحة المطبوعة بشكل دقيق، لأن تلك النماذج تتوالى متواصلة كأفلام سينمائية، ولكن يجب ملاحظة أنها تحتوي على عدة فرجات فارغة. ومع ذلك، فإن طريقتنا تبيِّن أن كل واحدة من المصافي تكون حساسة تجاه سمة معينة من سمات المظهر الجسدي للوجه وحركته، وأن كل نمط من أنماط الخلايا العقدية له طريقته المميّزة في رسم صورة العالم.

وكذلك أتاح لنا تلوين العروض representation اقتفاء إسهامات كل مجموعة من الخلايا العقدية في البيان المؤتلف النهائي المتولِّد بعد تراكب الأفلام السينمائية. لقد جمعنا الأفلام السينمائية السبعة المنسابة في فيلم سينمائي رئيسي، فأعطت أربع أطر frames مأخوذة من لحظات مختلفة لحديث <ويربلين> الذي دام دقيقة واحدة،   2  إحساسا بكيفية تحرك وجهه في أثناء انفتاح شفتيه وانغلاقهما، وذلك بالاستناد إلى بروز بعض العروض وخفوتها على نحو تجعله يبدو كالشبح، وهذا هو ما يستقبله الدماغ.

إن أفلامنا السينمائية ما هي إلاَّ تقريبيّة، ومع ذلك فهي توضح بشكل لافت أن هذا النسيج العصبي الرقيق (أي الشبكية) في مؤخر العين يقوم بفرز العالم المرئي إلى دستة مكوّنات متميّزة، وتسافر تلك المكونات سليمة ومنفصلة إلى مناطق إبصارية متميزة في الدماغ: بعضها واعٍ وبعضها الآخر غير واعٍ. إن التحدي الذي يواجهه علم الأعصاب حاليًا هو فهم كيف يفسر الدماغ ويؤوِّل رزم المعلومات هذه ليولد منظرا متكاملا رائعا للواقع.


المؤلفان
Erank Werblin - Botond Roska

 قاما بكشف النقاب عن كثير مما يخصُّ الدّاريةcircuitry  الوظيفية للشبكية في أوائل التسعينات في جامعة كاليفورنيا ببيركلي. ويواصل <ويربلين> عمله هناك أستاذًا في علم الأعصاب، وكان قد نشر في عام 1973 مقالة في سيانتفيك أمريكان بعد اكتشافه هو وزميله  <J.دولنج> [من جامعة جون هوپكنز] خصائص فيزيولوجية متميّزة تنفرد بها عصبونات الشبكية. أما <روسكا> فهو رئيس مجموعة في معهد فريدريش ميشر للأبحاث الطبية البيولوجية  في بازل بسويسرا، حيث يعمل على تطوير تقنيات جينية لتحديد المسارات الإبصارية.


  مراجع للاستزادة 
 
Directional Selectivity is Formed at Multiple Levels by Laterally Offset Inhibition in the Rabbit Retina. Shelley. Fried, Thomas A. Münch and Frank S. Werblin in Neuron, Vol. 46, No.1, pages 117-127; 2005
 
Parallel Processing in Retinal Ganglion cells: How Integration of Space-time Patterns of Excitation and Inhibition Form the Spiking Output. Botond Roska, Alyosha Molnar and Frank S. Werblin in Journal of Neurophysiology, Vol. 95, pages 3810-3822; 2006.
 
sa يمكن رؤية الشريط السينمائي الذي صنعته الشبكية لوجه المتحدّث على الموقع:
www.sciam.com/ontheweb
 

(*) THE MOVIES IN OUR EYES
(**) Overview /Surreal Vision
(***) Active Anatomy
(****) Movies in aFlash
(*****) Face Filtered


(1) array
(2) rods أو الأعمدة.
(3) tip أو طرف
(4) إلكترود أو مسرى أو قطب كهربائي.
(5) هو والد <B.روسكا> المشارك في تأليف هذه المقالة
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق