Translate

الأحد، 25 مارس 2012

رائحة إنسان

رائحة إنسان(*)
إن فكَّ كود الكيفية التي يشم بها البعوض أهدافه البشرية قد
يؤدي إلى صنع فِخاخ ومنفّرات أفضل تكبح جماح انتشار الملاريا.
<R .J. كارلسون> - <F .A. كاري>

باختصار
   لم يفهم العلماء بصورة كاملة كيفية تمييز البعوض لرائحة عَرَق ونَفَس البشر من غيرها من الروائح الموجودة في الطبيعة.

   قام المؤلفان بإدغام جينات البعوض في ذباب الفاكهة - في المختبر - لإنتاج كواشف للروائح، ومن ثم اختبار حساسيتها لنحو 110 مواد ذات رائحة. أظهرت التجارب وجود مجموعة صغيرة من كواشف الرائحة لدى البعوض، والموجهة بدقة لكشف رائحة البشر. ويمكن لتشخيص المواد الكيميائية التي يمكنها خداع أو إعاقة تلك المستقبلات الموجهة أن يؤدي إلى تحسين الفخاخ والمنفّرات، مما يمكنه من أن يساعد على كبح جماح انتشار الملاريا.
 

يمتلك البعوض قدرات شمّية متطورة ملحوظة. فهذه الحشرات التي تنشر الملاريا في جميع أنحاء إفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى تأتي مجهزة بشكل متميّز للغاية للعثور على دم الإنسان. وهي تتحرك باتجاه رائحة النَّفَس والعَرَق البشريين، وعندها سرعان ما تُقحم أفواهها الشبيهة بالإبر في جلد الضحية. وأثناء تناولها طعامها ينقل لعابها طفيلي الملاريا إلى داخل الجرح. ومن ثَمَّ، فمن خلال لدغة بسيطة، يمكنها أن تؤدي إلى إزهاق حياة في نهاية المطاف.
 
يفضل البعوض الآخر أنواعا مختلفة من الحيوانات- مثل الماشية أو الطيور. حتى إن بعضها، على ما يبدو، يفضّل أفرادا بعينهم ضمن المجموعة المستهدفة؛ فبعض الناس المشاركين في حفلة شواء صيفية يتعرضون لهجوم البعوض بلا هوادة، في حين لا يتعرض بعضهم الآخر للّدغ مطلقا. ويمكن لبعض البعوض تعرّف ضحاياه عن بُعد أكثر من 165 قدما.
 
إذا تمكّن الباحثون من فهم كيفية عمل النظام الشمّي لدى البعوض - أي كيف يتمكن من اكتشاف تلك المجموعة المحددة بدقة من المواد الكيميائية الطيّارة المميزة لمصدرها المفضّل من الدم - فسيتمكنون من ابتكار طرق جديدة أكثر فعالية لطمس تلك الرائحة، أو «التشويش» على «الرادار» الشمّي لتلك الحشرات للوقاية من اللدغ. وفي البلدان المتقدمة، غالبا ما تكون مثل هذه اللدغات مجرد مصدر للإزعاج، لكنها في إفريقيا وغيرها من الأماكن تسبب ما يقرب من مليون حالة وفاة سنويا بسبب الملاريا وحدها.
 
نحن اثنان من بين العديد من الباحثين المصممين على مكافحة انتشار الملاريا. ومن دواعي سرورنا أننا حققنا في الآونة الأخيرة قفزات مثيرة فيما يتعلق بفك شفرة كيفية تمكّن بعوض أنوفيل گامبيي Anopheles gambiae، الناقل الرئيسي لطفيليات الملاريا، من اكتشاف رائحة ضحاياه من البشر. وتشير النتائج الحالية إلى أفكار لصنع المنفّرات والفخاخ التي يمكنها تعزيز الإجراءات الدفاعية الأخرى مثل الناموسيات، وربما التوصل إلى لقاح فعال في يوم ما.
 
جينات للروائح(**)
 
ولاستقصاء كيفية اكتشاف البعوض المسبّب للملاريا فرائسه البشرية، بدأنا بحشرة مختلفة، وهي ذبابة الفاكهة دروسوفيلا ميلانوگاستر Drosophila melanogaster. فعلى العكس من البعوض، يتكاثر ذباب الفاكهة بسرعة وتسهل تربيته في المختبر، كما يمكن تعديل جيناته بسهولة. وعليه أصبحت دروسوفيلا ميلانوگاستر الحيوان الذي تجرى عليه الأبحاث في العديد من المختبرات، ولذلك استخدمناها لاكتشاف الآليات الخلوية والجزيئية الأساسية المتعلقة بحاسة الشم لدى الحشرات، وهي معرفة يمكننا تطبيقها في التجارب الأكثر صعوبة على البعوض الأصعب في التعامل معه.
 

إن ذباب الفاكهة، مثل البعوض، يكشف عن الرائحة بواسطة قرون استشعار ولوامس فكية، وهي أعضاء تبرز من الرأس وتعمل بمنزلة الأنف. أما الشعيرات الصغيرة (الهُلب) tiny bristle التي تغطي هذه النتوءات فتغلّف نهايات الخلايا العصبية التي يمكن استثارتها، والمكرّسة للشمّ. تتسلل جزيئات الرائحة من خلال المسام الموجودة في الشعيرات لتصل إلى الجزيئات، أو «المستقبِلات»، المكتشِفة للروائح في الداخل. وعندما ترتبط الجزيئات بمستقبلات الرائحة، ترتحل إشارة كهربية عبر الخلية العصبية، أو العصبون، إلى دماغ الحشرة، مشيرة إلى أن الرائحة موجودة.
 
وطوال سنوات، حاولنا مع غيرنا من الباحثين، دون جدوى، العثور على الجينات الخاصة بمستقبلات الرائحة في الحشرات، آملين بأن نتوصل إلى الكيفية المحددة التي تتمكن بها هذه المخلوقات من التمييز بين الروائح التي لا تعدُّ ولا تحصى في البيئة. وأخيرا بدأت الاكتشافات تتوالى في عام 1999، حين تمكّن باحثو فريقنا [في جامعة ييل] وغيرهم من اكتشاف أوائل الجينات التي تكود للمستقبِلات. وبمرور الوقت، اكتشفنا 60 جينا لمستقبلات الرائحة في ذبابة الفاكهة. وفتحت معرفة تسلسل كود الدنا DNA لهذه الجينات الباب أمام فهم كيفية عمل هذه المستقبلات. وقد وجدنا أيضا أن التركيبة الوراثية للأجهزة الشمية لكل من ذباب الفاكهة والبعوض متشابهة، ومن ثَمَّ فإن دراسة الذبابة من شأنها أن تساعدنا على فهم حاسة الشم لدى البعوض.
 
جاءت الفكرة الرئيسية من سلالة من ذبابة الفاكهة دروسوفيلا ميلانوگاستر ذات طفرة جينية، والتي وصلت إلى مختبرنا بطريق المصادفة. ففي الشهر 11/2001، قدّم أحدنا (<كارلسون>) محاضرة في جامعة برانديس Brandies University القريبة من بوسطن، وكانت المحاضرة عن الجين Or22a، وهو أول جين مستقبلات الرائحة في ذبابة الفاكهة قد اكتشفه مختبرنا. وبعد تلك المحاضرة، تقدم أستاذ مساعد في جامعة برانديس إلى المنصة، وقال إنه يمتلك سلالة دروسوفيلا ميلانوگاستر ذات طفرة تفتقر إلى هذا الجين الذي يكود لمستقبلات الرائحة. وتساءل عما إذا كانت هذه السلالة ذات فائدة، وهذا الأمر لم يستغرق من <كارلسون> إلا جزءا من الألف من الثانية ليجيبه قائلا: «نعم!» وفي اليوم التالي، قاد <كارلسون> سيارته عبر الطريق السريع رقم 91، مصطحبا قارورة صغيرة تحتوي على الذبابة ذات الطفرة إلى مختبرنا بجامعة ييل في نيو هيڤن، كونيتيكت.
 

آلية تجريبية
أنف طافر يعلم أكثر(***)
   تمكّن الباحثون من عزل المستقبلات الكاشفة للرائحة لدى البعوض، التي تستجيب بقوة لرائحة البشر، وذلك باستخدام سلالة ذباب الفاكهة ذات طفرة تحتوي على عيب defect مفيد.
   (1) يتم زرع جين يكود لإحدى مستقبلات الرائحة لدى البعوض في عصبون شمي لدى ذبابة الفاكهة التي تفتقر إلى المستقبلات الشمّية.
   (2) يحرّض الجين العصبون على إنتاج المستقبلات المكودة، والتي ترتبط بجزيئات الروائح التي لها شكل معين. يتم إدخال جزيئات الروائح في ذبابة الفاكهة واحدا تلو الآخر؛ فإذا ما ارتبطت المستقبلات بتلك الرائحة، يرسل العصبون إشارة إلى الدماغ تفيد بوجود رائحة، ومن ثم يكشف قطب كهربي هذه الاستجابة للباحثين.


كان هدفنا الرئيسي يدور حول تحديد أي المستقبلات تستجيب لأي رائحة. فالعصبون الواحد يمتلك آلاف المستقبلات، لكنها متماثلة؛ ولا يرتبط أي نوع إلا بمجموعة صغيرة من جزيئات الرائحة. وللعصبونات المختلفة أنواع مختلفة من المستقبلات، التي ترتبط بمجموعات أخرى. ولأن ذبابة الفاكهة ذات الطفرة ينقصها جين بعينه خاص بمستقبلات الرائحة، فقد افترضنا أنها تحتوي على نوع من العصبونات «الفارغة» التي تفتقر إلى المستقبلات.
 
وبالتأكيد كانت كذلك. وبتطبيق تقنيات وراثية متقدمة طُوِّرت لدراسة دروسوفيلا ميلانوگاستر، قمنا بإدغام أحد جينات المستقبلات في هذا العصبون، والذي أنتج بعدها جزيئات المستقبلات المكودة. وبالنسبة إلى كل مستقبلة عصبية، كان بوسعنا بعدئذٍ تحديد الرائحة التي تفعّلها. وعن طريق التوفيق المنهجي بين كل من مستقبلات الرائحة لدى دروسوفيلا ميلانوگاستر وبين عصبون فارغ، واحدا تلو الآخر، ومن ثم تعريض العصبون لمجموعة متنوعة من المركبات المُطلِقة للرائحة، تمكنّا من معرفة أي من هذه المواد ولّد استجابة لدى أي من المستقبلات الكثيرة لتلك الحشرة.
 
وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، قامت <E. هالم> [التي كانت وقتها طالبة دراسات عليا في جامعة ييل] بعمل ذلك تحديدا. فوجدت أن المستقبلات الفردية تستجيب لمجموعة محدودة من الروائح، وأن روائح معينة تنشّط مجموعات فرعية بعينها من المستقبلات. وقد لوحظت نتائج مماثلة في الجهاز الشمي للثدييات. ومن ثَمَّ فإن الحيوانات، من ذبابة الفاكهة إلى البشر، تكتشف الروائح بالطريقة نفسها: حيث تعمل الروائح المختلفة على تنشيط توليفات مختلفة من المستقبلات. وتساعد هذه الاستراتيجية على تفسير الكيفية التي تتمكن بها الحيوانات، بما فيها البعوض، من التمييز بين هذا العدد الهائل من الروائح الموجودة في الطبيعة من دون حاجة إلى امتلاك مستقبلات مخصّصة لكل صنف منفرد.
 
ذبابة تشم مثل بعوضة(****)
 
بعد أن تعرفنا جينات مستقبلات الرائحة في ذبابة الفاكهة، أردنا تجربة إدغام جينات المستقبلات المأخوذة من البعوض الحامل للملاريا في العصبونات الفارغة لذبابة الفاكهة. وبالتعاون مع <J .L. زويبل> [من جامعة ڤاندربيلت] و<H .M. روبرتسون> [من جامعة إلينوي في أربانا- شامپين] وزملائهم، تمكّنا من تعرف مجموعة وراثية مكونة من 79 جينا يرجّح أن تكون جينات مستقبلات الرائحة في الأنوفيل گامبيي وذلك من خلال البحث عن مكونات الدنا المشابهة لمثيلاتها في جينات مستقبلات الرائحة لدى ذبابة الفاكهة. ومن الممكن أن يؤدي زرع أي من هذه الجينات في العصبونات الفارغة لذبابة الفاكهة، نظريا، إلى إنتاج مستقبلات الرائحة الخاصة بالبعوض في ذبابة. ولكن التجربة يمكن أن تفشل بسهولة، إذ يفصل بين هذين النوعين من الحشرات 250 مليون سنة من التطور. فلم تكن لدينا أية فكرة عما إذا كان جين مستقبلات الرائحة الخاص بالبعوض يمكن أن يعمل في عصبون ذبابة الفاكهة.
 
جرى توصيل نظامنا التجريبي بمكبر للصوت، بحيث إذا انطلقت إشارة من أحد العصبونات الشمية، فإن القطب الكهربائي يستشعرها، ومن ثم يولد مكبّر الصوت سلسلة من النقرات المتقطعة. وعندما اختبرنا سلسلة من الروائح على أول العصبونات الفارغة للذبابة التي تم تزويدها بجين البعوض، ظل مكبّر الصوت صامتا بصورة مخيبة للآمال. حتى ساورتنا الشكوك في أن مستقبل البعوض ربّما لا يعمل في عصبون ذبابة الفاكهة، ولكن <هالِم> واصلت اختبار العينات. وعندما وصلت إلى مُركَّب يطلق عليه اسم -4ميثيل فينول 4-methylphenol، بدأ مكبر الصوت بالصراخ، ولم يكن حماسنا أقل صخباً. وقد علمنا لاحقا أن -4ميثيل فينول، الذي تشبه رائحته قليلا رائحة الجوارب الرياضية المستعملة، هو أحد مكونات عَرَق الإنسان. وقد وجدنا وسيلة لمعرفة أية رائحة تستثير رد فعل أي من مستقبلات البعوض، وهي معلومات يمكن أن تساعدنا على فهم الكيفية التي تحدّد بها البعوضة موقع فريستها البشرية، وكيف يمكننا تعطيل تلك العملية.
 
ومع هذه النتيجة المشجعة في جعبتنا، طفقنا نقرأ حول الروائح البشرية واخترنا 110 مركبات لاختبارها، بما في ذلك العديد من مكونات العَرَق البشري. وقد ضَمَّنا قائمتنا روائح ذات بنى جزيئية مختلفة، مما وسع عيّنة قياسنا. ومن ثم، بدأنا بزرع كل من الجينات المستقبلة لمستقبلات الأنوفيل گامبيي التسعة والسبعين، واحدا تلو الآخر، في العصبونات الفارغة. وقد ثبت أن خمسين من جزيئات المستقبلات كانت فعالة ضمن السياق الذي وضعناه. وبعد ذلك، بدأنا باختبار قائمتنا المكونة من 110 روائح مقابل المستقبلات الخمسين الفعالة، مما نتج منه 5500 توليفة للمستقبلات- الروائح. وقد تطلبت عملية أخذ العينات المكثفة النطاق أياما وليالي طوالا.
 
ومن مجموعة البيانات هذه، تعرّفنا عددا من المستقبلات التي استجابت بقوة لمركب واحد فقط أو لعدد قليل جدا من المركبات. فقد كنا مهتمين بتلك المستقبلات الضيقة الاستجابة narrowly tuned. وقد عللنا ذلك في أنه إذا احتاجت بعوضة ما إلى تحديد مركب بعينه، وبدرجة عالية من الحساسية والتخصص - أي المركب الذي يشير إلى مصدر الدم - فإن البعوضة قد تستخدم مستقبلة متخصصة وشديدة الحساسية. وبالفعل، وجدنا أن معظم المستقبلات «الضيقة الاستجابة» تستجيب للمركبات التي هي من مكونات العَرَق البشري. وعلى سبيل المثال، فإن أولى مستقبلات البعوض التي اختبرتها <هالِم> في العصبونات الفارغة - وهي المستقبلة التي استجابت بقوة للمركب -4ميثيل فينول- اتضح أنها «ضيقة الاستجابة». ومن بين 110 مركبات، لم يستثر هذه المستقبلة بالقوة نفسها إلا عدد قليل من المركبات الأخرى. وثمة مستقبلة أخرى كانت ضيقة الاستجابة للمركب -1أوكتين-3- أول 1-octen-3-ol، وهو مركب شائع في الروائح البشرية والحيوانية. يجذب هذا المركب بقوة العديد من أنواع البعوض، بما فيها كولكس پيپنيس Culex pipiens، النوع الشائع في الباحات الخلفية للمنازل في الولايات المتحدة، والذي يمكنه أن ينقل ڤيروس غرب النيل West Nile virus. وبعض الفخاخ التجارية التي تُباع لجذب البعوض بعيدا عن الناس في الباحات الخلفية للمنازل ينبعث منها المركب -1أوكتين-3- أول.
 
تشويش الأعصاب لإيقاف الحشرات(*****)
 
من الممكن أن تعجّل نتائج أبحاثنا تطويرَ منفّرات وفخاخ أفضل للبعوض. ومن بين الطرق القياسية لاختبار الفخاخ طريقة يتم فيها وضع مواد في الفخاخ الحقلية لمعرفة ما إذا كانت تجذب البعوض. وكون هذه العملية تتسم بالبطء، فلا يمكن اختبار سوى عدد محدود من المواد الكيميائية. كما أن التجارب المختبرية الكلاسيكية لها عيوبها أيضا. وفي كثير من الحالات، يسمح المتطوعون من البشر بطلاء إحدى الذراعين بمركب ما، وبعد ذلك يدخلون هذه الذراع في صندوق يحتوي على عشرات البعوض. أما المواد الكيميائية التي تنفر منها الحشرات فيمكن استخدامها لاحقا باعتبارها منفّرات. وفي المقاربة التي انتهجناها، يمكننا إجراء اختبار سريع لعدد أكبر بكثير من المواد الكيميائية، مما يجعل اكتشاف مواد جديدة وفعالة لاجتذاب أو تنفير البعوض أقرب احتمالا بكثير - ومن دون الحاجة إلى متطوعين من البشر.
 
فعلى سبيل المثال، يستخدم <زويبل> مستقبلات الرائحة الخاصة بالأنوفيل گامبيي المزروعة في خلايا موجودة في أطباق مختبرية صغيرة. تقوم إنسالات(1) robots بتعريض الخلايا لآلاف المركبات في غضون بضع ساعات. وحتى الآن، تمكن <زويبل> من فحص أكثر من 000 200 مركب، تسبب أكثر من 400 منها تنشيط أو تثبيط مستقبلات الرائحة. وسيتم تحليل هذه المركبات بتعمق أكبر في التجارب المستقبلية، ومن ثم سيتم دفع أفضلها إلى مرحلة التجارب الميدانية.
 
هذه المقاربة المختبرية سمحت لنا أيضا بتحري المركبات التي تعمل كمنشطات فائقة superactivators - تلك التي تُشوش العصبونات الشمية عن طريق الإفراط في استثارتها إلى درجة تتوقف عندها قدرتها على إرسال الإشارات أو تربك دماغ البعوضة. ويمكن إطلاق المركبات المُربكة confusant بالقرب من الأكواخ التي ينام فيها القرويون في بلدان إفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، مما يمنع البعوض الحامل للملاريا من العثور على أولئك السكان. ويمكن أيضا للتحري المختبري تحديد المركبات التي تثبّط المستقبلات «الضيقة الاستجابة»، مما يعوق قدرة الحشرة على استشعار هدفها. وبدورها، فمن الممكن إطلاق عوامل الإخفاء masking agents هذه في الأكواخ، أو استخدامها في المواد المنفّرة المستخدمة على الجلد، لمنع البعوض من إدراك أنها قريبة من مصدر للدم. ومن الممكن أيضا التعامل مع المركبات التي يجدها البعوض كريهة باعتبارها مواد منفّرة. هذا ويقوم الباحثون المتعاونون معنا بجامعة فاگينينگين في هولندا بالتجريب على بعوض الأنوفيل گامبيي لتحديد ما إذا كان مزيج من بعض المركبات التي تعرّفناها مفيدا بهذه الطرق. وقد اكتشف زملاؤنا بالفعل بعض التوليفات القوية.
 
تاريخيا، يسبّب العديد من طرق مكافحة الحشرات، مثل الرش الواسع النطاق للمبيد الحشري DDT، في إلحاق الأذى بالحيوانات، وربما بالبشر. في حين يمكن أن تكون طرق المكافحة القائمة على حاسة الشم أقل ضررا منها بكثير. فالفخ الشمي لا يتطلب سوى كمية صغيرة من المادة الجاذبة attractant؛ لأن البعوض حساس للغاية لتلك المواد. إضافة إلى ذلك، فإن المركبات الجاذبة التي توجد عادة في عَرَق ونَفَس البشر تكون غير سامة في الجرعات المنخفضة. وإذا استخدمت السموم أيضا في هذه الفخاخ، فستكون محصورة بدلا من نشرها على نطاق واسع. وإضافة إلى ذلك، تكون مكافحة الحشرات المستندة إلى حاسة الشم أكثر دقة، بكثير، من تلك المرتكزة على المبيدات الحشرية. وقد أظهرت المقارنة بين البيانات المتوفرة لدينا عن البعوض وذباب الفاكهة أن معظم مستقبلات الأنوفيل گامبيي «الضيقة الاستجابة» تستجيب لمركبات توجد في العَرَق البشري، في حين أن المستقبلات الضيقة الاستجابة في الدروسوفيلا ميلانوگاستر تستجيب للمركبات المتطايرة المنبعثة من الفواكه. ويمكن اختيار أمزجة من المواد الجاذبة التي تجتذب الحشرة المستهدفة بالذات، ومن ثم تترك أثرا أخف بكثير في البيئة. وبصفة عامة، فإن مكافحة الحشرات القائمة على حاسة الشم تعد أقل ضررا بكثير في العالم الطبيعي، وأكثر قبولا من الرش العام للسموم. وإذا كان بالإمكان استخدام مزيج من المركبات الفعالة بدلا من مركب واحد، فمن الأقل احتمالا أن تنشأ مقاومة ضدها في مجتمع البعوض.
 
ومن أجل أن تكون العوامل التي اكتشفتها تجاربنا مفيدة في الدول التي تعاني الفقر، فيجب أن تتوافر في صورة عبوات رخيصة الثمن. تتسم الفخاخ التي ينبعث منها ثاني أكسيد الكربون من عبوات الغاز المضغوط - والمستخدمة على نطاق واسع في البلدان الغنية - بكونها غير عملية في المناطق الريفية من العالم النامي. ويجب أيضا أن تكون المركبات الجاذبة والمنفّرة مستقرة كيميائيا في الحرارة الاستوائية اللافحة. ومازلنا بانتظار ما إذا كان بالإمكان تحقيق هذه المتطلبات.
 
هناك حاجة إلى مقاربة متعددة الأوجه للقضاء على الملاريا. وستؤدي الناموسيات والعقاقير المحسّنة فيها دورا رئيسيا. ومن جانبهم، يعكف الباحثون بثبات على تطوير لقاح فعال للمرض. ومع ذلك، فإن هناك حاجة مُلحة إلى أدوات إضافية ضمن ترسانة الأسلحة المضادة للملاريا. وعلى وجه التحديد، فمن الممكن أن يمثل التلاعب بالسلوكيات الموجّهة بحاسة الشم لدى البعوض خطوة كبيرة في هذا الطريق. وفي معرض الصراع ضد مرض يؤثر في مئات الملايين من البشر كل عام، يمكن حتى لمساهمة صغيرة أن تُحدث فرقا كبيرا في حياة الكثيرين.
 

المؤلفان
 
     John R. Carlson - Allison F. Carey     
<كارلسون> أستاذ البيولوجيا الخلوية والجزيئية والنمو في جامعة ييل، وقد درس الأسس الجزيئية والخلوية لحاسة الشم لدى الحشرات لمدة 25 عاما.
 
<كاري> تخرجت حديثا من جامعة ييل بشهادة طبيب (دكتور) ودكتوراه في علم الأعصاب. وتواصل أبحاثها عن الملاريا في معهد باستور بباريس.

  مراجع للاستزادة

Olfactory Regulation of Mosquito-Host Interactions. Lawrence J. Zwiebel and W. Takken in Insect Biochemistry and Molecular Biology, Vol. 34, No. 7, pages 645-652; July 2004.

Insects as Chemosensors of Humans and Crops. Wynand van der Goes van Naters and John R. Carlson in Nature, Vol. 444, pages 302-307; November 16. 2006.

Odorant Reception in Malaria Mosquito Anopheles gambiae. Allison F. Carrey et al. in Nature, Vol. 464, pages 66-71; March 4, 2010.

World Health Organization malaria page: www.who.int/topics/malaria/en


(*)SCENT OF A HUMAN
(**)GENES FOR ODORS
(***)Mutant Nose Knows
(****)A FLY THAT SNIFFS LIKE A MOSQUITO
(*****)JAM THE NERVES, STOP THE INSECTS

(1) إنسالات robots: جمع إنسالة، وهي نحت من إنسان-آلة.

الاثنين، 19 مارس 2012

كيف يتعرف الجهازُ المناعي الجسمَ الذي يُعيله؟



كيف يتعرف الجهازُ المناعي الجسمَ الذي يُعيله؟
لقد طور الجهاز المناعي البشري عددا من العمليات البارعة التي تتيح له
 مقاومة الغزاة الغرباء، علاوة على عدم مهاجمة الجسم الذي يُعيله.
<Ph.مارّاك> ـ <W.J.كاپلر>

تتنامى الخلايا التائية في التوتة، ولكن إذا ما تفاعلت واحدة منها ـ قبل أن تنضج ـ مع بروتين ينتجه العائل (الثوي)، فإنها ستموت. وتؤدي هذه العملية إلى إزالة عدد كبير من الخلايا التائية التي تمتلك إمكانية مهاجمة الجسم.

تمتلك الكائنات الحية آليات متباينة للتمييز بين ذاتها وبين كل شيء آخر. فعلى سبيل المثال، إن عددا كبيرا من النباتات تمتلك غُلُفًا خارجية صُلْبَة (قاسية) لا تحميها ضد الغزاة فحسب إنما تعيّن حدود النبات الخارجية. وتمتلك الخمائر yeasts جينات من النمط التزاوجي mating-type تُكَوِّد(1) (ترمز) بروتينات تمنع التزاوج بين الخلايا المتماثلة. وتوجد لدى الاسفنجيات مجموعة من الجينات يمكن استخدام نتاجها في كشف المستعمرات الغريبة ومن ثم طردها.

لقد طور جسم الإنسان واحدة من أكثر الآليات تفصيلا للتمييز بين الغزاة وبين الذات. إن على خلايا الجهاز المناعي ـ أي اللِّمفاويات والبلعميات macrophages والخلايا الأخرى ـ أن تتعلم تحمُّل كل نسيج وكل خلية وكل بروتين يوجد في الجسم، وعليها أن تكون قادرة على تمييز الهيموغلوبين الموجود في الدم عن الأنسولين الذي يفرزه البنكرياس (المعثكلة) عن الخِلْط الزجاجي الذي تحويه العين عن كل شيء آخر. وعلى هذه الخلايا أيضا أن تتدبر أمر مقاومة الأنواع المختلفة التي لا حصر لها من الكائنات الحية الغازية، علاوة على عدم مهاجمة الجسم نفسه.

ومازال المناعيون مشغولين بمسألة الكيفية التي يتعلم بها الجسم تحمل ذاته، ولكنهم لم يكتشفوا إلا في العقد الماضي تقريبا تفاصيل ما يمنع أهم اللمفاويات ـ ونعني بذلك الخلايا التائية والخلايا البائية ـ من مهاجمة عوائلها (أثويائها). إن كثرة من اللمفاويات غير الناضجة تمتلك إمكانية الاستجابة لنتاج الذات، وبذلك تشكل تهديدا للذات. إن الجسم يحاول أن يخلِّص نفسه من هذه الخلايا كلها بلجوئه إلى عدد من الآليات الحاذقة. فإذا ما تفاعلت خلية مناعية ما مع نتاج الذات في الوقت الذي تكون فيه آخذة بالتنامي في التوتة (الغدة التيموسية / الصعترية) أو في نقي (نخاع) العظم فإنها تُقتل عادة أو يُبطل فعلها. وتلقى اللمفاوية الناضجة المصير نفسه عادة إذا ما استجابت لنتاج الذات ولم تتلقَّ رسالة كيميائية ثانية. إن لهذه الاستراتيجيات الأساسية التي يستخدمها الجسم للتخلص من الخلايا ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات) self-reacting cells اختلافات كثيرة، ذلك أنه توجد أنماط متباينة وعديدة من اللمفاويات، وكثرة من الأنواع المختلفة لنتاج الذات.

ولكن على الرغم من هذه الإجراءات الوقائية من قِِبَل الجهاز المناعي فإن بعض اللمفاويات ذاتية التفاعل لا يُبطَل فعلها أو لا تُقتل، فيمكنها أن تسبب واحدة من علل كثيرة تعرف بأمراض المناعة الذاتية. ويدرك علماء المناعة جيدا أنهم إذا ما فهموا آليات التحمل كلها فربما أمكنهم منع وقوع أمراض المناعة الذاتية. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن لأمثال هذا التبصر النافذ أن يساعد الجراحين في بحثهم المستديم عن مواد يمكنها أن تمنع الجهاز المناعي أن ينبذ النسج المغترسة كالكِلْيَة والقلب والرئة.

وتمتلك الفقاريات العليا طرائق كثيرة للكشف عن الغزاة وقتلها. وتكون بعض هذه الطرائق لانوعية (غير مُميِّزة) نسبيا. وترتكز على واقع أن مجموعات من الكائنات الحية الخامجة (المعدية) تصطنع موادّ كيميائية لا تنتجها الفقاريات العليا بكميات كبيرة. فعلى سبيل المثال، بإمكان الثدييات أن تكتشف وجود البكتيريا (الجراثيم) الغازية، ذلك أن البكتيريا تنتج پپتيدات تبدأ بحمض أميني غير عادي هو فورميل الميثيونين، في حين أن الثدييات تنتج كميات ضئيلة فقط من هذه الپپتيدات.وفعلا، إن وجود تراكيز عالية من الپپتيدات التي يستهلها فورميل الميثيونين في الثدييات يجتذب خلايا الدم البيض المسماة بالعَدِلات (النتروفيلات) والتي تقوم عندئذ بالتهام البكتيريا التي تنتج هذه الپپتيدات. وبالمثل، يمكن للثدييات أن تكتشف بعض الڤيروسات (الحُمات)، ذلك أن الڤيروسات تصطنع كميات من الرنا RNA ذي الطاقين (الشريطتين) strands، أكبر كثيرا مما تنتجه الثدييات. ووجود كميات كبيرة من الرنا مزدوج الطاق يستفزّ خلايا الثدييات لتنتج بروتينات تعرف بالإنترفِرونات التي تحفز بدورها سلسلة من التفاعلات التي تساعد العائل على مقاومة المزيد من الخمج الڤيروسي.

وعلى الرغم من أن هذه الاستجابات اللانوعية للمواد الكيميائية التي تصطنعها البكتيريا والڤيروسات هي جزء حاسم بصورة مطلقة من وظيفة الجهاز المناعي، فإن الفقاريات تتطلب أيضا آليات نوعية (متخصصة) لتتعرف الغزاة تحديدا. فعلى الجهاز المناعي أن يكون قادرا على تعرف نتاجات غريبة تكون كيميائياتها مختلفة اختلافا طفيفا جدا عن جزيئات الجسم ذاته.

لقد طور الجهاز المناعي ثلاث طرائق شديدة التعقيد يتعرف بها المواد الكيميائية الغريبة، أو ما يُسمى المستضدات (الأنتيجِنات). إن أساس هذه الآليات الثلاث هو الأنواع الثلاثة مما يعرف بالمستقبِلات البروتينية التي توجد على سطح اللمفاويات. وتتطلب الطريقة الأولى وجود الخلايا البائية التي تمتلك مستقبلات تعرف بالگلوبُلينات المناعية، في حين تتطلب الطريقة الثانية وجود الخلايا التائية التي تمتلك مستقبلات تسمى ألفا-بيتا. وتستخدم الطريقة الثالثة الخلايا التائية التي تمتلك البروتين غاما-دلتا.

ويلتصق عدد كبير من المستقبلات بسطح كل لمفاوية من اللمفاويات، وفي ظروف معينة فإنها ترتبط بالمستضدات. ويتألف المستقبِل الواحد من سلسلتين متباينتين متعددتي الپپتيدات. فالگلوبُلين المناعي يتكون مما يعرف بالسلسلتين الخفيفة والثقيلة، أما البروتين ألفا-بيتا فيتألف من السلسلة ألفا والسلسلة بيتا، في حين أن البروتين غاما-دلتا يتكون (كما يمكن لك أن تخمن مسبقا) من السلسلة غاما والسلسلة دلتا. ومن الممكن أن تتباين كل سلسلة في تتابع مكوناتها من خلية لأخرى. فعلى سبيل المثال، إن السلسلتين ألفا و بيتا لخلية تائية معينة تختلفان يقينا عن مثيلتيهما في أي خلية تائية أخرى. وبناء على ذلك، فإن مستقبلات خلية تائية معينة يُحتمل أن ترتبط بمجموعة من المواد تختلف عن مجموعة المواد التي ترتبط بأي خلية تائية أخرى. ويمتلك الإنسان نحو مليون مليون خلية تائية، وبالتالي لديه عدد كبير متباين من جزيئات ألفا-بيتا المتاحة لتعرف المواد الغريبة.

وبالفعل، فإذا ما اعتبرنا العدد الهائل من مستقبلات ألفا-بيتا للخلايا التائية، وكذلك العدد الكبير من أنواع جزيئات الگلوبُلين المناعي للخلايا البائية، وأيضا كثرة أعداد المستقبلات غاما-دلتا للخلايا التائية، فإن عدم تعرّف أي من هذه اللمفاويات لأي من جزيئات نتاج عائلها يُعتبر معجزة ليست بالقليلة. لقد أثارت هذه الظاهرة الجديرة بالملاحظة فضول الباحثين لعقود من الزمن، فوُضِع الكثير من النظريات لتفسير كيف أن الجهاز المناعي للإنسان يتعلم تحمل خلايا الجسم؟.

وكانت إحدى الأفكار المبكرة هي أن الحيوانات، ببساطة، لا تستطيع أن تصطنع مستقبلات لمفاوية ذاتية التفاعل. وعلى وجه الخصوص، إنه ليس من المحتمل أن يمتلك الإنسانُ الجينات الضرورية لتكوين مستقبلات ألفا-بيتا يمكنها أن تتفاعل مع البروتينات الآدمية. لقد أدرك علماء المناعة منذ سنوات عديدة أن هذا التفسير غير صحيح. ونحن نعلم في الوقت الحاضر أنه نظرا لأن تراكيب المستقبلات وبِناها تتعين إلى حد ما بطريقة عشوائية، فمن المحتمل أن ترتبط بعض المستقبلات بالمواد الكيميائية لعائلها.

وتدخل العشوائية من سبيلين على الأقل: أحدهما هو أن مستقبلات اللمفاويات تُصطنع بانضمامات عشوائية لقطع متخصصة من الجينات. فعلى سبيل المثال، تُصطنع السلسلتان ألفا وبيتا للخلية التائية من مزج عشوائي لقطع تعرف بالقطعة V-ألفا و J-ألفا وV -بيتا و D-بيتا وJ -بيتا. والسبيل الآخر هو إيلاج قطع قصيرة عشوائية من الدنا DNA في الجينات المتراتبة الخاصة بالمستقبل ألفا-بيتا. وهكذا، فإن الكائن الحي لا يمتلك ضبطا مطلقا لتسلسل الحموض الأمينية المكونة للمستقبل.

إن الضبط يجب أن يمارس بطريقة أخرى، وفي مرحلة ما مختلفة. لقد كان <D.R.أُوِن> (في معهد كاليفورنيا للتقانة) أحد الباحثين الأوائل الذين اختبروا هذه الفرضية. فقد كان يدرس عام 1945 وراثة أنماط الدم عند الأبقار فوجد أن الأبقار التوائم التي تقاسمت مشيمةً واحدة كانت تمتلك، غالبا، نمطا دمويا واحدا. وقد لوحظ هذا الترابط حتى في إحدى الحالات حيث أتت التوائم من آباء مختلفة. واستنتج أُوِن أن الترابط بين أنماط الدم كان نتيجة تبادل اللمفاويات وخلايا الدم الأخرى وهي داخل الرحم. وعلاوة على ذلك، فقد اقترح الباحث أن هذا التبادل المبكر قد حال بين الأبقار وبين رفض إحداها دماء الأخرى. وفيما بعد أوضح السير <B.P.مداوار> و<E.R .بيلينگام> و <L.برنت> (في المعهد الوطني للبحوث الطبية بلندن) أنه إذا ما تم نقل الخلايا الدموية من فأر بالغ إلى فأر وليد لا يمت إليه بقرابة، فإنه يمكن للفأر الوليد أن يتقبل ـ في مراحل حياته التالية ـ طُعْما يؤخذ من الفأر البالغ، ومن ثم فإن إدخال الخلايا الدموية عند الولادة يمكن أن يؤثر في مقدرة الفرد على تقبل ليس الدم فحسب وإنما الجلد أيضا.

الأمر الأكثر أهمية هو أن هذه الدراسة وبحوث أُوِن قد أوصلت إلى الاستنتاج العام نفسه، ألا وهو أن الجهاز المناعي لا يولد ومعه التعليمات كلها التي يحتاج إليها لتعرّفه نتاجات عائله، ولكنه يتعلم ما هو ذاتٌ وهو آخذ بالتنامي.

تُقتل الخلايا التائية غير الناضجة عندما ترتبط مستقبلاتها بالپپتيدات، كما بينت التجارب التي استخدمت فيها فئران مهندسة وراثيا. وقد هُيّئت الفئران بحيث تؤوي خلايا تائية تستطيع مستقبلاتها أن تتعرف پپتيدًا يتم إنتاجه في الفئران الذكور فقط. وفي حين تتنامى الخلايا التائية في الفئران الإناث تناميا سويا، تنعدم الخلايا التائية في الفئران الذكور، وذلك ـ على ما يبدو ـ لأن الخلايا التائية الناشئة قد ارتبطت بالپپتيد وماتت.

وكانت إحدى الأفكار المبكرة التي طرحت لتفسير كيف يتعلم الجهاز المناعي تحمل الذات قد عرضت من قبل <J.ليدربرگ> الذي يعمل حاليا في جامعة روكفلر. ففي عام 1959 اقترح هذا الباحث أن اللمفاويات غير الناضجة لا يمكنها أن تتفاعل مع المستضد بالطريقة نفسها التي تتفاعل بها اللمفاويات الناضجة. فعادة إذا ما ارتبط شيء ما بالگلوبُُلين المناعي لخلية بائية ناضجة، فإن اللمفاوية تتحول إلى خلية مفرزة للضد antibody. وإذا ما ارتبط جزيء ما بمستقبلات الخلية التائية الناضجة، فإن هذه الخلية تصبح إما خلية مفرزة للسيتوكين أو خلية قاتلة. وافترض ليدربرگ أنه إذا ما ارتبط مستضد ما بمستقبِلٍ لخلية غير ناضجة، فإن الخلية يمكن أن تموت عوضا عن أن تصبح خلية فاعلة.

وتقدم فرضية ليدربرگ، التي تعرف حاليا بنظرية الحذف (الخَبْن) النسيلي clonal deletion theory، آلية لإزالة اللمفاويات التي تفاعلت مع نتاجات الذات. وتعمل هذه الآلية على النحو التالي: يكون إنتاج التائيات والبائيات إنتاجا مستمرا طوال حياة الفرد، هذا على الرغم من أن إنتاج الخلايا التائية يتباطأ بعد اليَفَع. ولكن بغض النظر عن المرحلة التي تُنتَج فيها الخلايا البائية و التائية فإنها تتنامى دائما وهي محاطة ببحر من المواد التي ينتجها العائل. فوفقا لهذه النظرية تُدمَّر الخلايا غير الناضجة التي تتعرف مستقبلاتُها نتاجاتِ الذات. ونتيجة لذلك، فإن اللمفاويات غير ذاتية التفاعل فقط هي التي تتنامى حتى مرحلة النضج. وبلا ريب، فإن اللمفاويات غير الناضجة ستموت أيضا إذا ما ارتبطت بمستضد غريب، ولكن الاستجابة المناعية ستنجز من قِبَل تلك اللمفاويات التي نضجت قبل وقوع الخمج.

وفي زمن لاحق على اقتراح نظرية الحذف النسيلي أتى الباحثون بتفسيرين آخرين معقولين حول لماذا يكون الجهاز المناعي متحمِّلا لعائله؟ وكان أحد الاقتراحين أنه يمكن إخماد اللمفاوية المتنامية إخمادا دائما عوضا عن موتها وذلك عندما ترتبط مستقبلاتها (يصف علماء المناعة اللمفاويةَ الخامدةَ بأنها لمفاوية «مُعَطَّلَة» anergic. وينص الافتراض الآخر على أنه يمكن الاحتفاظ بالخلايا التائية والبائية ذاتية التفاعل مقيدةً (موقوفة) بوساطة خلايا خاصة تعرف بالخلايا الكابتة.

وظل الباحثون يجاهدون سنوات عديدة لتمحيص هذه الفرضيات الثلاث، لأنه من الواضح أن اللِّمْفاوِيّات تتعرف النُّسُج الغريبة بإجادة عالية. فعلى سبيل المثال، يرفض جسم الإنسان ـ وبسرعة كبيرة ـ طُعما جلديا أتى من شخص لا يمتّ إليه بقرابة، في حين يتقبل الفرد نسيجا جلديا اغتُرس من إحدى مناطق الجسم إلى منطقة أخرى منه. وبالمماثلة، تعجز اللمفاويات في طبق الزرع culture dish عن أن تُنَشَّط (تفعل) activate من قِبَل خلايا أخرى أُخذت من عائلها نفسه، في حين أنها تتفاعل بعنف مع لمفاويات أو خلايا أخرى أتت من فرد آخر. ومازالت القضية المعلقة باقية: هل يعجز الجهاز المناعي عن أن يستجيب لنتاجات الذات لأن اللمفاويات المحتمل تفاعلها هي ببساطة غير موجودة، أو لأنها معطلة، أو لأنها مكبوتة من قبل خلايا أخرى؟

من أجل إيجاد حل لهذه المسألة حاول الباحثون استنباط طرائق لتعيين هوية اللمفاويات التي تعرفت مستضدا معينا لكنها لم تستجب بالضرورة عن طريق الانقسام. وتبين أن تطوير هذه التقانات مهمة رهيبة، فإذا لم يسبق للخلايا التائية والبائية لحيوان ما أن تعرضت لمستضد نوعي، فإن جزءا ضئيلا فقط من اللمفاويات يجب أن يكون لديه القدرة على التفاعل مع المستضد. إن «تواتر» frequency الخلايا ذاتية التفاعل (كما يقول علماء المناعة عادة) هو من واحد إلى مليون تقريبا. وبالفعل، فإن التواتر على درجة من الضآلة بحيث يصبح من المستحيل تمييز اللمفاويات القليلة التي يحتمل أن تتعرف نتاجات الذات عن اللمفاويات الكثيرة التي لا تتعرفها.

يساعد موت الخلايا التائية الفتية (الناشئة) التي ترتبط ببروتينات الذات، على منع الجهاز المناعي من مهاجمة الجسم. وتتعرض الخلايا التائية لمعظم نتاجات الذات في أثناء تناميها في التوتة. إن بعض بروتينات الذات ُتنتَج في التوتة، في حين أن أخرى تُحمل إليها من أعضاء الجسم ـ الكلية مثلا ـ بوساطة الخلايا الرحالة. وتموت الخلايا التائية الفتية التي ترتبط مستقبلاتها بنتاجات الذات. وبما أن بعض نتاجات الذات لا تصل إلى التوتة أبدا فإن بعض الخلايا ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات) تصل مرحلة النضج.

ولكن على الرغم من ذلك، فإن الباحثين طوروا وسيلتين تجريبيتين لتطويق هذه المعضلة، تتطلب إحداهما نمطا خاصا من المستضد عرف بالمستضد الفائق super antigen، في حين أن الوسيلة الأخرى تعتمد على حيوانات تم تغييرها وراثيا، ومنها ما يدعى بالفئران المحورة جينيا transgenic. ويستحق كل من تقانة المستضد الفائق والتجارب التي تستخدم فيها الفئران المحورة جينيا، وصفا فيه بعض التفصيل.

ويتوقف ارتباط مستضد فائق، أو مستضد، بلمفاوية أساسا على تركيب المستقبل وبنيته. فالمستقبل ألفا-بيتا هو، على سبيل المثال، تجمع عشوائي بعض الشيء للقطعتين (الجزءين) segments -V ألفا وV-بيتا. ويكون المستقبِل مصمما أساسا ليتعرف الپپتيدات الغريبة، أي المستضد الناجم عن تحطيم (حلّ) بروتينات الكائنات الغازية. بيد أن المستقبل يرتبط فقط بالپپتيدات الغريبة التي ارتبطت في الوقت ذاته بأحد بروتينات معقد التوافق النسيجي الكبير major histocompatibility complex MHC، وهي جزيئات متخصصة توجد على سطوح الخلايا العادية. وبقدر ما يمكن للباحثين أن ينبئونا، فإن جميع القطع المتغيرة (المتحولة) للمستقبِل ألفا-بيتا تلعب دورا ما كي تربط معًا بروتين المعقد MHC وأسيره الپپتيد الغريب. ومن أجل أن تتعرف مستضدا معينا، فإن على الخلية التائية أن تمتلك مستقبلا متوافقا تماما مع القطعتين المتغيرتين.

وللمستضدات الفائقة قصة مختلفة. فهي ترتبط، مثل مثيلاتها الاعتيادية، بنمط خاص من جزيئات المعقد MHC، ولكنها ترتبط بعدئذ بقطعة معينة من V-بيتا من المستقبل ألفا-بيتا، وذلك بغض النظر تقريبا عن بنية سائر المستقبل. وبما أن عدد أنماط أجزاء V-بيتا هو عدد ضئيل مقارنا بعدد المستقبلات ألفا-بيتا المختلفة، فإن عددا كبيرا من الخلايا التائية يكون أقدر على تعرف مستضد فائق خاص منها على تعيين هوية مستضد عادي معين. إن مجموع القطعV -بيتا المختلفة في الفأر، على سبيل المثال، يصل إلى 20 قطعة. وهكذا، فمن الممكن أن نجد أن V-بيتا من نوع خاص في واحدة تقريبا من بين كل 20 خلية تائية تمتلك مستقبلات ألفا-بيتا.

والأمر الأكثر أهمية، هو أنه بسبب استجابة عدد هائل من الخلايا التائية لمستضد فائق نوعي، يمكن للباحثين أن يراقبوا التفاعل. وبغية الوصول إلى ذلك، فإنهم يحصلون أولا على ضد يستطيع الارتباط بالهدف V-بيتا الخاص بمستضد فائق، ويوسم الضد عندئذ بجزيء يتألق fluoresce تحت الضوء فوق البنفسجي. وهكذا، فإن الضد المتألق سيرتبط بالخلايا التائية التي تستجيب للمستضد الفائق، ويستطيع الباحثون عندئذ تعيين هُوية الخلايا باستخدامهم إما المجهر وإما فارز (مصنِّف) خلايا مفعَّل تألقيا fluorescent-activated cell sorter.

ولاختبار هذه التقانة، استخدم الباحثون في بداية الأمر مستضدا فائقا ينتجه ڤيروس ورم الثدي mammary tumor virus MTV) لدى الفأر. وتُخْمَج الفئران بالڤيروس عبر لبن أمهاتها. ويجتاح الڤيروس لمفاويات الفأر باصطناعها (تركيبها) مستضدا فائقا وبتنشيطها اللمفاوية. إن ڤيروس ورم الثدي لدى الفأر، شأنه في ذلك شأن الڤيروس الذي يسبب الإيدز (AIDS)، هو ڤيروس مغاير (قهقري) retrovirus. وتحتوي هذه الڤيروسات على جينات تتألف من الرنا، ولكنها تتكاثر عن طريق اصطناعها نسخا من الدنا بدءا من الرنا الخاص بها. وتُغرَز نسخ الدنا هذه في دنا الخلايا المخموجة، وينتج الدنا الڤيروسي عندئذ رنا وبروتينات الڤيروس، وتتجمع هذه المواد لتشكل ڤيروسات خامجة (معدية) جديدة.

ويندر أن تقوم الڤيروسات المغايرة بخمج الخلايا التي تنتج النطاف (الحيامن) sperm والبيوض. فإذا ما حدث ذلك، أمكن للڤيروس أن يصبح جزءا من دنا الأنسال، ويكف عندئذ عن أن يغدو كائنا مُخمِجا. وفي الحقيقة، فإن الفئران كلها تقريبا تشتمل على نوع ڤيروسي واحد أو أكثر من ڤيروسات ورم الثدي، متكاملا(2) (مُدْمجا) integrant في الدنا الخاص بها. وتنتج هذه المتكاملات (المُدْمَجات) الڤيروسية عندئذ بروتينات هي (بكل قصد العائل وهدفه) من نتاجات (منتجات) الذات. وتُصطنع البروتينات الڤيروسية اصطناعا مستمرا مدى حياة الحيوان، تماما مثل بروتينات الذات الأصيلة.

لقد استخدمنا مع زملائنا (في المركز NJC لعلم المناعة وطب التنفس بِدِنْڤر) المستضدات الفائقة التي تنتجها هذه المتكاملات الڤيروسية لنختبر كيف يستجيب الجهاز المناعي لنتاجات الذات، لأن البروتينات التي تركّبها المتكاملات تعد، فيما يتعلق بالفأر نفسه، نتاجات ذاتية. فبدأنا عام 1988، وبدأ كذلك عدد من الفرق البحثية الأخرى، بتفحص تأثيرات مستضد فائق ينتجه النمط MTV-7، وهو ذرية (سلالة) strain من ڤيروس ورم الثدي اندمجت طبيعيا في دنا بعض الفئران. ويتفاعل هذا المستضد الفائق مع قطع معينة من V-بيتا لمستقبلات الخلايا التائية للفأر. وتحديدا فإن المستضد الفائق يرتبط بالقطع التي تعرف بالرموز: V-بيتا 6، V-بيتا 7، V-بيتا 8.1 وV-بيتا 9.

يرتبط المستضد الفائق بقسم واحد فقط من مستقبل الخلية التائية، في هذه الحالة تعرف المنطقة بالقطعة V-بيتا. وعلى المستضد الفائق، قبل أن يلتصق بالمستقبل، أن يرتبط ببروتين معقد التوافق النسيجي الكبير (الرئيسي) الموجود على سطح الخلية.

لقد ركزنا اهتمامنا، متعاونين مع <U.ستيرز> (الذي كان يعمل حينذاك في معهد بازل لعلم المناعة)، على تأثيرات المستضد الفائق MTV-7 في القطعة V-بيتا 8.1 ، فوجدنا في الفأر الذي يكون دنا خلاياه خاليا من MTV-7، أن نسبة تصل إلى 8 بالمئة من الخلايا التائية لديها القطعة V-بيتا 8.1 كجزء من مستقبلاتها. وفي مقابل ذلك، فإن الفئران التي يتضمن دنا خلاياها الجين MTV-7 لا تُؤوي أيا من الخلايا التائية الناضجة التي تمتلك V-بيتا 8.1 . وفي الوقت نفسه نشر فريق بحث سويسري ضمّ <R.H.ماكدونالد> (من معهد لودکيگ لبحوث السرطان في لوزان) و<M.R.زينكرناجل> و<H.هنگارتنر> (من جامعة زوريخ) أن الخلايا التائية التي تحمل القطعة V-بيتا 6 هي مفقودة أيضا في الفئران التي يتضمن دنا خلاياها MTV-7. كما توصل مؤخرا <E.پالمر> وزملاؤه (في المركز NJC) إلى نتائج مماثلة بشأن القطعة V-بيتا 9، كما اكتشفنا الشيء نفسه بشأن الجزء V-بيتا 7.

لقد أظهرت هذه التجارب كلها أن وجود المستضد الفائق الذي ينتجه النمط MTV-7 المتكامل، يؤدي على نحو ما إلى اختفاء الخلايا التائية التي تستطيع التفاعل مع المستضد الفائق. وهكذا، فإن الخلايا التائية التي تستطيع، في هذه الحالة، أن تتعرف نتاجات الذات لم تُخمدَ ولم تُكبَت من قِبَل خلايا أخرى. إن الخلايا التائية ببساطة غير موجودة كليا، ولا بد أنها ماتت في مرحلة ما من مراحل تناميها.

وتبدأ الخلايا التائية تناميها كخلايا طليعية precursor cells. وتنشأ هذه الخلايا الطليعية في أثناء المرحلة الجنينية من تنامي الحيوان في الكيس المحي أو في الكبد، في حين أن الحيوانات الفتية ـ وكذلك البالغة ـ تنتج الخلايا الطليعية هذه في نقي عظمها. وتهاجر تلك الخلايا إلى التوتة، حيث تبدأ هناك تعزيز الجينات التي تحوي التعليمات اللازمة لبناء السلاسل ألفا والسلاسل بيتا والبروتينات الأخرى ذات الصلة بِبِنية المُسْتَقْبِل. وإثْر ذلك مباشرة، وبعد أن تبدأ المستقبلات ألفا-بيتا بالظهور على سطوح الخلايا بكميات قليلة، تتحول الخلايا الطليعية إلى خلايا توتية غير ناضجة. وتمر هذه الخلايا عندئذ في مرحلة غامضة من مراحل تناميها توصف بأنها مرحلة الانتقاء الإيجابي positive selection. وفي هذه المرحلة تضيف الخلايا التوتية غير الناضجة إلى سطوحها أعدادا متزايدة من المستقبلات ألفا-بيتا.

على أي حال، وكما اكتشفنا من قبل، فإن الخلية التوتية غير الناضجة تموت في التوتة إذا ما تعرفت المستضد الفائق الذي ينتجه الجين المتكامل MTV-7. ويوضح عدد كبير من التجارب التي أجريت مؤخرا على حيوانات مختلفة أن المستضدات الفائقة تسبب موت الخلايا التوتية غير الناضجة في مرحلة تقع تقريبًا في منتصف طريق تناميها.

وعلى الرغم من أن هذه النتائج قدمت دعما قويا لنظرية الحذف النسيلي، فإن علماء المناعة ظلوا مجبرين على التفكير في احتمال أن المستضدات الفائقة (التي تمتلك عددا كبيرا من الخصائص المتميزة) لا تؤثر في الخلايا التائية بالطريقة نفسها التي تؤثر بوساطتها المستضدات السوية (العادية). وبناء على ذلك، فقد قام كل من <H. ڤون> و<M.شتاينمتز> ومساعدوهما (في جامعة بازل وفي مؤسسة هوفمان-لاروش) بتناول معضلة تحمّل الذات بطريقة مغايرة كليا. لقد استخدم هؤلاء الباحثون الفئران المحورة جينيا التي تُنتَج بحقن الدنا في البيضة المخصبة للفأر، وغالبا ما ينجبل (يندمج) هذا الدنا في دنا الجنين المتنامي وينتقل إلى نتاجاته (ذراريه) progeny.

واستطاع ڤون بيهمر ومساعدوه باستخدامهم هذه التقانة أن يُوجِدوا فئرانا كانت معظم خلاياها التائية تمتلك المستقبِل ألفا-بيتا نفسه. ولكي نفهم كيف استطاعوا إنجاز ذلك، علينا أن ندرك أنه في أثناء تنامي الخلية التائية لدى الفأر السوي فإنها تعزز في واقع الأمر الدنا الذي ينتج مستقبلا خاصا من نوع ألفا-بيتا. فقطع الدنا التي تُكَوِّد المستقبل محتواة في دنا خلايا الفأر كلها، ولكن تتم في الخلايا التائية المتنامية فقط إعادة تراتب(3) هذه القطع في جينات لها وظيفة. وقام ڤون بيهمر بعَزْل (استفراد) الدنا الذي يكوّد لجين نوعي لأحد مستقبلات ألفا-بيتا، سبق وأن أعاد فعلا تراتب قطعه؛ وعندئذ قام بحقن بيوض الفأر بالدنا المتراتب فعلا. ومع تنامي الفئران فإن هذا الدنا المتراتب أخذ الصدارةَ من الجينات غير المتراتبة للمستقبلات. وبناء على ذلك، حملت معظم الخلايا التائية للفئران المحوَّرة جينيا المستقبلَ الذي أنشئ من قبل الجينات المحقونة.

واختار ڤون بيهمر أن يصنع ذلك المستقبل الذي يرتبط بمستضد يوجد فقط في ذكور الفئران، شريطة أن يكون هذا المستضد مترافقا مع بروتين المعقد MHC من النمط Db. وكما كان متوقعا، وجد هذا الباحث ومساعدوه فَرْقا لا يمكن تجاهله بين إناث الفئران التي تنتج Db وذكورها. ففي الإناث كانت كثرة من الخلايا التائية تحمل على سطوحها المستقبل الذي تم إدخاله، أما في الفئران الذكور فقد كانت الخلايا التي تحمل المستقبل غائبة كليا تقريبا، فهي على ما يبدو قد أبيدت في مرحلة مبكرة من مراحل تناميها في التوتة.

للجهاز المناعي آلية للسلامة تمنع خلية تائية ناضجة من أن تشن هجمة مناعية ضد عائلها. فقبل أن تتمكن الخلية التائية من المهاجمة لا بد لها من أن تتلقى إشارتين: إحداهما هي ارتباط المستضد بمستقبل الخلية التائية، والأخرى ـ على سبيل المثال وبصورتها النموذجية ـ هي إفراز البروتين B7، والارتباط به (القسم الأيسر). أما إذا تعرضت خلية تائية لأحد بروتينات الذات التي تعرض عليها من قبل خلية غير منشطة، فإن الخلية التائية تموت أو تَبطل فاعليتها (القسم الأيمن).

وتوضح هذه المعطيات أن ليدربرگ كان محقا عندما اقترح نظرية الحذف (الخبن) النسيلي. فاللمفاويات غير الناضجة تمر بمرحلة يؤدي فيها ارتباط مستقبلاتها إلى موتها. فالخلايا ذاتية التفاعل تُقتل قبل أن تتهيأ لها فرصة التكاثر وتدمير عائلها (ثويها). إن الجهاز المناعي يستخدم فعلا الحذف النسيلي ليرسِّخ تحمل الذات.

ولسوء الحظ، فإن نظرية الحذف النسيلي لا تلتفت إلى مشكلةِ كيف أن الجهاز المناعي يتعلم تحمل نتاجات الذات التي لا تصنعها التوتة أو تلك التي تنتجها بكميات غاية في الضآلة. ولا ينطبق هذا الأمر على البروتينات التي تُحتَجز بكميات قليلة كتلك التي تُنتج في الدماغ والعين فحسب، بل ينطبق أيضا على البروتينات التي تُنتَج فقط في نسج متخصصة معينة.

وفي واقع الأمر، إن عددا كبيرا من مستضدات الذات النادرة تُنقل فعلا إلى التوتة. فالوحيدات (المونوسيتات) والخلايا البائية تستطيع أن تلتقط بروتينا من مكان ما من الجسم وتحمله إلى مكان آخر، لا سيما إلى التوتة. ويفسِّر هذا النوع من الأحداث تفسيرا مُرْضيا تماما كيف يتعلم الجهاز المناعي تحمّل كثرة من نتاجات الذات التي لم تتولد في التوتة.

ومع ذلك، لا ينطبق هذا المخطط على الحالات كافة. فعلى سبيل المثال، إنه لا يوضح كيف تتعلم الخلايا التائية تحمل الپپتيدات التي ترتبط ببروتينات الصف الأول من المعقَّد MHC. وهذا الصف من البروتينات يرتبط فقط بالپپتيدات التي ُتشتق من البروتينات التي يتم تركيبها داخل الخلية نفسها. وعلى ذلك فإن الوحيدات والخلايا البائية غير قادرة على نقل پپتيدات الخلايا الأخرى إلى التوتة. فالخلايا التائية غير الناضجة في التوتة لا تتعرض إلى بعض البروتينات السيتوپلازمية (الهيولية). وبالتالي، فليس لها من سبيل لتتعلم تحمل هذه البروتينات. لهذا، لا بد من وجود آلية فعالة أخرى لتقتل الخلايا التائية الناضجة أو لتبطل فعلها أو لتكبتها.

لقد فتش الباحثون عن آلية تستطيع بوساطتها الخلايا التائية الناضجة أن تتعلم كيف تتحمل. إن عددا من التجارب المختلفة قد أوضح الآن أنه عندما تصادف الخلايا التائية الناضجة نتاجات الذات فإنها إما أن تموت أو أن تصبح خامدة (غير فاعلة).

إن <J.ميلّر> وزملاءه (في معهد والتر وإليزا هول للبحوث الطبية في أستراليا) أجروا تجربة من هذا النوع. فقد عمل هؤلاء الباحثون على أحد جينات بروتين الصف الأول من المعقد MHC ويعرف بالجين Kb، وأدخلوا هذا الجين في فأر بحيث يكون تحت سيطرة جين الأنسولين. وبناء على ذلك، فإن الفأر اصطنع البروتين Kb وذلك فقط في خلاياه التي تُنتج الأنسولين في الحالة السوية، أي في الخلايا بيتا الموجودة في البنكرياس. وبما أن هذه الخلايا مثبتة (غير متحركة) فإن البروتين Kb لا يمكن أن يبلغ توتة هذه الحيوانات. ولم يكن من المفاجئ أن تستطيع الخلايا التوتية لهذه الفئران أن ترتبط بالبروتين Kb، بيد أن الخلايا التائية الناضجة لم تكن قادرة على الاستجابة ما لم تتم مجابهة هذه الخلايا بالبروتين Kb في ظروف خاصة جدا. لقد أوضحت هذه النتائج أن الخلايا التائية الناضجة التي تتعرف مستضدات الذات يمكنها أحيانا أن تبقى حية في الحيوان ولكنها تصبح معطّلة. إضافة إلى ذلك، وفي تجربة أخرى برهنت <S. وِبّ> ومساعدوها (في معهد سكريپس للبحوث في لاهولا، كاليفورنيا) أن الخلايا التائية الناضجة ـ في شروط خاصة ـ تموت إذا ما تعرضت لمستضدات الذات.

ولا يعرف علماء المناعة على نحو دقيق ما الذي يسبب موت الخلايا التائية الناضجة عوضا عن إخمادها. ولعل الخلايا الخامدة هي مجرد حالة وسيطة في طريقها لملاقاة حتفها. ومهما يكن من أمر، فإن النتيجة المهمة هي أن هذه الخلايا غير قادرة على الاستجابة. وبالفعل، فقد جمع الباحثون في الوقت الحاضر عددا كبيرا من الأمثلة لمستضدات تسبب إما موت الخلايا التائية أو إخمادها، لدرجة أنهم صاروا شديدي الحيرة من أمر لماذا ومتى تحرض مستضدات الكائنات الحية الغازية الخلايا التائية لتصبح ناشطة. وعلى ما يبدو، فإن الخلايا التائية ذات المستقبلات ألفا-بيتا قد صُممت بحيث إنها ـ عادة ـ لا تُنَشّط عندما يرتبط مستقبلها. لهذا السبب، فإن السؤال يجب أن يكون كيف تقرر الخلية التائية الناضجة أن تنقسم أو تصبح خامدة أو تموت، عندما تستجيب مستقبلاتها لشيء ما.

تَخمُد الخلايا البائية الفتية (الناشئة) عندما ترتبط بشيء ما، كما أوضحت التجارب التي استخدمت فيها الفئران المحورة جينيا. لقد هندست مجموعة من الفئران لتنتج بروتينا يوجد في الدجاج هو ليسوزيم بيض الدجاج (HEL). كما تم تصميم فئران أخرى لتنتج خلايا بائية ذات مستقبلات ترتبط بالبروتين HEL. تم عندئذ تهجين (مزاوجة) مجموعتي الفئران لتنتج أفرادا تصنع البروتين HEL وتحوي، في الوقت نفسه، خلايا بائية حساسة لذلك البروتين. لقد تبين أنه لم يكن بالإمكان تنشيط الخلايا البائية الموجودة في تلك الحيوانات بالكواشف التي تستخدم عادة لتنشيطها.

لقد تم إيجاد حل جزئي للمعضلة بإجراء تجربة تقليدية قام بها قبل ثلاثين عاما تقريبا <W.D. دريسر>، الذي كان يعمل حينذاك في مختبرات مجلس البحوث الطبية (MRC) بإنكلترا. وكان الباحثون في ذلك الوقت مدركين تماما أن الجهاز المناعي يستجيب بعنف لبروتين غريب على شكل مستحضرات تكدسية (تجمعية)، أو لبروتين مُزج مع مساعد adjuvant مثل البكتيريا الميتة في زيت معدني. ومع ذلك، فقد وجد دريسر أن الجهاز المناعي يعجز عن أن يستجيب لبروتينات غريبة ذؤوبة. وفي الحقيقة، إذا تعرض الجهاز المناعي لبروتين غريب ذؤوب فإنه يغدو إثر ذلك عاجزا عن التفاعل مع أي مستحضر من مستحضرات ذلك البروتين. وفي عام 1971، اكتشف كل من <M.J.شيلر> و <O.W. ويگل> (في مستشفى سكريپس) و <R.تايلور> (في مختبرات المجلس MRC) أن الجهاز المناعي يتعلم تحمل البروتينات الغريبة الذؤوبة، جزئيا على الأقل، بإزالة الخلايا التائية التي تستطيع أن تستجيب لمثل تلك البروتينات.

ومن الواضح أن الخلايا التائية تستطيع تعرف شكل المستضد، أما كيف تفعل ذلك فلم يتضح إلا مؤخرا. فالمستقبلات ألفا-بيتا لا تمتلك وسيلة مباشرة للكشف عن شكل البروتين الغريب الذي تم إدخاله إلى الجسم. وطالما أن الپپتيد مرتبط ببروتين المعقد MHC، فإنه سيستطيع الارتباط بالمستقبل ألفا-بيتا بغض النظر عما إذا كان الپپتيد قد أتى من بروتين في حالة ذوبان أو كان مختلطا بمساعد. فإضافة إلى المستقبل ألفا-بيتا، لا بد من وجود شيء ما يعطي الخلية التائية معلومات عن شكل المستضد.

وفي عام 1970 اقترح <A.P.برتشر> و<M .كون> (من معهد سولك للدراسات البيولوجية) حلا للمعضلة بصورة بدائية. وبعد انقضاء خمس سنوات أعاد <J.K.لافيرتي> و< J.A .كانينگهام> (من كلية جون كيرتن للبحوث الطبية بأستراليا) صياغة الفكرة بشكلها المقبول حاليا. ويمكن القول ـ بمصطلحات مناعية ـ إن الخلية التائية تحتاج إلى إشارتين اثنتين كي تنشط بوساطة المستضد. تنشأ إحداهما نتيجة ارتباط المستضد بالمستقبل ألفا-بيتا، أما الأخرى فتأتي من شيء آخر.

لقد شغلت مهمةُ تعيين هوية هذه الإشارة الثانية علماءَ المناعة طوال العقد الماضي. وأتى أحد مفاتيح الحل من بحوث <H.R.شوارتز> ومعاونيه (في المعاهد الوطنية للصحة) [انظر: «تعطل الخلايا التائية» مجلة العلوم، العدد10/ 11(1994)، ص 30]. ففي عام 1987 برهن فريق شوارتز على أن المستضدات المرتبطة ببروتينات المعقد MHC لا تستثير انقسام الخلايا التائية المزروعة إذا ما سبق إعداد الخلايا التي تحمل بروتينات المعقد MHC هذه بطريقة معينة. إن الخلايا التائية لم تعجز عن الاستجابة فحسب، إنما كانت غير قادرة أيضا على الانقسام عدة أيام بعد تعرضها للمستضد عند مجابهتها بمستضدات مرتبطة ببروتينات المعقد MHC على خلايا حية غير مُعَدَّة مسبقا. إن الخلايا المعدة مسبقا والتي تحمل بروتينات المعقد MHC أخمدت الخلايا التائية بطريقة أو بأخرى.

وأوضحت البحوث التالية أن آلية الإخماد تشتمل على CD28، وهو بروتين يوجد على سطح الخلايا التائية. فعندما يرتبط CD28 ببروتين يُرمز له بِ B7 أو BB1 ـ يقيم على سطح الخلايا البائية والبلعميات ـ فإنها تبعث بالإشارة الثانية إلى الخلية التائية، وترتبط الخلية التائية في الحالة السوية بالمستضد وبروتين المعقد MHC وبروتين B7 في وقت واحد، وينتج من ذلك أن تتسلم الخلية التائية إشارتين: إحداهما عبر مستقبلها، والأخرى عبر CD28. فإذا ما جوبهت الخلية التائية بمستضد على خلية لا تحمل البروتين B7 بصورته الفعالة، فإنها ستتلقى إشارة المستقبل فقط من دون أن تتسلم إشارة CD28، وبهذه الطريقة تخمد الخلية التائية. لقد أضاف هذا الكشف دعما قويا للنظرية القائلة بأن الخلايا التائية تتطلب إشارتين لتستجيب إلى المستضد. (بيد أنه من الجدير بالتأكيد أن الثنائي CD28-B7 هو واحد فقط من عدد كبير من الإشارات الثانوية المحتملة.)

بالطبع، فإن الطريقة التي يتم بها إحصار (اعتراض) الإشارة CD28-B7 في المختبر ليست هي نفسها التي تحدث في الجهاز المناعي. ومازال الباحثون عاكفين على اكتشاف أي الخلايا تستطيع أن تعرض المستضدات مقترنة بجزيء المعقد MHC في حين تعجز عن توصيل الإشارة CD28-B7. والإجابة كما اقترحها الباحثون أمثال <C.D.پاركر> (من جامعة ماسّاشوستس في وُسْتَر) و<C.P.ماتزينگر> [في المعهد الوطني للأرجية (الحساسية) والأمراض الخامجة] إنها الخلايا البائية. فمعظم الخلايا البائية للحيوانات إذا ما حملت البروتين B7، فإنها تحمل كمية ضئيلة منه. وعندما تُنشِّط الخلايا البائية نفسها فإنها تقوم عندئذ فقط بزيادة إنتاجها للبروتين B7 إلى مستوى قابل للقياس. بناء على ذلك، فإذا ما صادفت الخلايا التائية المستضدَ على سطح الخلية البائية فقد تُخمَد لأنها تستقبل إشارة واحدة من غير إشارة ثانية. إن هذه الطريقة تبدو في الوقت الحاضر جديرة بالتصديق، بيدأ أنه لم يتم بعد إثباتها والاحتمال الأقوى هو أن خلايا متخصصة معينة فقط ـ كالبلعميات والخلايا التغصنية dendritic، وربما الخلايا البائية المنشَّطة ـ تستطيع توصيل الإشارتين الأولى والثانية كلتيهما إلى الخلايا التائية، وبذلك تنشّطها.

قدمت التوائم الخمسة من الأبقار أول الأدلة على أن الجهاز المناعي يتعلم تحمل نتاجات الذات. فقد تقاسمت الأجنة البقرية الخمسة مشيمة واحدة عندما كانت في رحم أمها وتبادلت الدماء، ونتيجة لذلك تقبلت العجول دماء بعضها بعضا.

ويمتلك الجسم وسائل كثيرة للتعامل مع الخلايا التائية ذاتية التفاعل والتي تمتلك المستقبل ألفا-بيتا. فإذا ما كانت الخلية التائية لاتزال آخذة في التنامي في التوتة وارتبط مستقبلها بنتاج الذات، فإنها تموت. وفي المقابل، فإن الخلية التائية الناضجة التي يرتبط مستقبلها بنتاج الذات إما أن تُخَمَّد أو تُقتل إذا لم تتلقَّ الرسالة الثانية، كالإشارة CD28-B7. ومازال الباحثون أقل يقينا بشأن الكيفية التي تستجيب بها الخلايا البائية والخلايا التائية ذات المستقبل غاما-دلتا لنتاجات الذات.

وعلى ما يبدو، فإن الجهاز المناعي يتعامل مع الخلايا البائية ذاتية التفاعل وبروتيناتها الگلوبُلينية المناعية مثلما يعتني تقريبا بالخلايا التائية ذات المستقبلات ألفا-بيتا. ففي عام 1976، وعلى سبيل المثال، بيّن <R.N.كلينمان> وزملاؤه (في جامعة پنسلفانيا) و<E.ڤيتيتا> ومساعدوها (في المركز الطبي بجامعة تكساس)، كل على انفراد، أن إعداد الخلايا البائية غير الناضجة في مزارع النُّسُج لكي تتحمل المستضد أيسر كثيرا من إعداد الخلايا البائية الناضجة. وبين فيما بعد <V.J.G .نوسال> ومعاونوه (في معهد هول) أن هذه الظاهرة ربما تتناول تعطل الخلايا البائية، وكذلك موتها.

وباستخدام فئران محورة جينيا استطاع الباحثون مؤخرا تأييد هذه الظاهرة بالبرهان في الحيوانات التي هي أفضل من أطباق الزرع. وإعدادا لهذه التجارب قام الباحثون بحقن البيوض المخصَّبة للفأر بجينات ناضجة لگلوبُلين مناعي معيّن بعد إعادة تراتبها تماما، وبهذه الطريقة أدخل الباحثون الجينات في دنا الفأر. وفي أثناء نضج الخلايا البائية في الفئران المتنامية، فإن الجينات التي تم إدخالها أجبرت الخلايا البائية تقريبا على أن تعرض الگلوبلين المناعي المحدد على سطوحها.

وكان من بين أوائل الباحثين الذين جربوا هذه التقانة <C.C.گودناو> وزملاؤه (في جامعة سيدني)؛ إذ أوجد هؤلاء الباحثون مجموعتين من الحيوانات المحورة جينيا، واحتوت إحدى هاتين المجموعتين جينات الگلوبُلين المناعي الذي يرتبط بالبروتين الغريب: ليْسوزيم بيض الدجاج hen egg lysozyme HEL ، أما المجموعة الثانية فاحتوت على جين يأمر الخلايا لإنتاج ليسوزيم بيض الدجاج. وعندما سُمح لأفراد من المجموعة الأولى بالتزاوج مع فئران من المجموعة الثانية، فإنها أنتجت نسلا (ذرية) offspring يحوي دنا خلاياها كلا نوعي الجينات. وهكذا، فإن هذه الأنسال ملكت المقدرة على اصطناع كل من ليسوزيم بيض الدجاج، والگلوبُلين المناعي الذي يرتبط بليسوزيم بيض الدجاج. ووجد هؤلاء الباحثون أن الخلايا البائية لتلك الأنسال كانت مُخَمّدَة، مؤكدين بذلك النتائج التي تم التوصل إليها في أطباق زرع النُّسُج.

وأجرى <D.نيمازي> (الذي كان يعمل حينذاك في معهد بازل لعلم المناعة) و <K.بوركي> (في ساندوز فارما) تجربة مماثلة. فقد أنتج هذان الباحثان فئران محورة جينيا تحوي جين جزيء الگلوبُلين المناعي الذي يرتبط ببروتين Db من بروتينات المعقد MHC. وبطبيعة الحال، فإن بعض الفئران المحورة جينيا أنتجت البروتين Db في نقي عظمها، وفي هذه الحالة فإن الخلايا البائية في تلك الفئران ماتت كلها .

لكن لماذا تُخمّد الخلايا البائية غير الناضجة، وتُقتل في أحيان أخرى عند تماسها مع مستضد الذات؟ لقد وجد الباحثون أن شكل المستضد يحدد مصير هذه الخلايا. فالاحتمال الأكبر للمستضدات الذؤوبة، مثل ليسوزيم بيض الدجاج، أن تسبب إخماد الخلايا البائية التكدسية (التجمعية) غير الناضجة التي ترتبط بتلك المستضدات. وخلافا لذلك، فالاحتمال الأكبر هو أن المستضدات التكدسية المرتبطة بالخلايا، كالمستضد Db، تقتل الخلايا البائية غير الناضجة.

وعموما، إن آليات التحمل في الخلايا البائية تماثل كثيرا الآليات الخاصة بتحمل الخلايا التائية ذات المستقبلات ألفا-بيتا. فالخلايا البائية غير الناضجة تموت أو تُخمَد عندما ترتبط مستقبلاتها بشيء ما. ويبقى على الباحثين أن يحددوا فيما إذا كان من الممكن فرض التحمل على الخلايا البائية الناضجة تماما كما يفرض على الخلايا التائية الناضجة.

وعلى النقيض من الخلايا البائية، فإن الخلايا التائية ذات المستقبل غاما-دلتا تُعد لغزا من الألغاز. ففي الإنسان والفأر يوجد من هذه الخلايا بقدر ما يوجد من الخلايا البائية أو التائية ذات المستقبل ألفا-بيتا. كما أنه من الواضح أن الخلايا التائية غاما-دلتا ذات أهمية كبيرة. كذلك فإن لدى العلماء تصورا ناقصا عن كيفية إسهام هذه الخلايا في الجهاز المناعي. وعلى ما يبدو، فإن الخلايا التائية غاما-دلتا تستجيب لنتاجات العائل عندما تُسحج النسج مثلا، أو عندما تتعرض لدرجة حرارة عالية أو لمعادن خطرة، أو عندما تُهاجم من قبل كائنات غازية. كما يبدو أن مستقبلات هذه الخلايا قد صُمِّمت بصورة خاصة لترتبط بمكونات معينة من الذات، فإذا ما كان هذا هو واقع الحال، فإن الباحثين سيُجابَهون بمعضلة كيف تبقى هذه الخلايا ذاتية التفاعل تحت سيطرة الجسم، فهم حاليا ليس لديهم أي تصور في هذا الشأن.

إن الجهاز المناعي الصحيح لا يُهاجِم عائله، ولكن ما يؤسف له أن الجهاز المناعي يرتكب أخطاء؛ إذ يمكن أن تظهر أحيانا خلايا تائية وبائية تستطيع أن تستجيب لمستضدات الذات فتؤذي هذه الخلايا الجسم الذي يؤويها مما يؤدي إلى نشوء أمراض مثل التهاب المفاصل الرَّثْياني والتصلب المتعدد والذَّأَب lupus. ويعالج الأطباء في الوقت الحاضر هذه الأمراض بشن معركة شاملة ضد الخلايا المناعية التي تسبب هذه الأمراض. فتستخدم العقاقير مضادة الالتهاب شديدة الفاعلية، وكذلك المواد الكيميائية التي تقتل الخلايا التائية والبائية المنشطة (المفعلة) أو تبطئها لتبقي استجابة المناعة الذاتية مكبوحة. وللأسف فإن هذه الطرائق ليست دائما فعالة إضافة إلى أن لها أحيانا تأثيرات جانبية غير مرغوب فيها. ويأمل علماء المناعة في أنهم إذا ما استمروا في دراسة كيف يتعلم الجهاز المناعي تحمل الجسم الذي يعيله، أن يعثروا مستقبلا على طرائق تُحَسِّن من أسلوب علاج أمراض المناعة الذاتية.


 المؤلفان
Philippa Marrak - John W. Kappler
توصلا إلى تقانات جديدة لدراسة التحمل في الخلايا المناعية. يعمل كلاهما منذ عام 1986 باحثيْن في المركز NJC لعلم المناعة وطب التنفس بدنڤر وهو جزء من مختبرات البحوث في معهد هوارد هيوز الطبي. لقد مضى الآن على زواج كاپلر من ماراك 19 عاما.


مراجع للاستزادة 
ACTIVELY ACQUIRED TOLERANCE OF FOREIGN Cells R. E. Billingham, L. Brent and P. B. Medawar in Nature, Vol. 172, No. 4379, pages 603-606; October 3, 1953.
T CELL TOLERANCE BY CLONAL ELIMINATION IN THE THYMUS. J. W. Kappler, N. Roehm and P. Marrack in Cell, Vol. 49, No. 2, pages 273-280; April 24, 1987.
A CELL CULTURE MODEL FOR T LYMPHOCYTE CLONAL ANERGY. R. H. Schwartz in Science, Vol. 248, pages 1349-1356; June 15, 1990.
THE NEED FOR CENTRAL AND PERIPHERAL TOLERANCE IN THE B CELL REPERTOIRE. C. C. Goodnow, S. Adelstein and A. Basten in Science, Vol. 248, pages 1373-1379; June 15, 1990.
ABLATION OF "TOLERANCE" AND INDUCTION OF DIABETES BY VIRUS INFECTION IN VIRAL ANTIGEN TRANSGENIC MICE P. S. Ohashi et al. in Celt, Vol. 645, No. 2, pages 305-317; April 19, 1991.

(1) يكوّد encode ـ يرمّز symbolize ـ يشفّر (يكتب بالشيفرة) cipher. (التحرير)
(2) المقصود هنا أن دنا الڤيروس قد توضّع ضمن تسلسل من دنا النطفة أو البيضة، بحيث صار جزءًا سويا ضمن هذا التسلسل. (التحرير)
(3) أي أن الجينات ترتب نفسها لتعطي تسلسلا للدنا المكود للسلسلة كابا في الفأر. (التحرير)
 

كيف يتعرف الجهاز المناعي (على) الغزاة؟

 


كيف يتعرف الجهاز المناعي (على) الغزاة؟
تقوم خلايا الجهاز المناعي بإعادة تركيب شدف جيناتها
لتنشئ ملايين المستقبلات الضرورية لتعرُّف ومهاجمة
ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من المُمْرِضات التي نواجهها طوال الحياة.
<A.C.جينواي، جونير>
 
تستخدم الخلايا التائية (الأصفر)، وهي نوع من اللمفاويات، مستقبلات خاصة على سطوحها لتكشف خلية بلعمية مخموجة (الأزرق). وتمثل الخلايا التائية هذه جزءا فقط من ذخيرة الجهاز المناعي لتعرّف المُمْرِضات (العوامل الممرضة).

نُشرت في مجلة ساينتفيك أمريكان منذ أكثر من ست وثلاثين سنة مقالة بعنوان «فَقْدُ غاما گلوبُلين الدم» Agammaglobulinemia، وكان والدي أحد مؤلفي هذه المقالة. فقد وصف علة نتجت من عيب (خلل) في دفاعات الجسم ضد الخمج، وهو إخفاق آلية الجهاز المناعي في كشف المُمْرِضات (العوامل الممرضة) pathogens. وساعد عمله وعمل<O. براتون>، بتعرفهما أول مرض من أمراض العوز المناعي immunodeficiency disease، على شق طريق تؤدي إلى فهم عميق ومفيد للآلية التي يتعرف بوساطتها الجهاز المناعي جزيئات الجسم، ويميزها عن جزيئات البكتيريا (الجراثيم) والڤيروسات والطفيليات الغازية.

ولا يستطيع الناس المصابون بفَقْد غاما گلوبلين الدم صنع جزيئات الأضداد. وتوجد هذه البروتينات المتخصصة في الدم وفي السائل بين الخلايا ـ وتترابط في الحالة السوية بالبكتيريا والڤيروسات التي تسبب الأخماج، وتعمل كإشارة لجزيئات الجهاز المناعي وخلاياه الهجومية. إن قدرة جزيئات معينة، كالأضداد، على تعرف الجزيئات الغريبة (موجهة بذلك دفاعات الجسم) تكسبنا خصائص مفيدة ومهمة. فهي تمكننا من التخلص من الأخماج ومن مقاومة عودة الخمج ومن حماية أنفسنا بالتلقيح vaccination.

ومما يؤسف له أن بعض هذه الآليات تستطيع أن تستثير أيضا أمراضا عوضا عن أن تضبطها. فقد يتفاعل الجهاز المناعي مع مادة غريبة عديمة الضرر مثل الطلع pollen، فيسبب الأرجية allergy. وقد يأخذ هذا التفاعل منحى أشد خطورة، عندما تتركز الهجمة المناعية على نسج الجسم ذاته، مسببة مرضا من أمراض المناعة الذاتية. لكن آليات التعرف recognition والاستجابة هي واحدة، سواء أسهمت في الصحة أو المرض. إن آليات التعرف حاسمة إذًا في فهم كيف يعمل الجهاز المناعي وكيف يخفق.

وسأصف في هذه المقالة النظامين الرئيسين اللذين يتعرف بوساطتهما الجسمُ المادةَ الغريبة. الأول هو نظام المناعة الغريزية (الفطرية) innate immune system، بمعنى أن الجسم يولد متمتعا بالقدرة على تعرف ميكروبات (أحياء مجهرية) معينة تعرفا فوريا، وعلى تدميرها. أما الثاني فهو نظام المناعة التلاؤمية (التكيفية) adaptive، أو المكتسبة acquired الذي تلعب فيه الأضداد دورا قياديا. وتتشكل المستقبلات receptors المستخدمة في استجابة نظام المناعة التلاؤمية بوصل قطع الجينات بعضها ببعض كما يُصنع وشاح من قطع متباينة الأصول. وتستخدم كل خلية القطعَ المتاحة على نحو مختلف، لتصنع مستقبلا متفردًا في بنيته، مما يسمح للخلايا جميعا بأن تتعرف الكائنات الحية الخامجة التي يواجهها الجسم طوال الحياة. لقد مكن فهم الجينات والجزيئات والخلايا التي يتكون منها الجهاز المناعي، الباحثين من تعيين سَبَبِيّات الأمراض، بما في ذلك فقد غاما گلوبلين الدم، ومن ثم الشروع في العمل على إيجاد معالجات لها.

ويستطيع نظام مناعتنا الغريزية أن يدمر كثرة من المُمْرِضات بمجرد التقائها. وتتمثل إحدى المكونات المهمة في الاستجابة الغريزية بصف (نوع) من بروتينات الدم يعرف بالمتممة complement، اسم اشتق من قدرتها على تعزيز فاعلية الأضداد (أو إتمامها) في مكافحة الخمج. وبوسع المتممة (التي اكتشفت من قبل متخصص البكتيريا البلجيكي <J.بورديه> عام 1900) أن تعمل بطرائق متعددة. فإذا ما تم تنشيط أحد أنماط بروتينات المتممة تنشيطا كيميائيا، فإنه يترابط بأي بروتين على سطح البكتيريا أو سطح خلايا الجسم. إن بروتين المتممة المرتبط يستثير فاعلية باقي جزيئات المتممة. وتجتذب هذه الجزيئات المترابطة الخلايا الملتهمة (البلاعم) phagocytes، وهي خلايا أميبانية (شبيهة بالأميبة) تبتلع وتهضم الميكروبات التي تغلفها المتممة، كما أن بوسع المتممة أن تقتل الخلايا والبكتيريا بإحداث ثقوب في غشائها الشحمي. إن هذه الثقوب تسمح باندفاع الماء إلى داخل الخلية، وهي سيرورة (حدث) تقود إلى تدميرها. بيد أن المتممة تقي من أمراض معينة، كالتهاب السحايا البكتيري والسيلان.

ومع ذلك، فإن هذا النظام الهجومي القوي لا يدمر خلايا الجسم. فخلافا للميكروبات، فإن خلايانا مجهزة ببروتينات تبطل (تخمد) فعل المتممة. بناء على ذلك، فإن المناعة الغريزية تميز ـ على هذا المستوى الأكثر بساطة ـ بين الجزيئات التي تكون الجسم، أو ما يسمى بالذات self، عن كل ما عداها من جزيئات، أو ما يعرف بالغَيْر (السِّوى / اللاذات) nonself.

وليست المُمرضات كافة مؤهبة بهذه السهولة لفعل نظام المتممة. فقد ابتكر بعضها طرائق تجنبه هجمة المتممة. فالبكتيريا التي تسبب ذات الرئة pneumonia والتهاب الحلق بالمكورات العقدية لها محافظ capsules، وهي أغلفة تتكون من سلاسل طويلة من جزيئات سكرية (عديدات السكريد polysaccharides). إن هذه المحافظ تمنع المتممة من التأثير المباشر في البكتيريا.

يمكن استثارة فاعلية المتممة بثلاث طرق. فباستطاعة المتممة أن تؤثر مباشرة في البكتيريا (في اليسار)، أو أن تنشَّط عن طريق البروتين رابط المنّوز (في الوسط). كما يمكن للأضداد التي تُصنع نتيجة الخمج أن تنشط المتممة (في اليمين). وبعد هذا التنشيط، إما أن تقتل المتممة البكتيريا، أو أنها تعبئ خلايا الجهاز المناعي الأخرى، كالخلايا الملتهمة (البلاعم) مثلا.

ولنظام المناعة الغريزية طريقتان لمكافحة هذه الأنماط من البكتيريا. وتنجز الأولى بوساطة خلايا ملتهمة كبيرة موجودة في جميع نسج الجسم، وتسمى البلعميات macrophages. إن لهذه البلعميات مستقبلات لأنماط معينة من عديدات السكريد، وهي تستخدم هذه المستقبلات لتترابط بالبكتيريا وتأكلها. أما الطريقة الأخرى، فتتمثل بقدرة البلعميات التي التقت البكتيريا على إفراز الإنترلوكين 6 interleukin، وهو بروتين ينبه بدوره الكبد على إفراز بروتين جديد يترابط بثمالات سكر يسمى المَنُّوز mannose. إن هذه الثمالات تبرز من محفظة البكتيرة. وبعد أن يترابط هذا البروتين رابط المنّوز بالبكتيريا، فإنه يغير شكله بحيث يُنشِّط شلال cascade المتممة ويفعِّل الخلايا الملتهمة. وعلى هذا النحو، فإن البروتين رابط المنوز ينم للجسم عن الجسيمات particles التي عليه أن يترابط بها.

بيد أن المناعة الغريزية لا تصون الجسم من الأخماج كافة. فالميكروبات تتطور بسرعة، مما يتيح لها ابتكار وسائل تتملص بوساطتها من الدفاعات المناعية المتأصلة في الإنسان وفي الأنواع الأخرى الأبطأ تطورا. وللتعويض عن ذلك، فإن الفقاريات تمتلك في التعرف المناعي استراتيجية متفردة، ونعني بذلك المناعة التلاؤمية. إن هذا النظام من المناعة يُمكِّن الجسم من تعرف أي ميكروب والاستجابة له، حتى ولو لم يسبق للجسم أن واجه هذا الغازي.

وتعمل المناعة التلاؤمية عن طريق سيرورة الانتقاء النسيلي clonal selection، وهي فكرة صاغها السير<M.F .بورنت> من معهد وولتر وإليزا هول للبحوث الطبية في أستراليا، وأصبحت واسعة القبول حاليا. وفي الانتقاء النسيلي تصنع خلايا من نظام المناعة التلاؤمية (تعرف باللمفاويات البائية B lymphocytes، أو الخلايا البائية B cells، أو البائيات على سبيل الاختصار) أضدادا تعرضها على سطح الخلية، فيعمل الضد عندئذ كمستقبل. وتصنع كل خلية بائية مستقبلا مختلفا، يتعرف كلُ نمط منه جزيئًا غريبا مختلفا. وإذ هي مسلحة بهذه المستقبلات، فإن الخلايا البائية تعمل كخفر يراقب باستمرار متعقبا الميكروبات. فإذا ما اكتشفت خلية بائية ما دخيلا، فإنها تنقسم بسرعة. ولأن الخلايا البنات كلها تكون قد تحدرت من خلية أم واحدة، فإن هذه الخلايا البنات تعرف بالنسيلة (ومنها «الانتقاء النسيلي»). إن الخلايا كافة للنسيلة الواحدة تمتلك المستقبل نفسه. وتتمايز عندئذ هذه الخلايا البائية المنسلة إلى خلايا تفرز أضدادا تترابط، تماما كمستقبل الخلية البائية بالميكروبات. وما إن تحدد الأضدادُ سمة للميكروباتِ كمواد غريبة عن الجسم، حتى تتم إزالتها بوساطة الخلايا الملتهمة وجملة المتممة.

ويتمثل السؤال الحرج في فهم المناعة التلاؤمية بالكيفية التي تولد الخلايا البائية بوساطتها هذا العدد الكبير من المستقبلات المختلفة. وبنوعية أكبر، كيف يمكن أن تُكوَّد (تُرمَّز) encoded ملايين المستقبلات المختلفة الضرورية لتَعَرُّف الميكروبات كافة بجينوم (مجين) genome محدود الحجم؟ فلدى الشخص الواحد نحو 100000 جين فقط، إلا أن الترليونات العشرة (أي1013) من الخلايا البائية، تستطيع أن تصنع أكثر من 100 مليون من بروتينات الأضداد المتميزة في أي وقت من الأوقات. وبدهي أنه ليس بوسعنا أن نرث الجينات اللازمة لمناوعة هذه البروتينات كلها.

واكُتِشفت الإجابة في السنوات الأخيرة، عندما تعرف الباحثون الجينات التي تكود (ترمز) لأضداد الخلايا البائية ومستقبلاتها. لقد اكتشف عام 1976 <S.تونيگاوا> (الذي كان يعمل حينذاك في معهد بازل لعلم المناعة) أحد مفاتيح هذه الإجابة. فقد برهن على أن جينات الأضداد تُوَرَّثُ كشدف جينية gene fragments. ويتم وصل هذه الشدف بعضها ببعض لتشكل جينا كاملا فقط في فرادى اللمفاويات أثناء تناميها.

يتكون جزء الضد من زوج (شفع) من السلاسل الثقيلة وزوج من السلاسل الخفيفة، وتُكود (ترمز) هذه السلاسل جينات تتألف من قطع مختلفة من الدنا (DNA). ويعاد ترتيب هذه القطع لتكون جينات للسلاسل، تختلف من بائية لأخرى. وتتغاير سيرورة (حدث) الوصل، بحيث يولد عددٌ قليل فقط من قطع الجين الأضداد المتباينة التي يستطيع الجسم أن ينتجها، والتي تقدر بنحو 100 مليون نوع من الأضداد.

وتولِّد سيرورة الوصل نفسها مزيدا من التنوع. ففي عام 1980، بين<F.آلت> و<D.بلتيمور> (من معهد ماساتشوستس للتقانة) أن الإنزيمات التي تضم قطع الجين، تضيف أسسا عشوائية للدنا DNA في نهايات القطع التي يتم وصل بعضها ببعض. ونتيجة لذلك، تتشكل جينات جديدة، تكود كلُ واحدة منها سلسلة بروتينية. وينشأ تنوعٌ أوسع نتيجة تجميع السلاسل البروتينية لِتكوِّن مستقبلا كاملا. ويتكون جزيء الضد من زوجين (شفعين) اثنين من السلاسل البروتينية: سلسلتان ثقيلتان heavy chains وسلسلتان خفيفتان light chains. وتتصل السلسلتان الثقيلتان إحداهما بالأخرى لتشكلا الحرف Y، وتتوضع السلسلتان الخفيفتان على الفرعين العلويين من الحرف Y، على جانبي السلسلتين الثقيلتين. وتنتج كل خلية بائية نوعا واحدا فقط من السلاسل الخفيفة، ونوعا واحدا فقط من السلاسل الثقيلة بحيث تصنع كل خلية بائية ضدا مستقبلا متفردا. وفي الحقيقة، فإن 1000 سلسلة مختلفة من كل نمط من النمطين، يمكنها أن تشكل، نظريا، مليونا من التركيبات (التضاميات). وبوسع سيرورات الوصل العشوائية أن تُكوِّن عددًا من الأضداد النوعية يفوق عدد الخلايا البائية في الجسم.

إيصال الپپتيدات إلى سطح الخلية
يستخدم الضد الموجود على سطح الخلية البائية كمستقبل لهذه الخلية. فإذا ما اكتشف الضد مستضدا غريبا في الدم، فإنه يترابط به (1)، ويوصله إلى حويصلة داخل الخلية، فيكسر المستضد إلى پپتيدات (2)، ويهاجر أحد جزيئات المعقد MHC من الصف الثاني ـ الذي أُنتج داخل الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية ـ إلى الحويصلة، حيث يمسك بأحد الپپتيدات (3)، ويقوم عندئذ جزيء المعقد MHC بنقل الپپتيد إلى سطح الخلية (4). تترابط خلية تائية CD4 مساعدة بالمستضد، وتصنع جزيئات تنبئ الخلية البائية بأن عليها أن تتكاثر وتنتج أضدادا (5).
تقيم البكتيريا التي تخمج إحدى البلعميات في حويصلة خلوية (1). يُنقل إلى الحويصلة جزيء المعقد MHC من الصف الثاني الذي ينتج في الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية (2). وتبقي سلسلة بروتينية (الخط الأسود) الجزيء مبطلا (مخمدا) إلى أن يصل الحويصلة. وتنفصم في الحويصلة السلسلة البروتينية المبطلة مما يمكن جزيء المعقد MHC من الصف الثاني من الترابط بأي پپتيد متاح هناك (3). ويتحرك بعد ذلك المعقد إلى سطح الخلية، حيث تترابط بالپپتيد الخلية التائية الالتهابيةCD4 (4)4 . وتنشط عندئذ الخليةُ التائية البلعميةَ، مؤشرة إليها تدمير المادة الموجودة في حويصلتها (5).
إن البروتينات الڤيروسية التي تنتجها خلية مخموجة (1) تُكسر إلى پپتيدات (2). تُنقل الپپتيدات إلى الشبكة البلازمية الداخلية حيث يتشكل حولها المعقد MHC من الصف الأول (3). ويتجه كل معقد إلى سطح الخلية حيث يمكن أن تكشفه خلية تائية قاتلة، تعبر عن بروتين CD8 (4)4. وتفرز عندئذ الخلية التائية مركبات تدمر الخلية المخموجة (5).

وإذ بدا أن هذه السيرورات لم تولد تنوعا كافيا، فإن جينات مستقبلات الخلايا البائية درجت على أن تطفر mutate بسرعة فائقة وذلك عندما تُنشط الخلايا البائية بسبب ترابطها بمادة غريبة أو بمستضد. وينشئ هذا الطفور المفرط hypermutation مستقبلات إضافية. وفي الحقيقة، إن الجهاز المناعي يُدخل باستمرار على بنية المستقبلات ذات الفعل الناجع تغايرات ذاتية طفيفة، سعيا لتحقيق استجابة مناعية أفضل فأفضل.

وما إن تترابط خلية بائية ما بمستضد معين بوساطة مستقبلها، حتى تتمايز وتطلق جزيئات الأضداد ـ شكل ذؤوب من المستقبل ـ في الپلازما plasma، أي المكون السائل للدم. ولأن الجينات التي أنشأت المستقبل على الخلية البائية الأصلية هي نفسها التي تعيِّن نوعية هذا الضد الجديد، فإن لهذا الجزيء النوعية نفسها التي تُحدّد المستقبِل. على أنه يمكن للخلية البائية ونتاجاتها (أنسالها) أن تُحْدِث تغايرات مختلفة في جزيء الضد، ويمكنها أن تنجز ذلك بتغيير تدخله على ما يسمى بالقسم الثابت من السلسلة الثقيلة وذلك بإعادة تراتب الجينات أيضا. وينشئ هذا النمط الثاني من التلاعب بالجينات gene manipulation (أو منابلتها) أضدادا تذهب إلى أماكن الجسم المختلفة. إن هذه الأضداد لاتزال تحتفظ بقدرتها على تعرف المستضدات نفسها. وبوسع هذه الأنماط من الأضداد، بعد أن تترابط بأحد الميكروبات، أن تستهل شلال المتممة، أو تُنشِّط البلاعم، أو تسبب تفاعلات أرجية.

وتعد المناعة التلاؤمية أيضا مصدر الذاكرة المناعية. بمعنى أننا نقاوم الأخماج، التي سبق وعانيْناها، بكفاءة وقوة أشد كثيرا من مقاومتنا الأخماج التي نواجهها للمرة الأولى. وترجع هذه الذاكرة إلى أن الجسم يستبقي لمفاويات كانت قد استجابت للخمج البدئي. وبوسع هذه الخلايا أن تنشط من جديد بسرعة عندما يدخل الميكروب نفسه. ويَحُول نتاجُها من الأضداد دون رجعة المرض. (وبالمقابل، فإن نظام المناعة الغريزية لا يميز بين ميكروب وآخر، وبالتالي لا يمنح الجسم ـ إثر خمج ما ـ أي حماية مهما كانت درجتها.)

إن فوائد المناعة التلاؤمية تعاني جزئيا من إشكالين. الأول أنها تحتاج إلى أكثر من خمسة أيام لتطور استجابة استضادية antibody response، ذلك أن على الخلايا البائية أن تتكاثر وتتمايز قبل أن تقوم بصنع الأضداد. وعلى الجسم أن يعتمد على نظام المناعة الغريزية خلال هذه الفترة كي يبقى الخمج تحت سيطرته. أما الإشكال الآخر فيتمثل في الحقيقة التالية: لِكَوْن نظام المناعة التلاؤمية يتعرف الجزيئات الكِبْرِيّة (كالبروتينات وعديدات السكريد) بوساطة الأضداد التي يصنعها خصيصا لذلك، فإنه قد يحدث أحيانا أن تُصنع أضدادٌ ذاتية موجهة ضد خلايا الجسم نفسه نتيجة التشابه الجزئي بين بعض مكونات الجسم والمستضدات الغريبة. وتنشِّط هذه الأضدادُ الذاتية المتممةَ بكفاءة يؤدي مستواها الرفيع إلى تقهقر النظام الذي يمنع المتممة من مهاجمة خلايا الجسم. إن النتيجة المترتبة على ذلك هي نشوء أمراض المناعة الذاتية autoimmune diseases. ويتم تجنب الهجمة على الذات عبر التحمل tolerance، تلك السيرورة التي تسبب إزالة الخلايا ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات) [انظر: «كيف يتعرف الجهاز المناعي الجسم الذي يعيله؟» في هذا العدد].

وبغض النظر عن هذين الإشكالين فإن استراتيجية إعادة تراتب الجينات في نظام المناعة التلاؤمية قد أنشأت آلية مبدعة للحماية. فكيف أمكن لهذه السيرورة (الحدث) ذات التعقيد المتقن أن تنبثق في الفقاريات؟ وكيف أصبحت حجر الزاوية في المناعة التلاؤمية؟ كما هي الحال في جميع قضايا التطور، فإن الإجابة عن هذا التساؤل تتم عن طريق وضع نماذج احتمالية فقط يغلفها الارتياب. ومع ذلك، فإن معرفتنا للمستقبلات توحي قطعا بسيناريو قوي الاحتمال.

ويكمن أحد المفاتيح المهمة للّغز في حقيقة أن المستقبلات المناعية قد بُنيت كلها من لبنات متشابهة من البروتين. وتكون كل لبنة من هذه اللبنات مكودة (مُرمَّزة) بتسلسل من الدنا (DNA) يعرف بالإكسون exon، أو التسلسل المكوِّد coding sequence. ويفصل الإكسونات عن بعضها تسلسلات غير مكودة من الدنا تعرف بالإنترونات introns، تُنتسخ transcribed إلى الرنا RNA، ثم تزال بسيرورة إنزيمية تعرف بتضفير الرنا RNA splicing تنجزه الريبوزيمات ribozymes. ونتيجة لذلك، تصبح اللبنات المكودة مشكلة لرسالة متصلة.

ولكل مكونة بروتينية في جزيء الضد بنية تسمى ثنية (طية) الگلوبُلين المناعي immunoglobulin fold. لقد استخدمت هذه البنية العامة ـ إضافة إلى الأضداد ـ في كثير من البروتينات، فهي تشكل مجالا (نطاقا) domain مكتنزا من البروتين يشتمل على شرائط من الحموض الأمينية، يتوضع الواحد منها بجانب الآخر. وتشكل هذه المجالات السلسلتين الثقيلتين والسلسلتين الخفيفتين لجزيء الضد، والتي يرتبط بعضها ببعض بوساطة زوج (شفع) من ذرات الكبريت، أو ما يعرف بالرابطة ثنائية السلفيد disulfide bond.

وهناك نمطان من مجالات الگلوبلينات المناعية، يرمز لهما بالحرف V للمتغير variable و C للثابت constant. ويتزاوج (يتشافع) المجالان V للسلسلتين الخفيفة والثقيلة في جزيء الضد ليشكلا الموضع (المقر) الذي يتعرف المستضد. ويلي ذلك أزواج من المجالات C التي تتوسط وظائف معينة للجزيء، كالترابط بالمتممة مثلا. ويتألف المجال V من جينات جزئية، هي قطعة الجين V، والقطعة J (اختصارا للوصل joining في الجين نفسه وللمفصلة في جزيء الضد)، وأحيانا قطعة الجين D (اختصارا للتنوع diversity). وينشأ التغاير المتفرد في المجالات V من إعادة تراتب الجينات، التي تولد تنوع المستقبلات في الإنسان.

ومع ذلك، فلبعض البروتينات مجالات تماثل المجالات V للأضداد، غير أنها لا تنتج بإعادة تراتب الجينات. ففي هذه البروتينات يناوع إكسون واحد المجال V بأكمله. وكمثال عن هذه البروتينات الجزيء CD4، الذي يلعب دورا في التعرف المناعي، ويمثل أيضا هدف ڤيروس الإيدز. وفي الحقيقة، لقد عثر أيضا على أمثال الجينات V التامة في جينات أضداد بعض الفقاريات البدائية.

وربما اشتقت، تطوريا، جينات الأضداد معادة التراتب من النوع V الخاصة بنا من هذه الجينات V التامة. وقد تكون إعادة تراتب الجينات قد نشأت عندما غرزت كِسْرة متحركة من الدنا ـ تسمى الترنسپوزون transposon ـ نفسها في إكسون V التام. وبدهي أن يسبب هذا الانغراز شطر الإكسون V إلى قسمين تصل بينهما الكسرة. إن جينات الشطر هذه بطّالة، فهي لا تصنع أضدادا إلا عندما يزال الترنسپوزون المتداخل ويعاد وصل قطع الجين لتشكل من جديد الإكسون التام. إن آلية الإزالة هذه موجودة حقا في أجسامنا، وذلك عندما تبدأ اللمفاويات البائية بتوليد مستقبلاتها. وهكذا، فإن إعادة تراتب الجين V تنجز مهمة جوهرية تتجاوز توليد تنوع الأضداد. إنها حاسمة أيضا في تشكيل الجينات المكودة لبروتينات الضد. فمن دون إعادة التراتب لا يمكن إنتاج أي بروتين من قِبل هذه الجينات.

لقد برهنت سيرورة إعادة تراتب الجينات، على أنها وسيلة جبارة للتعبير expressing عن جين واحد بعينه فقط من بين جينات كثيرة ذات قربى، يستخدمها مُمْرِض واحد على الأقل كي يتجنب كشفه من قبل الجهاز المناعي. فالمثقبية typanosome ـ طفيلي من الحيوانات الأوالي يسبب مرض النوم ـ تمتلك بروتينا واحدا في غلافها (غلالتها)، ينتج العائل (الثوي) المخموج أضدادا ضده. وبوسع هذه الأضداد أن تزيل معظم المثقبيات، بيد أن قلة من هذا الطفيلي تغير غلافها عن طريق إعادة تراتب جينات بروتين الغلاف. وتتملص هذه المتفاوتات variants من المثقبيات من أن تكشف من قبل الأضداد النوعية الأولى القاتلة، فتستمر في نموها. وينتج العائل أضدادا لكل متفاوتة من هذه المتفاوتات، بيد أن أشكالا جديدة تستمر في الظهور والنمو، مسببة طرازا نكسيا من الخمج. وكما هي الحال في المستقبلات المناعية، فإن إعادة التراتب تنظم هنا أيضا التعبير الجيني.

لقد ناقشنا حتى الآن كيف أن نظام المناعة الغريزية (الفطرية) الذي يعتمد على جزيئات تعرّف موروثة؟ وكيف أن نظام المناعة التلاؤمية (التكيفية) الذي يعوِّل على إعادة تراتب الجينات لتوليد مستقبلات جديدة في اللمفاويات، يعملان معا لتعرّف الميكروبات؟ إن هذه المقاربة (النهج) الثنائية تكون ناجعة ضد المُمْرِضات الموجودة في سوائل الجسم. بيد أن كثرة من الميكروبات تتسلل إلى داخل خلايا الجسم قبل أن يتم إنتاج الأضداد. فلكونها بروتينات ذؤوبة في الماء، فإن الأضداد تستطيع أن تتوغل في السائل خارج الخلايا وفي الدم، بيد أنها لا تستطيع أن تمر عبر الأغشية الشحمية للخلايا.

ونتيجة لذلك، فقد طور الجهاز المناعي آلية خاصة لكشف الخمج داخل الخلايا. وتشتمل هذه الآلية على خطوتين: الأولى، التأشير إلى الجسم بطريقة ملائمة إلى أن خلايا معينة قد أُخمجت. أما في الخطوة التالية فيتم تحريك خلايا صُممت خصيصا كي تتعرف هذه الخلايا المخموجة، ولتزيل الخمج.

وتنجز الخطوة الأولى، التي يتم فيها التأشير إلى انخماج خلية، عن طريق جزيئات خاصة تنقل قطعا من الميكروب إلى سطح الخلية المخموجة. إن هذه الجزيئات التي تركب في الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية endoplasmic reticulum للخلية، تترابط بالپپتيدات، وهي شُدف صغيرة من البروتين الذي تدرّك (تحلل) داخل الخلية. وبعد أن تترابط بالپپتيدات، فإن هذه الجزيئات الناقلة تهاجر إلى سطح الخلية.

إن هذه الجزيئات الناقلة هي بروتينات جينات معقد التوافق النسيجي الكبير major histocompatibility complex  MHC  ، وقد اكتشفت من قبل اختصاصي الوراثة البريطاني الراحل <P.گورَرْ> ومن قبل <D.G.سنلّ> (من مختبر جاكسون في ولاية مين) كمسبب لرفض الطُّعْم، ومن هنا أتى هذا الاسم الطويل المشتق من التعبير اليوناني histo (نسيجي)، و compatibility (المقدرة على التوافق). ويمكن تقسيم جزيئات المعقد MHC هذه إلى صفين (نوعين)، سُمِّيا دونما أي براعة في التصور: الصف الأول class I والصف الثاني class II. وتوجد جزيئات الصف الأول على سطوح أنماط خلايا الجسم كافة تقريبا، أما جزيئات الصف الثاني فتوجد فقط على سطوح الخلايا ذات العلاقة بالاستجابة المناعية، كالبلعميات والخلايا البائية.

يشكل معقد التوافق النسيجي الكبير، أو MHC على سبيل الاختصار، صفين (نوعين) من الجزيئات في الخلايا: الصف الأول (في اليسار)، والصف الثاني (في اليمين). وتمثل الصورتان الجانبيْن اللذين يراهما مستقبل الخلية التائية. يستطيع جزيء المعقد MHC من الصف الأول أن يترابط بالپپتيدات القصيرة فقط (الحمراء)، لأن مقر الترابط ذو نهاية مسدودة. وفي المقابل، فإن جزيء المعقد MHC من الصف الثاني يستطيع الترابط بپپتيدات ذات أطوال مختلفة، لأن موضع (مقر) الترابط مفتوح من كلا طرفيه.

وعلى الرغم من أن نمطي جزيئات المعقد MHC مختلفان بنيويا، فإن الدراسة التي نشرت من قبل <H.J.براون> و <C.D.وايلي> وزملائهما (من جامعة هارڤارد) في الشهر7 /1993، وكذلك نتائج سابقة نشرت من قبل <J.P.بيوركمان> (التي تعمل الآن في معهد كاليفورنيا للتقانة) وزملائها، أوضحت أن نمطي الجزيئات ينثنيان في شكلين شديدي التماثل [انظر الشكل في هذه الصفحة]. ولكل جزيء من المعقد MHC أخدود عميق، يمكن أن يترابط بداخله پپتيد قصير أو شدفة من بروتين. ولأن هذا الپپتيد لا يشكل قسما من جزيء المعقد MHC نفسه، فإنه يستطيع أن يتباين من جزيء المعقد MHC إلى آخر. وتتوضع على سطوح الخلايا السليمة هذه الپپتيدات كلها إنما تشتق من بروتينات الذات. بيد أن وجود الپپتيدات الغريبة في أخدود جزيء المعقد MHC هو الذي ينبئ الجهاز المناعي بأن الخلية عارضة هذه الپپتيدات الغريبة قد صارت مخموجة.

ويتم تعرف مجموع المعقد MHC مع الپپتيد الغريب، المعروض على سطح الخلية المخموجة من قبل مستقبلات توجد على سطوحِ نمطٍ خلوي آخر مختلف كليا، ونعني بذلك الخلايا التائية. إن بنية المستقبل على الخلايا التائية هي أساسا نفس بنية جزيء الضد المترابط بالغشاء الخلوي والذي يعمل كمستقبل على سطوح الخلايا البائية. بيد أن مستقبلات الخلية التائية قد تخصصت في تعرف شدف الپپتيدات الغريبة المترابطة بجزيئات المعقد MHC فقط. فعندما يترابط مستقبل نوعي خاص بنسيلة تائية معينة بمجموع المعقد MHC مع الپپتيد الغريب والمتتام مع المستقبل، فإن الخلية التائية تستطيع أن تعمل عندئذ إما على شفاء الخلية المخموجة، أو على قتلها.

إن جزيئات صفي المعقد MHC المختلفين تقدم پپتيدات تنشأ في أماكن مختلفة داخل الخلايا. فجزيئات الصف الأول تترابط بپپتيدات تنشأ عن بروتينات في حيز العصارة الخلوية cytosol compartment للخلية. إن هذه البروتينات تُهضم داخل الخلية كجزء من السيرورة (الحدث) الطبيعية التي تجدد بوساطتها الخلية تجديدا مستمرا محتوياتها البروتينية. لقد أوضح <J.شبرد> (من مختبري في جامعة ييل) مؤخرا أن الشدف الپپتيدية القصيرة التي تنجم عن هذه السيرورة، تُضخ بوساطة ناقل خاص من حيز العصارة الخلوية إلى داخل الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية.

ويتم في هذه الشبكة تركيب جزيئات الصف الأول من المعقد MHC كسلاسل طويلة من الحموض الأمينية، التي عليها أن تتثنى لتنتج بروتين المعقد MHC من الصف الأول الناضج. ولا يمكن أن يحدث مثل هذا التثني إلا حول پپتيد مناسب، كما يحدث تقريبا للؤلؤة المحار التي لا تتنامى إلا حول ذرة الرمل [انظر الشكل في الصفحة 79]. فالپپتيدات المنقولة إلى الشبكة الپلازمية الداخلية تعمل إذًا فيها كبذور طبيعية يتثنى حولها جزيء المعقد MHC من الصف الأول.

إن تثني جزيء المعقد MHC من الصف الأول حول پپتيد ما، يؤشر للجزيء كي يحمل الپپتيد إلى سطح الخلية ويمسك به هناك. فإذا كان هذا الپپتيد غريبا، نجم على سبيل المثال عن ڤيروس يخمج الخلية، فإن خلية تائية عابرة ستتعرفه على الفور. إن الخلايا التائية التي تتصرف على هذا النحو هي تلك التي تحمل البروتين CD8 على سطوحها. إن هذه الخلايا التائية CD8 تبني عندئذ استجابة مناعية ضد الخلية المخموجة بتحريرها مواد كيميائية تدمر الخلية كليا. ولأن الخلايا التائية CD8 مبرمجة لتقتل الخلايا التي تعرض پپتيدات غريبة، فقد تعرف أحيانا بالتائيات القاتلة. وبدهي أن تشكل هذه الاستجابةُ الطريقةَ الوحيدة الناجعة لمنع تكوين مزيد من الڤيروسات من قبل الخلايا المخموجة.

وبطبيعة الحال، فليس كل الميكروبات تنمو في حيز العصارة الخلوية. فبعض البكتيريا مثل المُتَفَطِّرات Mycobacteria التي تسبب السل (التدرن)، تنمو في حويصلات vesicles داخل الخلية، ويفصلها غشاء خاص فصلا محكما عن سائر مكونات الخلية. وغالبا ما تكون الخلايا المخموجة بهذه الطريقة من البلعميات التي تبتلع البكتيريا، فتُعدّ بطبيعة الحال لهذه الأخماج مأوى مغلقا. وتُنتج البكتيريا ضمن الحويصلات بروتينات، تتفكك فيها إلى پپتيدات. إن هذه الپپتيدات تترابط بجزيئات المعقد MHC من الصف الثاني، التي تهاجر عندئذ إلى الحويصلات وذلك بدءا من مكانها الأصلي داخل الشبكة الپلازمية الداخلية.

يحتاج تنشيط اللمفاويات إلى التنبيه بجزيئين. وتمثل هذه الأشكال خلية تائية CD4 وبلعمية. ففي حال غياب المستضد، تكون الخلية التائية هاجعة (في اليسار)، على أن المستضد وحده لا يستطيع أن يحث الخلية التائية على تأدية وظيفتها (في الوسط)، وبذلك لا تحدث استجابة ضد مستضدات الجسم ذاته. وفي الواقع، فإن الإشارة الأولى تعطل الخلية التائية. أما إذا أُخمجت بلعمية، فإنها تنتج عندئذ جزيئًا يسمى B7، الذي يؤثر في البروتين CD28 السطحي للخلية التائية (في اليمين). ولا تتكاثر الخلية التائية إلا إذا توافر في آن واحد وعلى سطح الخلية المخموجة نفسها كلٌ من المستضد وجزيء B7.

وخلافا لجزيئات المعقد MHC من الصف الأول التي عليها أن تنضج حول أحد الپپتيدات، فإن جزيئات المعقد MHC من الصف الثاني تبقى مُرأسة (مجهزة) للعمل بمجرد أن تُركب. فقد بين <P .كرسويل> (الذي يعمل حاليا في جامعة ييل) أن سلسلة خاصة من الحموض الأمينية في الشبكة الپلازمية الداخلية تكبح قدرة جزيئات المعقد MHC من الصف الثاني على الترابط إلى أن تهاجر هذه الجزيئات إلى الحويصلات. وتنفصم عندئذ السلسلة الإضافية الكابحة عن جزيء المعقد MHC من الصف الثاني مما يسمح له بأن يترابط ترابطا قويا بأي پپتيد يصادفه.

ويعمد جزيء المعقد MHC من الصف الثاني عندئذ إلى إيصال الپپتيد إلى سطح الخلية. ويتم هناك تعرف الپپتيد من قبل خلية تائية تحمل على سطحها البروتين CD4. وخلافا للخلايا التائية CD8، فإن الخلايا التائية CD4 لا تقتل الخلية مباشرة. وعوضا عن ذلك، فإنها تنشّط الخلية التي تَعرِض الپپتيد. وعلى سبيل المثال، فإن أحد أنواع الخلايا التائية CD4، ويعرف بالخلايا التائية الالتهابية inflammatory (أو Th1)، يستطيع أن ينبه بلعميةً كي تقتل المتفطرات المحتجزة داخل حويصلاتها. إن فقدان هذا الصف من الخلايا التائية CD4، هو الذي يجعل مرضى الإيدز شديدي الاستعداد للإصابة بأمراض السل.

وهناك نوع آخر من الخلايا التائية CD4، هو الخلايا التائية المساعدة helper (أو Th2)، التي توجه فاعلية الخلايا البائية. فعندما يترابط بروتين ما بمستقبل الخلية البائية، فإنه يدخل عندئذ إلى حويصل خاص داخل الخلية حيث يُشطر إلى پپتيدات تترابط بجزيئات المعقد MHC من الصف الثاني. ويتم حينئذ إيصال هذه المعقدات إلى سطح الخلية حيث يصبح تعرفها من قبل الخلايا التائية المساعدة أمرا ممكنا. وتقوم عندئذ الخلايا التائية بإبلاغ الخلايا البائية بأن عليها أن تبدأ في صنع الأضداد، ولا تتم هذه السيرورة إلا في الخلايا البائية التي سبق وترابطت بالمستضد. وهكذا، فإن جزيئات المعقد MHC والخلايا التائية تضبط في نهاية المطاف حتى في إنتاج الأضداد.

إن الجينات البشرية التي تكوِّد (ترمز) جزيئات المعقد MHC هي أكثر الجينات تغايرا في جينوم الإنسان. وقد تكون هذه الملامح غير العادية لجملة system المعقد MHC هي التي مكنت االإنسان العاقل Homo sapiens من أن يتغلب على كثير من المُمْرِضات. وخلافا لجينات مستقبل المستضد، التي تتباين من خلية لأخرى في الشخص نفسه، فإن جينات المعقد MHC هي نفسها في خلايا الشخص الواحد كافة، بيد أنها تختلف من شخص لآخر. إن كل متغايرة من جزيء المعقد MHC تترابط بپپتيدات مختلفة، ذلك إن التغيرات الجينية تؤثر أساسا في بنية الأخدود الذي يمسك بالپپتيد.

إن هذه التغايرية في جزيئات المعقد MHC تعني أن بعض الأفراد على الأقل سيمتلكون جزيئات من المعقد MHC تترابط بپپتيداتِ أيِّ مُمرِض، حتى مع استمرار تطور بنية بروتينات هذه الميكروبات. وقد درس <V.A.هِلّ> (من جامعة أكسفورد) مؤخرا جمهرة (مجموعة) سكانية تعرضت طوال مئات عديدة من السنين للمتصورة المنجلية Plasmodium falciparum ـ الطفيلي الذي يسبب الملاريا (البرداء) malaria المميتة. لقد وجد هذا الباحث أن النسبة المئوية للأشخاص الذين تترابط جزيئات المعقد MHC لديهم ترابطا شديد القوة بپپتيدات من الطفيلي، قد ازدادت خلال ذلك الوقت. وتستطيع الخلايا التائية أيضا أن تتعرف هذه الاختلافات الجينية في جزيئات المعقد MHC، الأمر الذي يفسر لماذا تُرفض طعوم النسج؟ فالخلايا التائية في العائل (الثوي) ترى الپپتيدات المترابطة بجزيئات مختلفة من المعقد MHC على أنها غريبة، فتقتل بالتالي النسيجَ الطُّعْمَ.

وليس ارتباط المستضد بالمستقبل سوى بداية الاستجابة المناعية. فمن أجل أن تنتج الخلية البائية أضدادها أو لتحرر الخلية التائية جزيئاتها القاتلة أو المساعدة، فإن على نواة الخلية أن تُبلغ بحدوث ترابط على سطح الخلية. وتتألف مستقبلات اللمفاويات من بروتينات عديدة تتآثر فيما بينها كي توصل رسالة كيميائية حيوية إلى داخل الخلية. فعندما يترابط مستقبل بالمستضد، فإن هذا الترابط يدفع ببروتينات أخرى توجد في غشاء الخلية كي تفعّل (تنشط) إنزيمات توجد داخل الخلية وتعرف بالكينازات kinases. إن الكينازات المفعلة تضيف إلى البروتينات الأخرى الموجودة داخل الخلية زمر الفُسْفات. إن زمر الفسفات المضافة تغير من فاعلية هذه البروتينات، بحيث تؤشر للخلية في نهاية الأمر كي تنمو وتتمايز. فالبروتينانCD4 1 و CD8 على الخلايا التائية وكذلك البروتين المعروف بالرمز CD19 الموجود على الخلايا البائية، هي أمثلة عن بروتينات الغشاء المقترنة بالكينازات الموجودة داخل الخلايا. وهناك نوع آخر من الجزيئات التي تفعّل في هذا السياق ويعرف بالرمز CD45، وهو إنزيم يساعد وساطيا على تنشيط اللمفاوية بإزالة الفسفات من بروتينات معينة، مبطلا فاعليتها.

غير أن الكينازات إشارية الوساطة لا تستطيع بحد ذاتها أن تنشط اللمفاويات. ذلك أن على اللمفاويات أن تتلقى كي تنمو إشارة ثانية مصدرها خلايا أخرى في الجسم. وتسمى هذه الرسائل عادة الإشارات تميمة التنبيه costimulatory signals. ولا تحتاج الخلايا البائية إلى الخلايا التائية المساعدة، كي تتعرف المستضد فحسب، بل أيضا لتصنع بروتينا هو ربيطة CD40 التي تترابط بجزيء CD40 للخلية البائية. وتعتمد الخلايا التائية بصورة رئيسة على ما يعرف بالجزيئات B7 كإشارات تميمة التنبيه، إن هذه الجزيئات (B7) تعبر عنها الخلايا نفسها التي تقدم المستضد. وأثناء عمله في مختبري، برهن <Y.ليو> (الذي يعمل حاليا في المركز الطبي لجامعة نيويورك) على أن الخلية تعبر عن B7 عندما يدرك نظام المناعة الغريزية بأن الميكروبات دخلت الجسم، أي أثناء مراحل الخمج المبكرة عادة. وفي الواقع، فإن نظام المناعة الغريزية قد يُهيئ نظام المناعة التلاؤمية كي يبدأ فعله. وعلى هذا النحو، فإن الإشارات تميمة التنبيه قد تساعد الاستجابة المناعية التلاؤمية على تمييز الميكروبات الخامجة عن نسج الذات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اللمفاويات التي تترابط بالمستضد ولا تتلقى تميما تنبيهيا، لا تنشط أبدا. ونتيجة لذلك، فإن مستضدات الذات منفردة قد لا تتمكن من أن تستهل استجابة مناعية.

وما إن تترابط اللمفاوية بالمستضد وتتلقى تميم التنبيه حتى تتمايز وتصبح نشيطة. ويُطلق أحيانا على الأنماط المُحوَّلة والنشيطة من اللمفاويات اسم الخلايا المستفعلة effector cells، ذلك أنها تتواسط ـ في حقيقة الأمر ـ الاستجابة المناعية. وما إن تنشط الخلية حتى تفقد الحاجة إلى الإشارات تميمة التنبيه. وهكذا، فعلى الرغم من أن الخلايا التي عبرت عن تميمات التنبيه هي وحدها التي تستطيع أن تستثير استجابة مناعية، فإن بوسع هذه الخلايا أن تهاجم أي خلية أو أي جزيء. إن هذه الاستجابة مهمة لأنها تُمكِّن الخلايا البائية والتائية من مهاجمة أي خلية أضحت مخموجة، بغض النظر عن نمطها.

إذًا ما الخلل لدى المصابين بفقد غاما گلوبلين الدم، تلك الحالة التي لا تُصنع فيها أضداد؟ لقد تم اكتشاف الجواب عن هذا التساؤل منذ وقت قريب فقط [انظر: «كيف يتنامى الجهاز المناعي؟» في هذا العدد]. فقد اتضح أنه أثناء تنامي الخلايا البائية في الأصحاء، فإن تنظيم إعادة تراتب جينات المستقبلات يضبط بدقة فائقة. وبمعنى آخر، فإن صنع المستقبل الضدي يجب أن يتم على نحو مضبوط تماما. إن على الجين V لكل سلسلة پپتيدية أن يعيد تراتبه وفقا لتسلسل صحيح تماما، ولا يمكن أن يكتمل بناء المستقبل حتى تنجز سيرورات (أحداث) إعادة التراتب كلها بطريقة صحيحة.

وهكذا، فلكي تشكل الخلية مستقبلات صحيحة، فإن عليها أن تحدد، وهي آخذة بالتنامي، حالة جينات مستقبلها. فالجين V للسلسلة الثقيلة يعاد تراتبه بحيث تستطيع الخلية أن تصنع السلسلة الثقيلة لمستقبلها أولا، وتهاجر عندئذ هذه السلسلة إلى سطح الخلية. إن وجود السلسلة الثقيلة على سطح الخلية يؤشر للخلية البائية كي تتوقف عن إعادة تراتب جينات السلسلة الثقيلة، وأن تبدأ إعادة تراتب جينات السلسلة الخفيفة. وعلى ما يبدو، فإن أحد الكينازات يبعث بهذه الرسالة الحاسمة من سطح الخلية إلى داخلها.

أما في حال فقد غاما گلوبلين الدم فإنه يتم صنع السلاسل الثقيلة من دون السلاسل الخفيفة. وقد تبين مؤخرا أن هؤلاء المرضى يعانون وجود كيناز معيب. ومما تجدر الإشارة إليه، أن غياب كيناز قريب يحدث في الخلايا التائية وله التأثير نفسه في تنامي الخلية التائية. وعلى ما يبدو، فإن العيب الجيني الذي وصفه والدي على صفحات مجلة سيانتفيك أمريكان منذ 38 عاما قد أمكن أخيرا تعرفه، وعلينا أن نفهم الآن كيف يفعل هذا العيب (الخلل) فعله؟.

وفي غضون ذلك، فإن أنواع الأخماج التي تحدث لدى الأشخاص المصابين بفقد غاما گلوبلين الدم قد علمتنا لماذا يكون إنتاج الأضداد أساسيا للصحة؟ إن معالجة هؤلاء المرضى بإعطائهم مجموعة من غاما گلوبلينات مانحين عديدين، توفر لهم الأضداد اللازمة وتتيح لهم حياة سوية تقريبا. بيد أن هذه المعالجة ليست سوى معالجة مؤقتة لمرض جيني (وراثي) يمكن الآن ـ نظريا ـ أن يصحَّح بفرز الجين السويّ في خلايا نقي عظام المريض. وغني عن البيان أن البحوث الأساسية في علم المناعة والوراثة وبيولوجيا الخلية والسرطان والبيولوجيا الجزيئية تحتاج باستمرار إلى دعم قوي كي يتم قهر هذا المرض والأمراض الأخرى الأكثر انتشارا والتي سيُعْرض لها في هذا العدد الخاص من المجلة.


 المؤلف
Charles A. Janeway, Jr.
أستاذ علم المناعة وعلم الحياة في جامعة ييل وباحث في معهد هوارد هيوز الطبي بييل. حصل على بكالوريوس في الكيمياء من جامعة هارڤارد. وفي عام 1969 حصل على الدكتوراه في الطب. ومارس الطب تدرّبًا في مستشفى پيتر بنت بريگهام ببوسطن. وتدرب في مجال المناعيات في المعهد الوطني للبحوث في إنكلترا، وفي المعاهد الوطنية للصحة وفي جامعة أوپسالا في السويد. عين جينواي في جامعة ييل عام 1977. ألف بالاشتراك مع <P.ترافرز> (من كلية بيركبيك في جامعة لندن) كتابا تدريسيا في بيولوجيا المناعيات، نشر عام 1994.


مراجع للاستزادة 
SEPARATION OF SELF FROM NON-SELF IN THE COMPLEMENT SYSTEM. John P. Atkinson and Timothy Farries in Immunology Today, Vol. 8, Nos. 7-8, pages 212-215; July/August 1987.
STRUCTURE OF THE HUMAN CLASS I HISTOCOMPATIBILITY ANTIGEN, HIA-A2. Pamela J. Bjorkman et al. in Nature, Vol. 329, No. 6139, pages 506-512; October 8-14, 1987.
T CELL ANTIGEN RECEPTOR SIGNAL TRANSDUCTION: A TALE OF TAILS AND CYTOPLASMIC PROTEIN-TYROSINE KINASES. Arthur Weiss in Cell, Vol. 73, No. 2, pages 209-212; April 23, 1993.
PHYLOGENETTC DIVERSIFICATION OF IMMUNOGLOBULIN GENES AND THE ANTIBODY REPERTOIRE. Gary W. Litman et al. in Molecular Biology and Evolution, Vol.. 10, pages 60-72; January 1993.
 

(1) إن CD4 لها أهميتها عند الحديث عن الإصابة بالإيدز. والرمز CD هو اختصار للتعبير cluster of differentiation (تعنقد التمايز).  (التحرير)