Translate

الاثنين، 19 مارس 2012

كيف يتعرف الجهاز المناعي (على) الغزاة؟

 


كيف يتعرف الجهاز المناعي (على) الغزاة؟
تقوم خلايا الجهاز المناعي بإعادة تركيب شدف جيناتها
لتنشئ ملايين المستقبلات الضرورية لتعرُّف ومهاجمة
ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من المُمْرِضات التي نواجهها طوال الحياة.
<A.C.جينواي، جونير>
 
تستخدم الخلايا التائية (الأصفر)، وهي نوع من اللمفاويات، مستقبلات خاصة على سطوحها لتكشف خلية بلعمية مخموجة (الأزرق). وتمثل الخلايا التائية هذه جزءا فقط من ذخيرة الجهاز المناعي لتعرّف المُمْرِضات (العوامل الممرضة).

نُشرت في مجلة ساينتفيك أمريكان منذ أكثر من ست وثلاثين سنة مقالة بعنوان «فَقْدُ غاما گلوبُلين الدم» Agammaglobulinemia، وكان والدي أحد مؤلفي هذه المقالة. فقد وصف علة نتجت من عيب (خلل) في دفاعات الجسم ضد الخمج، وهو إخفاق آلية الجهاز المناعي في كشف المُمْرِضات (العوامل الممرضة) pathogens. وساعد عمله وعمل<O. براتون>، بتعرفهما أول مرض من أمراض العوز المناعي immunodeficiency disease، على شق طريق تؤدي إلى فهم عميق ومفيد للآلية التي يتعرف بوساطتها الجهاز المناعي جزيئات الجسم، ويميزها عن جزيئات البكتيريا (الجراثيم) والڤيروسات والطفيليات الغازية.

ولا يستطيع الناس المصابون بفَقْد غاما گلوبلين الدم صنع جزيئات الأضداد. وتوجد هذه البروتينات المتخصصة في الدم وفي السائل بين الخلايا ـ وتترابط في الحالة السوية بالبكتيريا والڤيروسات التي تسبب الأخماج، وتعمل كإشارة لجزيئات الجهاز المناعي وخلاياه الهجومية. إن قدرة جزيئات معينة، كالأضداد، على تعرف الجزيئات الغريبة (موجهة بذلك دفاعات الجسم) تكسبنا خصائص مفيدة ومهمة. فهي تمكننا من التخلص من الأخماج ومن مقاومة عودة الخمج ومن حماية أنفسنا بالتلقيح vaccination.

ومما يؤسف له أن بعض هذه الآليات تستطيع أن تستثير أيضا أمراضا عوضا عن أن تضبطها. فقد يتفاعل الجهاز المناعي مع مادة غريبة عديمة الضرر مثل الطلع pollen، فيسبب الأرجية allergy. وقد يأخذ هذا التفاعل منحى أشد خطورة، عندما تتركز الهجمة المناعية على نسج الجسم ذاته، مسببة مرضا من أمراض المناعة الذاتية. لكن آليات التعرف recognition والاستجابة هي واحدة، سواء أسهمت في الصحة أو المرض. إن آليات التعرف حاسمة إذًا في فهم كيف يعمل الجهاز المناعي وكيف يخفق.

وسأصف في هذه المقالة النظامين الرئيسين اللذين يتعرف بوساطتهما الجسمُ المادةَ الغريبة. الأول هو نظام المناعة الغريزية (الفطرية) innate immune system، بمعنى أن الجسم يولد متمتعا بالقدرة على تعرف ميكروبات (أحياء مجهرية) معينة تعرفا فوريا، وعلى تدميرها. أما الثاني فهو نظام المناعة التلاؤمية (التكيفية) adaptive، أو المكتسبة acquired الذي تلعب فيه الأضداد دورا قياديا. وتتشكل المستقبلات receptors المستخدمة في استجابة نظام المناعة التلاؤمية بوصل قطع الجينات بعضها ببعض كما يُصنع وشاح من قطع متباينة الأصول. وتستخدم كل خلية القطعَ المتاحة على نحو مختلف، لتصنع مستقبلا متفردًا في بنيته، مما يسمح للخلايا جميعا بأن تتعرف الكائنات الحية الخامجة التي يواجهها الجسم طوال الحياة. لقد مكن فهم الجينات والجزيئات والخلايا التي يتكون منها الجهاز المناعي، الباحثين من تعيين سَبَبِيّات الأمراض، بما في ذلك فقد غاما گلوبلين الدم، ومن ثم الشروع في العمل على إيجاد معالجات لها.

ويستطيع نظام مناعتنا الغريزية أن يدمر كثرة من المُمْرِضات بمجرد التقائها. وتتمثل إحدى المكونات المهمة في الاستجابة الغريزية بصف (نوع) من بروتينات الدم يعرف بالمتممة complement، اسم اشتق من قدرتها على تعزيز فاعلية الأضداد (أو إتمامها) في مكافحة الخمج. وبوسع المتممة (التي اكتشفت من قبل متخصص البكتيريا البلجيكي <J.بورديه> عام 1900) أن تعمل بطرائق متعددة. فإذا ما تم تنشيط أحد أنماط بروتينات المتممة تنشيطا كيميائيا، فإنه يترابط بأي بروتين على سطح البكتيريا أو سطح خلايا الجسم. إن بروتين المتممة المرتبط يستثير فاعلية باقي جزيئات المتممة. وتجتذب هذه الجزيئات المترابطة الخلايا الملتهمة (البلاعم) phagocytes، وهي خلايا أميبانية (شبيهة بالأميبة) تبتلع وتهضم الميكروبات التي تغلفها المتممة، كما أن بوسع المتممة أن تقتل الخلايا والبكتيريا بإحداث ثقوب في غشائها الشحمي. إن هذه الثقوب تسمح باندفاع الماء إلى داخل الخلية، وهي سيرورة (حدث) تقود إلى تدميرها. بيد أن المتممة تقي من أمراض معينة، كالتهاب السحايا البكتيري والسيلان.

ومع ذلك، فإن هذا النظام الهجومي القوي لا يدمر خلايا الجسم. فخلافا للميكروبات، فإن خلايانا مجهزة ببروتينات تبطل (تخمد) فعل المتممة. بناء على ذلك، فإن المناعة الغريزية تميز ـ على هذا المستوى الأكثر بساطة ـ بين الجزيئات التي تكون الجسم، أو ما يسمى بالذات self، عن كل ما عداها من جزيئات، أو ما يعرف بالغَيْر (السِّوى / اللاذات) nonself.

وليست المُمرضات كافة مؤهبة بهذه السهولة لفعل نظام المتممة. فقد ابتكر بعضها طرائق تجنبه هجمة المتممة. فالبكتيريا التي تسبب ذات الرئة pneumonia والتهاب الحلق بالمكورات العقدية لها محافظ capsules، وهي أغلفة تتكون من سلاسل طويلة من جزيئات سكرية (عديدات السكريد polysaccharides). إن هذه المحافظ تمنع المتممة من التأثير المباشر في البكتيريا.

يمكن استثارة فاعلية المتممة بثلاث طرق. فباستطاعة المتممة أن تؤثر مباشرة في البكتيريا (في اليسار)، أو أن تنشَّط عن طريق البروتين رابط المنّوز (في الوسط). كما يمكن للأضداد التي تُصنع نتيجة الخمج أن تنشط المتممة (في اليمين). وبعد هذا التنشيط، إما أن تقتل المتممة البكتيريا، أو أنها تعبئ خلايا الجهاز المناعي الأخرى، كالخلايا الملتهمة (البلاعم) مثلا.

ولنظام المناعة الغريزية طريقتان لمكافحة هذه الأنماط من البكتيريا. وتنجز الأولى بوساطة خلايا ملتهمة كبيرة موجودة في جميع نسج الجسم، وتسمى البلعميات macrophages. إن لهذه البلعميات مستقبلات لأنماط معينة من عديدات السكريد، وهي تستخدم هذه المستقبلات لتترابط بالبكتيريا وتأكلها. أما الطريقة الأخرى، فتتمثل بقدرة البلعميات التي التقت البكتيريا على إفراز الإنترلوكين 6 interleukin، وهو بروتين ينبه بدوره الكبد على إفراز بروتين جديد يترابط بثمالات سكر يسمى المَنُّوز mannose. إن هذه الثمالات تبرز من محفظة البكتيرة. وبعد أن يترابط هذا البروتين رابط المنّوز بالبكتيريا، فإنه يغير شكله بحيث يُنشِّط شلال cascade المتممة ويفعِّل الخلايا الملتهمة. وعلى هذا النحو، فإن البروتين رابط المنوز ينم للجسم عن الجسيمات particles التي عليه أن يترابط بها.

بيد أن المناعة الغريزية لا تصون الجسم من الأخماج كافة. فالميكروبات تتطور بسرعة، مما يتيح لها ابتكار وسائل تتملص بوساطتها من الدفاعات المناعية المتأصلة في الإنسان وفي الأنواع الأخرى الأبطأ تطورا. وللتعويض عن ذلك، فإن الفقاريات تمتلك في التعرف المناعي استراتيجية متفردة، ونعني بذلك المناعة التلاؤمية. إن هذا النظام من المناعة يُمكِّن الجسم من تعرف أي ميكروب والاستجابة له، حتى ولو لم يسبق للجسم أن واجه هذا الغازي.

وتعمل المناعة التلاؤمية عن طريق سيرورة الانتقاء النسيلي clonal selection، وهي فكرة صاغها السير<M.F .بورنت> من معهد وولتر وإليزا هول للبحوث الطبية في أستراليا، وأصبحت واسعة القبول حاليا. وفي الانتقاء النسيلي تصنع خلايا من نظام المناعة التلاؤمية (تعرف باللمفاويات البائية B lymphocytes، أو الخلايا البائية B cells، أو البائيات على سبيل الاختصار) أضدادا تعرضها على سطح الخلية، فيعمل الضد عندئذ كمستقبل. وتصنع كل خلية بائية مستقبلا مختلفا، يتعرف كلُ نمط منه جزيئًا غريبا مختلفا. وإذ هي مسلحة بهذه المستقبلات، فإن الخلايا البائية تعمل كخفر يراقب باستمرار متعقبا الميكروبات. فإذا ما اكتشفت خلية بائية ما دخيلا، فإنها تنقسم بسرعة. ولأن الخلايا البنات كلها تكون قد تحدرت من خلية أم واحدة، فإن هذه الخلايا البنات تعرف بالنسيلة (ومنها «الانتقاء النسيلي»). إن الخلايا كافة للنسيلة الواحدة تمتلك المستقبل نفسه. وتتمايز عندئذ هذه الخلايا البائية المنسلة إلى خلايا تفرز أضدادا تترابط، تماما كمستقبل الخلية البائية بالميكروبات. وما إن تحدد الأضدادُ سمة للميكروباتِ كمواد غريبة عن الجسم، حتى تتم إزالتها بوساطة الخلايا الملتهمة وجملة المتممة.

ويتمثل السؤال الحرج في فهم المناعة التلاؤمية بالكيفية التي تولد الخلايا البائية بوساطتها هذا العدد الكبير من المستقبلات المختلفة. وبنوعية أكبر، كيف يمكن أن تُكوَّد (تُرمَّز) encoded ملايين المستقبلات المختلفة الضرورية لتَعَرُّف الميكروبات كافة بجينوم (مجين) genome محدود الحجم؟ فلدى الشخص الواحد نحو 100000 جين فقط، إلا أن الترليونات العشرة (أي1013) من الخلايا البائية، تستطيع أن تصنع أكثر من 100 مليون من بروتينات الأضداد المتميزة في أي وقت من الأوقات. وبدهي أنه ليس بوسعنا أن نرث الجينات اللازمة لمناوعة هذه البروتينات كلها.

واكُتِشفت الإجابة في السنوات الأخيرة، عندما تعرف الباحثون الجينات التي تكود (ترمز) لأضداد الخلايا البائية ومستقبلاتها. لقد اكتشف عام 1976 <S.تونيگاوا> (الذي كان يعمل حينذاك في معهد بازل لعلم المناعة) أحد مفاتيح هذه الإجابة. فقد برهن على أن جينات الأضداد تُوَرَّثُ كشدف جينية gene fragments. ويتم وصل هذه الشدف بعضها ببعض لتشكل جينا كاملا فقط في فرادى اللمفاويات أثناء تناميها.

يتكون جزء الضد من زوج (شفع) من السلاسل الثقيلة وزوج من السلاسل الخفيفة، وتُكود (ترمز) هذه السلاسل جينات تتألف من قطع مختلفة من الدنا (DNA). ويعاد ترتيب هذه القطع لتكون جينات للسلاسل، تختلف من بائية لأخرى. وتتغاير سيرورة (حدث) الوصل، بحيث يولد عددٌ قليل فقط من قطع الجين الأضداد المتباينة التي يستطيع الجسم أن ينتجها، والتي تقدر بنحو 100 مليون نوع من الأضداد.

وتولِّد سيرورة الوصل نفسها مزيدا من التنوع. ففي عام 1980، بين<F.آلت> و<D.بلتيمور> (من معهد ماساتشوستس للتقانة) أن الإنزيمات التي تضم قطع الجين، تضيف أسسا عشوائية للدنا DNA في نهايات القطع التي يتم وصل بعضها ببعض. ونتيجة لذلك، تتشكل جينات جديدة، تكود كلُ واحدة منها سلسلة بروتينية. وينشأ تنوعٌ أوسع نتيجة تجميع السلاسل البروتينية لِتكوِّن مستقبلا كاملا. ويتكون جزيء الضد من زوجين (شفعين) اثنين من السلاسل البروتينية: سلسلتان ثقيلتان heavy chains وسلسلتان خفيفتان light chains. وتتصل السلسلتان الثقيلتان إحداهما بالأخرى لتشكلا الحرف Y، وتتوضع السلسلتان الخفيفتان على الفرعين العلويين من الحرف Y، على جانبي السلسلتين الثقيلتين. وتنتج كل خلية بائية نوعا واحدا فقط من السلاسل الخفيفة، ونوعا واحدا فقط من السلاسل الثقيلة بحيث تصنع كل خلية بائية ضدا مستقبلا متفردا. وفي الحقيقة، فإن 1000 سلسلة مختلفة من كل نمط من النمطين، يمكنها أن تشكل، نظريا، مليونا من التركيبات (التضاميات). وبوسع سيرورات الوصل العشوائية أن تُكوِّن عددًا من الأضداد النوعية يفوق عدد الخلايا البائية في الجسم.

إيصال الپپتيدات إلى سطح الخلية
يستخدم الضد الموجود على سطح الخلية البائية كمستقبل لهذه الخلية. فإذا ما اكتشف الضد مستضدا غريبا في الدم، فإنه يترابط به (1)، ويوصله إلى حويصلة داخل الخلية، فيكسر المستضد إلى پپتيدات (2)، ويهاجر أحد جزيئات المعقد MHC من الصف الثاني ـ الذي أُنتج داخل الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية ـ إلى الحويصلة، حيث يمسك بأحد الپپتيدات (3)، ويقوم عندئذ جزيء المعقد MHC بنقل الپپتيد إلى سطح الخلية (4). تترابط خلية تائية CD4 مساعدة بالمستضد، وتصنع جزيئات تنبئ الخلية البائية بأن عليها أن تتكاثر وتنتج أضدادا (5).
تقيم البكتيريا التي تخمج إحدى البلعميات في حويصلة خلوية (1). يُنقل إلى الحويصلة جزيء المعقد MHC من الصف الثاني الذي ينتج في الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية (2). وتبقي سلسلة بروتينية (الخط الأسود) الجزيء مبطلا (مخمدا) إلى أن يصل الحويصلة. وتنفصم في الحويصلة السلسلة البروتينية المبطلة مما يمكن جزيء المعقد MHC من الصف الثاني من الترابط بأي پپتيد متاح هناك (3). ويتحرك بعد ذلك المعقد إلى سطح الخلية، حيث تترابط بالپپتيد الخلية التائية الالتهابيةCD4 (4)4 . وتنشط عندئذ الخليةُ التائية البلعميةَ، مؤشرة إليها تدمير المادة الموجودة في حويصلتها (5).
إن البروتينات الڤيروسية التي تنتجها خلية مخموجة (1) تُكسر إلى پپتيدات (2). تُنقل الپپتيدات إلى الشبكة البلازمية الداخلية حيث يتشكل حولها المعقد MHC من الصف الأول (3). ويتجه كل معقد إلى سطح الخلية حيث يمكن أن تكشفه خلية تائية قاتلة، تعبر عن بروتين CD8 (4)4. وتفرز عندئذ الخلية التائية مركبات تدمر الخلية المخموجة (5).

وإذ بدا أن هذه السيرورات لم تولد تنوعا كافيا، فإن جينات مستقبلات الخلايا البائية درجت على أن تطفر mutate بسرعة فائقة وذلك عندما تُنشط الخلايا البائية بسبب ترابطها بمادة غريبة أو بمستضد. وينشئ هذا الطفور المفرط hypermutation مستقبلات إضافية. وفي الحقيقة، إن الجهاز المناعي يُدخل باستمرار على بنية المستقبلات ذات الفعل الناجع تغايرات ذاتية طفيفة، سعيا لتحقيق استجابة مناعية أفضل فأفضل.

وما إن تترابط خلية بائية ما بمستضد معين بوساطة مستقبلها، حتى تتمايز وتطلق جزيئات الأضداد ـ شكل ذؤوب من المستقبل ـ في الپلازما plasma، أي المكون السائل للدم. ولأن الجينات التي أنشأت المستقبل على الخلية البائية الأصلية هي نفسها التي تعيِّن نوعية هذا الضد الجديد، فإن لهذا الجزيء النوعية نفسها التي تُحدّد المستقبِل. على أنه يمكن للخلية البائية ونتاجاتها (أنسالها) أن تُحْدِث تغايرات مختلفة في جزيء الضد، ويمكنها أن تنجز ذلك بتغيير تدخله على ما يسمى بالقسم الثابت من السلسلة الثقيلة وذلك بإعادة تراتب الجينات أيضا. وينشئ هذا النمط الثاني من التلاعب بالجينات gene manipulation (أو منابلتها) أضدادا تذهب إلى أماكن الجسم المختلفة. إن هذه الأضداد لاتزال تحتفظ بقدرتها على تعرف المستضدات نفسها. وبوسع هذه الأنماط من الأضداد، بعد أن تترابط بأحد الميكروبات، أن تستهل شلال المتممة، أو تُنشِّط البلاعم، أو تسبب تفاعلات أرجية.

وتعد المناعة التلاؤمية أيضا مصدر الذاكرة المناعية. بمعنى أننا نقاوم الأخماج، التي سبق وعانيْناها، بكفاءة وقوة أشد كثيرا من مقاومتنا الأخماج التي نواجهها للمرة الأولى. وترجع هذه الذاكرة إلى أن الجسم يستبقي لمفاويات كانت قد استجابت للخمج البدئي. وبوسع هذه الخلايا أن تنشط من جديد بسرعة عندما يدخل الميكروب نفسه. ويَحُول نتاجُها من الأضداد دون رجعة المرض. (وبالمقابل، فإن نظام المناعة الغريزية لا يميز بين ميكروب وآخر، وبالتالي لا يمنح الجسم ـ إثر خمج ما ـ أي حماية مهما كانت درجتها.)

إن فوائد المناعة التلاؤمية تعاني جزئيا من إشكالين. الأول أنها تحتاج إلى أكثر من خمسة أيام لتطور استجابة استضادية antibody response، ذلك أن على الخلايا البائية أن تتكاثر وتتمايز قبل أن تقوم بصنع الأضداد. وعلى الجسم أن يعتمد على نظام المناعة الغريزية خلال هذه الفترة كي يبقى الخمج تحت سيطرته. أما الإشكال الآخر فيتمثل في الحقيقة التالية: لِكَوْن نظام المناعة التلاؤمية يتعرف الجزيئات الكِبْرِيّة (كالبروتينات وعديدات السكريد) بوساطة الأضداد التي يصنعها خصيصا لذلك، فإنه قد يحدث أحيانا أن تُصنع أضدادٌ ذاتية موجهة ضد خلايا الجسم نفسه نتيجة التشابه الجزئي بين بعض مكونات الجسم والمستضدات الغريبة. وتنشِّط هذه الأضدادُ الذاتية المتممةَ بكفاءة يؤدي مستواها الرفيع إلى تقهقر النظام الذي يمنع المتممة من مهاجمة خلايا الجسم. إن النتيجة المترتبة على ذلك هي نشوء أمراض المناعة الذاتية autoimmune diseases. ويتم تجنب الهجمة على الذات عبر التحمل tolerance، تلك السيرورة التي تسبب إزالة الخلايا ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات) [انظر: «كيف يتعرف الجهاز المناعي الجسم الذي يعيله؟» في هذا العدد].

وبغض النظر عن هذين الإشكالين فإن استراتيجية إعادة تراتب الجينات في نظام المناعة التلاؤمية قد أنشأت آلية مبدعة للحماية. فكيف أمكن لهذه السيرورة (الحدث) ذات التعقيد المتقن أن تنبثق في الفقاريات؟ وكيف أصبحت حجر الزاوية في المناعة التلاؤمية؟ كما هي الحال في جميع قضايا التطور، فإن الإجابة عن هذا التساؤل تتم عن طريق وضع نماذج احتمالية فقط يغلفها الارتياب. ومع ذلك، فإن معرفتنا للمستقبلات توحي قطعا بسيناريو قوي الاحتمال.

ويكمن أحد المفاتيح المهمة للّغز في حقيقة أن المستقبلات المناعية قد بُنيت كلها من لبنات متشابهة من البروتين. وتكون كل لبنة من هذه اللبنات مكودة (مُرمَّزة) بتسلسل من الدنا (DNA) يعرف بالإكسون exon، أو التسلسل المكوِّد coding sequence. ويفصل الإكسونات عن بعضها تسلسلات غير مكودة من الدنا تعرف بالإنترونات introns، تُنتسخ transcribed إلى الرنا RNA، ثم تزال بسيرورة إنزيمية تعرف بتضفير الرنا RNA splicing تنجزه الريبوزيمات ribozymes. ونتيجة لذلك، تصبح اللبنات المكودة مشكلة لرسالة متصلة.

ولكل مكونة بروتينية في جزيء الضد بنية تسمى ثنية (طية) الگلوبُلين المناعي immunoglobulin fold. لقد استخدمت هذه البنية العامة ـ إضافة إلى الأضداد ـ في كثير من البروتينات، فهي تشكل مجالا (نطاقا) domain مكتنزا من البروتين يشتمل على شرائط من الحموض الأمينية، يتوضع الواحد منها بجانب الآخر. وتشكل هذه المجالات السلسلتين الثقيلتين والسلسلتين الخفيفتين لجزيء الضد، والتي يرتبط بعضها ببعض بوساطة زوج (شفع) من ذرات الكبريت، أو ما يعرف بالرابطة ثنائية السلفيد disulfide bond.

وهناك نمطان من مجالات الگلوبلينات المناعية، يرمز لهما بالحرف V للمتغير variable و C للثابت constant. ويتزاوج (يتشافع) المجالان V للسلسلتين الخفيفة والثقيلة في جزيء الضد ليشكلا الموضع (المقر) الذي يتعرف المستضد. ويلي ذلك أزواج من المجالات C التي تتوسط وظائف معينة للجزيء، كالترابط بالمتممة مثلا. ويتألف المجال V من جينات جزئية، هي قطعة الجين V، والقطعة J (اختصارا للوصل joining في الجين نفسه وللمفصلة في جزيء الضد)، وأحيانا قطعة الجين D (اختصارا للتنوع diversity). وينشأ التغاير المتفرد في المجالات V من إعادة تراتب الجينات، التي تولد تنوع المستقبلات في الإنسان.

ومع ذلك، فلبعض البروتينات مجالات تماثل المجالات V للأضداد، غير أنها لا تنتج بإعادة تراتب الجينات. ففي هذه البروتينات يناوع إكسون واحد المجال V بأكمله. وكمثال عن هذه البروتينات الجزيء CD4، الذي يلعب دورا في التعرف المناعي، ويمثل أيضا هدف ڤيروس الإيدز. وفي الحقيقة، لقد عثر أيضا على أمثال الجينات V التامة في جينات أضداد بعض الفقاريات البدائية.

وربما اشتقت، تطوريا، جينات الأضداد معادة التراتب من النوع V الخاصة بنا من هذه الجينات V التامة. وقد تكون إعادة تراتب الجينات قد نشأت عندما غرزت كِسْرة متحركة من الدنا ـ تسمى الترنسپوزون transposon ـ نفسها في إكسون V التام. وبدهي أن يسبب هذا الانغراز شطر الإكسون V إلى قسمين تصل بينهما الكسرة. إن جينات الشطر هذه بطّالة، فهي لا تصنع أضدادا إلا عندما يزال الترنسپوزون المتداخل ويعاد وصل قطع الجين لتشكل من جديد الإكسون التام. إن آلية الإزالة هذه موجودة حقا في أجسامنا، وذلك عندما تبدأ اللمفاويات البائية بتوليد مستقبلاتها. وهكذا، فإن إعادة تراتب الجين V تنجز مهمة جوهرية تتجاوز توليد تنوع الأضداد. إنها حاسمة أيضا في تشكيل الجينات المكودة لبروتينات الضد. فمن دون إعادة التراتب لا يمكن إنتاج أي بروتين من قِبل هذه الجينات.

لقد برهنت سيرورة إعادة تراتب الجينات، على أنها وسيلة جبارة للتعبير expressing عن جين واحد بعينه فقط من بين جينات كثيرة ذات قربى، يستخدمها مُمْرِض واحد على الأقل كي يتجنب كشفه من قبل الجهاز المناعي. فالمثقبية typanosome ـ طفيلي من الحيوانات الأوالي يسبب مرض النوم ـ تمتلك بروتينا واحدا في غلافها (غلالتها)، ينتج العائل (الثوي) المخموج أضدادا ضده. وبوسع هذه الأضداد أن تزيل معظم المثقبيات، بيد أن قلة من هذا الطفيلي تغير غلافها عن طريق إعادة تراتب جينات بروتين الغلاف. وتتملص هذه المتفاوتات variants من المثقبيات من أن تكشف من قبل الأضداد النوعية الأولى القاتلة، فتستمر في نموها. وينتج العائل أضدادا لكل متفاوتة من هذه المتفاوتات، بيد أن أشكالا جديدة تستمر في الظهور والنمو، مسببة طرازا نكسيا من الخمج. وكما هي الحال في المستقبلات المناعية، فإن إعادة التراتب تنظم هنا أيضا التعبير الجيني.

لقد ناقشنا حتى الآن كيف أن نظام المناعة الغريزية (الفطرية) الذي يعتمد على جزيئات تعرّف موروثة؟ وكيف أن نظام المناعة التلاؤمية (التكيفية) الذي يعوِّل على إعادة تراتب الجينات لتوليد مستقبلات جديدة في اللمفاويات، يعملان معا لتعرّف الميكروبات؟ إن هذه المقاربة (النهج) الثنائية تكون ناجعة ضد المُمْرِضات الموجودة في سوائل الجسم. بيد أن كثرة من الميكروبات تتسلل إلى داخل خلايا الجسم قبل أن يتم إنتاج الأضداد. فلكونها بروتينات ذؤوبة في الماء، فإن الأضداد تستطيع أن تتوغل في السائل خارج الخلايا وفي الدم، بيد أنها لا تستطيع أن تمر عبر الأغشية الشحمية للخلايا.

ونتيجة لذلك، فقد طور الجهاز المناعي آلية خاصة لكشف الخمج داخل الخلايا. وتشتمل هذه الآلية على خطوتين: الأولى، التأشير إلى الجسم بطريقة ملائمة إلى أن خلايا معينة قد أُخمجت. أما في الخطوة التالية فيتم تحريك خلايا صُممت خصيصا كي تتعرف هذه الخلايا المخموجة، ولتزيل الخمج.

وتنجز الخطوة الأولى، التي يتم فيها التأشير إلى انخماج خلية، عن طريق جزيئات خاصة تنقل قطعا من الميكروب إلى سطح الخلية المخموجة. إن هذه الجزيئات التي تركب في الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية endoplasmic reticulum للخلية، تترابط بالپپتيدات، وهي شُدف صغيرة من البروتين الذي تدرّك (تحلل) داخل الخلية. وبعد أن تترابط بالپپتيدات، فإن هذه الجزيئات الناقلة تهاجر إلى سطح الخلية.

إن هذه الجزيئات الناقلة هي بروتينات جينات معقد التوافق النسيجي الكبير major histocompatibility complex  MHC  ، وقد اكتشفت من قبل اختصاصي الوراثة البريطاني الراحل <P.گورَرْ> ومن قبل <D.G.سنلّ> (من مختبر جاكسون في ولاية مين) كمسبب لرفض الطُّعْم، ومن هنا أتى هذا الاسم الطويل المشتق من التعبير اليوناني histo (نسيجي)، و compatibility (المقدرة على التوافق). ويمكن تقسيم جزيئات المعقد MHC هذه إلى صفين (نوعين)، سُمِّيا دونما أي براعة في التصور: الصف الأول class I والصف الثاني class II. وتوجد جزيئات الصف الأول على سطوح أنماط خلايا الجسم كافة تقريبا، أما جزيئات الصف الثاني فتوجد فقط على سطوح الخلايا ذات العلاقة بالاستجابة المناعية، كالبلعميات والخلايا البائية.

يشكل معقد التوافق النسيجي الكبير، أو MHC على سبيل الاختصار، صفين (نوعين) من الجزيئات في الخلايا: الصف الأول (في اليسار)، والصف الثاني (في اليمين). وتمثل الصورتان الجانبيْن اللذين يراهما مستقبل الخلية التائية. يستطيع جزيء المعقد MHC من الصف الأول أن يترابط بالپپتيدات القصيرة فقط (الحمراء)، لأن مقر الترابط ذو نهاية مسدودة. وفي المقابل، فإن جزيء المعقد MHC من الصف الثاني يستطيع الترابط بپپتيدات ذات أطوال مختلفة، لأن موضع (مقر) الترابط مفتوح من كلا طرفيه.

وعلى الرغم من أن نمطي جزيئات المعقد MHC مختلفان بنيويا، فإن الدراسة التي نشرت من قبل <H.J.براون> و <C.D.وايلي> وزملائهما (من جامعة هارڤارد) في الشهر7 /1993، وكذلك نتائج سابقة نشرت من قبل <J.P.بيوركمان> (التي تعمل الآن في معهد كاليفورنيا للتقانة) وزملائها، أوضحت أن نمطي الجزيئات ينثنيان في شكلين شديدي التماثل [انظر الشكل في هذه الصفحة]. ولكل جزيء من المعقد MHC أخدود عميق، يمكن أن يترابط بداخله پپتيد قصير أو شدفة من بروتين. ولأن هذا الپپتيد لا يشكل قسما من جزيء المعقد MHC نفسه، فإنه يستطيع أن يتباين من جزيء المعقد MHC إلى آخر. وتتوضع على سطوح الخلايا السليمة هذه الپپتيدات كلها إنما تشتق من بروتينات الذات. بيد أن وجود الپپتيدات الغريبة في أخدود جزيء المعقد MHC هو الذي ينبئ الجهاز المناعي بأن الخلية عارضة هذه الپپتيدات الغريبة قد صارت مخموجة.

ويتم تعرف مجموع المعقد MHC مع الپپتيد الغريب، المعروض على سطح الخلية المخموجة من قبل مستقبلات توجد على سطوحِ نمطٍ خلوي آخر مختلف كليا، ونعني بذلك الخلايا التائية. إن بنية المستقبل على الخلايا التائية هي أساسا نفس بنية جزيء الضد المترابط بالغشاء الخلوي والذي يعمل كمستقبل على سطوح الخلايا البائية. بيد أن مستقبلات الخلية التائية قد تخصصت في تعرف شدف الپپتيدات الغريبة المترابطة بجزيئات المعقد MHC فقط. فعندما يترابط مستقبل نوعي خاص بنسيلة تائية معينة بمجموع المعقد MHC مع الپپتيد الغريب والمتتام مع المستقبل، فإن الخلية التائية تستطيع أن تعمل عندئذ إما على شفاء الخلية المخموجة، أو على قتلها.

إن جزيئات صفي المعقد MHC المختلفين تقدم پپتيدات تنشأ في أماكن مختلفة داخل الخلايا. فجزيئات الصف الأول تترابط بپپتيدات تنشأ عن بروتينات في حيز العصارة الخلوية cytosol compartment للخلية. إن هذه البروتينات تُهضم داخل الخلية كجزء من السيرورة (الحدث) الطبيعية التي تجدد بوساطتها الخلية تجديدا مستمرا محتوياتها البروتينية. لقد أوضح <J.شبرد> (من مختبري في جامعة ييل) مؤخرا أن الشدف الپپتيدية القصيرة التي تنجم عن هذه السيرورة، تُضخ بوساطة ناقل خاص من حيز العصارة الخلوية إلى داخل الشبكة الپلازمية (الپَلَزْمية) الداخلية.

ويتم في هذه الشبكة تركيب جزيئات الصف الأول من المعقد MHC كسلاسل طويلة من الحموض الأمينية، التي عليها أن تتثنى لتنتج بروتين المعقد MHC من الصف الأول الناضج. ولا يمكن أن يحدث مثل هذا التثني إلا حول پپتيد مناسب، كما يحدث تقريبا للؤلؤة المحار التي لا تتنامى إلا حول ذرة الرمل [انظر الشكل في الصفحة 79]. فالپپتيدات المنقولة إلى الشبكة الپلازمية الداخلية تعمل إذًا فيها كبذور طبيعية يتثنى حولها جزيء المعقد MHC من الصف الأول.

إن تثني جزيء المعقد MHC من الصف الأول حول پپتيد ما، يؤشر للجزيء كي يحمل الپپتيد إلى سطح الخلية ويمسك به هناك. فإذا كان هذا الپپتيد غريبا، نجم على سبيل المثال عن ڤيروس يخمج الخلية، فإن خلية تائية عابرة ستتعرفه على الفور. إن الخلايا التائية التي تتصرف على هذا النحو هي تلك التي تحمل البروتين CD8 على سطوحها. إن هذه الخلايا التائية CD8 تبني عندئذ استجابة مناعية ضد الخلية المخموجة بتحريرها مواد كيميائية تدمر الخلية كليا. ولأن الخلايا التائية CD8 مبرمجة لتقتل الخلايا التي تعرض پپتيدات غريبة، فقد تعرف أحيانا بالتائيات القاتلة. وبدهي أن تشكل هذه الاستجابةُ الطريقةَ الوحيدة الناجعة لمنع تكوين مزيد من الڤيروسات من قبل الخلايا المخموجة.

وبطبيعة الحال، فليس كل الميكروبات تنمو في حيز العصارة الخلوية. فبعض البكتيريا مثل المُتَفَطِّرات Mycobacteria التي تسبب السل (التدرن)، تنمو في حويصلات vesicles داخل الخلية، ويفصلها غشاء خاص فصلا محكما عن سائر مكونات الخلية. وغالبا ما تكون الخلايا المخموجة بهذه الطريقة من البلعميات التي تبتلع البكتيريا، فتُعدّ بطبيعة الحال لهذه الأخماج مأوى مغلقا. وتُنتج البكتيريا ضمن الحويصلات بروتينات، تتفكك فيها إلى پپتيدات. إن هذه الپپتيدات تترابط بجزيئات المعقد MHC من الصف الثاني، التي تهاجر عندئذ إلى الحويصلات وذلك بدءا من مكانها الأصلي داخل الشبكة الپلازمية الداخلية.

يحتاج تنشيط اللمفاويات إلى التنبيه بجزيئين. وتمثل هذه الأشكال خلية تائية CD4 وبلعمية. ففي حال غياب المستضد، تكون الخلية التائية هاجعة (في اليسار)، على أن المستضد وحده لا يستطيع أن يحث الخلية التائية على تأدية وظيفتها (في الوسط)، وبذلك لا تحدث استجابة ضد مستضدات الجسم ذاته. وفي الواقع، فإن الإشارة الأولى تعطل الخلية التائية. أما إذا أُخمجت بلعمية، فإنها تنتج عندئذ جزيئًا يسمى B7، الذي يؤثر في البروتين CD28 السطحي للخلية التائية (في اليمين). ولا تتكاثر الخلية التائية إلا إذا توافر في آن واحد وعلى سطح الخلية المخموجة نفسها كلٌ من المستضد وجزيء B7.

وخلافا لجزيئات المعقد MHC من الصف الأول التي عليها أن تنضج حول أحد الپپتيدات، فإن جزيئات المعقد MHC من الصف الثاني تبقى مُرأسة (مجهزة) للعمل بمجرد أن تُركب. فقد بين <P .كرسويل> (الذي يعمل حاليا في جامعة ييل) أن سلسلة خاصة من الحموض الأمينية في الشبكة الپلازمية الداخلية تكبح قدرة جزيئات المعقد MHC من الصف الثاني على الترابط إلى أن تهاجر هذه الجزيئات إلى الحويصلات. وتنفصم عندئذ السلسلة الإضافية الكابحة عن جزيء المعقد MHC من الصف الثاني مما يسمح له بأن يترابط ترابطا قويا بأي پپتيد يصادفه.

ويعمد جزيء المعقد MHC من الصف الثاني عندئذ إلى إيصال الپپتيد إلى سطح الخلية. ويتم هناك تعرف الپپتيد من قبل خلية تائية تحمل على سطحها البروتين CD4. وخلافا للخلايا التائية CD8، فإن الخلايا التائية CD4 لا تقتل الخلية مباشرة. وعوضا عن ذلك، فإنها تنشّط الخلية التي تَعرِض الپپتيد. وعلى سبيل المثال، فإن أحد أنواع الخلايا التائية CD4، ويعرف بالخلايا التائية الالتهابية inflammatory (أو Th1)، يستطيع أن ينبه بلعميةً كي تقتل المتفطرات المحتجزة داخل حويصلاتها. إن فقدان هذا الصف من الخلايا التائية CD4، هو الذي يجعل مرضى الإيدز شديدي الاستعداد للإصابة بأمراض السل.

وهناك نوع آخر من الخلايا التائية CD4، هو الخلايا التائية المساعدة helper (أو Th2)، التي توجه فاعلية الخلايا البائية. فعندما يترابط بروتين ما بمستقبل الخلية البائية، فإنه يدخل عندئذ إلى حويصل خاص داخل الخلية حيث يُشطر إلى پپتيدات تترابط بجزيئات المعقد MHC من الصف الثاني. ويتم حينئذ إيصال هذه المعقدات إلى سطح الخلية حيث يصبح تعرفها من قبل الخلايا التائية المساعدة أمرا ممكنا. وتقوم عندئذ الخلايا التائية بإبلاغ الخلايا البائية بأن عليها أن تبدأ في صنع الأضداد، ولا تتم هذه السيرورة إلا في الخلايا البائية التي سبق وترابطت بالمستضد. وهكذا، فإن جزيئات المعقد MHC والخلايا التائية تضبط في نهاية المطاف حتى في إنتاج الأضداد.

إن الجينات البشرية التي تكوِّد (ترمز) جزيئات المعقد MHC هي أكثر الجينات تغايرا في جينوم الإنسان. وقد تكون هذه الملامح غير العادية لجملة system المعقد MHC هي التي مكنت االإنسان العاقل Homo sapiens من أن يتغلب على كثير من المُمْرِضات. وخلافا لجينات مستقبل المستضد، التي تتباين من خلية لأخرى في الشخص نفسه، فإن جينات المعقد MHC هي نفسها في خلايا الشخص الواحد كافة، بيد أنها تختلف من شخص لآخر. إن كل متغايرة من جزيء المعقد MHC تترابط بپپتيدات مختلفة، ذلك إن التغيرات الجينية تؤثر أساسا في بنية الأخدود الذي يمسك بالپپتيد.

إن هذه التغايرية في جزيئات المعقد MHC تعني أن بعض الأفراد على الأقل سيمتلكون جزيئات من المعقد MHC تترابط بپپتيداتِ أيِّ مُمرِض، حتى مع استمرار تطور بنية بروتينات هذه الميكروبات. وقد درس <V.A.هِلّ> (من جامعة أكسفورد) مؤخرا جمهرة (مجموعة) سكانية تعرضت طوال مئات عديدة من السنين للمتصورة المنجلية Plasmodium falciparum ـ الطفيلي الذي يسبب الملاريا (البرداء) malaria المميتة. لقد وجد هذا الباحث أن النسبة المئوية للأشخاص الذين تترابط جزيئات المعقد MHC لديهم ترابطا شديد القوة بپپتيدات من الطفيلي، قد ازدادت خلال ذلك الوقت. وتستطيع الخلايا التائية أيضا أن تتعرف هذه الاختلافات الجينية في جزيئات المعقد MHC، الأمر الذي يفسر لماذا تُرفض طعوم النسج؟ فالخلايا التائية في العائل (الثوي) ترى الپپتيدات المترابطة بجزيئات مختلفة من المعقد MHC على أنها غريبة، فتقتل بالتالي النسيجَ الطُّعْمَ.

وليس ارتباط المستضد بالمستقبل سوى بداية الاستجابة المناعية. فمن أجل أن تنتج الخلية البائية أضدادها أو لتحرر الخلية التائية جزيئاتها القاتلة أو المساعدة، فإن على نواة الخلية أن تُبلغ بحدوث ترابط على سطح الخلية. وتتألف مستقبلات اللمفاويات من بروتينات عديدة تتآثر فيما بينها كي توصل رسالة كيميائية حيوية إلى داخل الخلية. فعندما يترابط مستقبل بالمستضد، فإن هذا الترابط يدفع ببروتينات أخرى توجد في غشاء الخلية كي تفعّل (تنشط) إنزيمات توجد داخل الخلية وتعرف بالكينازات kinases. إن الكينازات المفعلة تضيف إلى البروتينات الأخرى الموجودة داخل الخلية زمر الفُسْفات. إن زمر الفسفات المضافة تغير من فاعلية هذه البروتينات، بحيث تؤشر للخلية في نهاية الأمر كي تنمو وتتمايز. فالبروتينانCD4 1 و CD8 على الخلايا التائية وكذلك البروتين المعروف بالرمز CD19 الموجود على الخلايا البائية، هي أمثلة عن بروتينات الغشاء المقترنة بالكينازات الموجودة داخل الخلايا. وهناك نوع آخر من الجزيئات التي تفعّل في هذا السياق ويعرف بالرمز CD45، وهو إنزيم يساعد وساطيا على تنشيط اللمفاوية بإزالة الفسفات من بروتينات معينة، مبطلا فاعليتها.

غير أن الكينازات إشارية الوساطة لا تستطيع بحد ذاتها أن تنشط اللمفاويات. ذلك أن على اللمفاويات أن تتلقى كي تنمو إشارة ثانية مصدرها خلايا أخرى في الجسم. وتسمى هذه الرسائل عادة الإشارات تميمة التنبيه costimulatory signals. ولا تحتاج الخلايا البائية إلى الخلايا التائية المساعدة، كي تتعرف المستضد فحسب، بل أيضا لتصنع بروتينا هو ربيطة CD40 التي تترابط بجزيء CD40 للخلية البائية. وتعتمد الخلايا التائية بصورة رئيسة على ما يعرف بالجزيئات B7 كإشارات تميمة التنبيه، إن هذه الجزيئات (B7) تعبر عنها الخلايا نفسها التي تقدم المستضد. وأثناء عمله في مختبري، برهن <Y.ليو> (الذي يعمل حاليا في المركز الطبي لجامعة نيويورك) على أن الخلية تعبر عن B7 عندما يدرك نظام المناعة الغريزية بأن الميكروبات دخلت الجسم، أي أثناء مراحل الخمج المبكرة عادة. وفي الواقع، فإن نظام المناعة الغريزية قد يُهيئ نظام المناعة التلاؤمية كي يبدأ فعله. وعلى هذا النحو، فإن الإشارات تميمة التنبيه قد تساعد الاستجابة المناعية التلاؤمية على تمييز الميكروبات الخامجة عن نسج الذات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اللمفاويات التي تترابط بالمستضد ولا تتلقى تميما تنبيهيا، لا تنشط أبدا. ونتيجة لذلك، فإن مستضدات الذات منفردة قد لا تتمكن من أن تستهل استجابة مناعية.

وما إن تترابط اللمفاوية بالمستضد وتتلقى تميم التنبيه حتى تتمايز وتصبح نشيطة. ويُطلق أحيانا على الأنماط المُحوَّلة والنشيطة من اللمفاويات اسم الخلايا المستفعلة effector cells، ذلك أنها تتواسط ـ في حقيقة الأمر ـ الاستجابة المناعية. وما إن تنشط الخلية حتى تفقد الحاجة إلى الإشارات تميمة التنبيه. وهكذا، فعلى الرغم من أن الخلايا التي عبرت عن تميمات التنبيه هي وحدها التي تستطيع أن تستثير استجابة مناعية، فإن بوسع هذه الخلايا أن تهاجم أي خلية أو أي جزيء. إن هذه الاستجابة مهمة لأنها تُمكِّن الخلايا البائية والتائية من مهاجمة أي خلية أضحت مخموجة، بغض النظر عن نمطها.

إذًا ما الخلل لدى المصابين بفقد غاما گلوبلين الدم، تلك الحالة التي لا تُصنع فيها أضداد؟ لقد تم اكتشاف الجواب عن هذا التساؤل منذ وقت قريب فقط [انظر: «كيف يتنامى الجهاز المناعي؟» في هذا العدد]. فقد اتضح أنه أثناء تنامي الخلايا البائية في الأصحاء، فإن تنظيم إعادة تراتب جينات المستقبلات يضبط بدقة فائقة. وبمعنى آخر، فإن صنع المستقبل الضدي يجب أن يتم على نحو مضبوط تماما. إن على الجين V لكل سلسلة پپتيدية أن يعيد تراتبه وفقا لتسلسل صحيح تماما، ولا يمكن أن يكتمل بناء المستقبل حتى تنجز سيرورات (أحداث) إعادة التراتب كلها بطريقة صحيحة.

وهكذا، فلكي تشكل الخلية مستقبلات صحيحة، فإن عليها أن تحدد، وهي آخذة بالتنامي، حالة جينات مستقبلها. فالجين V للسلسلة الثقيلة يعاد تراتبه بحيث تستطيع الخلية أن تصنع السلسلة الثقيلة لمستقبلها أولا، وتهاجر عندئذ هذه السلسلة إلى سطح الخلية. إن وجود السلسلة الثقيلة على سطح الخلية يؤشر للخلية البائية كي تتوقف عن إعادة تراتب جينات السلسلة الثقيلة، وأن تبدأ إعادة تراتب جينات السلسلة الخفيفة. وعلى ما يبدو، فإن أحد الكينازات يبعث بهذه الرسالة الحاسمة من سطح الخلية إلى داخلها.

أما في حال فقد غاما گلوبلين الدم فإنه يتم صنع السلاسل الثقيلة من دون السلاسل الخفيفة. وقد تبين مؤخرا أن هؤلاء المرضى يعانون وجود كيناز معيب. ومما تجدر الإشارة إليه، أن غياب كيناز قريب يحدث في الخلايا التائية وله التأثير نفسه في تنامي الخلية التائية. وعلى ما يبدو، فإن العيب الجيني الذي وصفه والدي على صفحات مجلة سيانتفيك أمريكان منذ 38 عاما قد أمكن أخيرا تعرفه، وعلينا أن نفهم الآن كيف يفعل هذا العيب (الخلل) فعله؟.

وفي غضون ذلك، فإن أنواع الأخماج التي تحدث لدى الأشخاص المصابين بفقد غاما گلوبلين الدم قد علمتنا لماذا يكون إنتاج الأضداد أساسيا للصحة؟ إن معالجة هؤلاء المرضى بإعطائهم مجموعة من غاما گلوبلينات مانحين عديدين، توفر لهم الأضداد اللازمة وتتيح لهم حياة سوية تقريبا. بيد أن هذه المعالجة ليست سوى معالجة مؤقتة لمرض جيني (وراثي) يمكن الآن ـ نظريا ـ أن يصحَّح بفرز الجين السويّ في خلايا نقي عظام المريض. وغني عن البيان أن البحوث الأساسية في علم المناعة والوراثة وبيولوجيا الخلية والسرطان والبيولوجيا الجزيئية تحتاج باستمرار إلى دعم قوي كي يتم قهر هذا المرض والأمراض الأخرى الأكثر انتشارا والتي سيُعْرض لها في هذا العدد الخاص من المجلة.


 المؤلف
Charles A. Janeway, Jr.
أستاذ علم المناعة وعلم الحياة في جامعة ييل وباحث في معهد هوارد هيوز الطبي بييل. حصل على بكالوريوس في الكيمياء من جامعة هارڤارد. وفي عام 1969 حصل على الدكتوراه في الطب. ومارس الطب تدرّبًا في مستشفى پيتر بنت بريگهام ببوسطن. وتدرب في مجال المناعيات في المعهد الوطني للبحوث في إنكلترا، وفي المعاهد الوطنية للصحة وفي جامعة أوپسالا في السويد. عين جينواي في جامعة ييل عام 1977. ألف بالاشتراك مع <P.ترافرز> (من كلية بيركبيك في جامعة لندن) كتابا تدريسيا في بيولوجيا المناعيات، نشر عام 1994.


مراجع للاستزادة 
SEPARATION OF SELF FROM NON-SELF IN THE COMPLEMENT SYSTEM. John P. Atkinson and Timothy Farries in Immunology Today, Vol. 8, Nos. 7-8, pages 212-215; July/August 1987.
STRUCTURE OF THE HUMAN CLASS I HISTOCOMPATIBILITY ANTIGEN, HIA-A2. Pamela J. Bjorkman et al. in Nature, Vol. 329, No. 6139, pages 506-512; October 8-14, 1987.
T CELL ANTIGEN RECEPTOR SIGNAL TRANSDUCTION: A TALE OF TAILS AND CYTOPLASMIC PROTEIN-TYROSINE KINASES. Arthur Weiss in Cell, Vol. 73, No. 2, pages 209-212; April 23, 1993.
PHYLOGENETTC DIVERSIFICATION OF IMMUNOGLOBULIN GENES AND THE ANTIBODY REPERTOIRE. Gary W. Litman et al. in Molecular Biology and Evolution, Vol.. 10, pages 60-72; January 1993.
 

(1) إن CD4 لها أهميتها عند الحديث عن الإصابة بالإيدز. والرمز CD هو اختصار للتعبير cluster of differentiation (تعنقد التمايز).  (التحرير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق