Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

الألغام الأرضية وويلاتها



الألغام الأرضية وويلاتها
تتسبب الألغام الأرضية في قتل أو تشويه أكثر من15000 شخص سنويا.
ومعظم الضحايا من المدنيين الأبرياء، وغالبيتهم من الأطفال.
وعلى الرغم من ذلك مازالت آلاف الألغام تُزرع كل يوم.
<G.استرادا>

وأخيرًا وضعت المذبحة البشعة في رواندا أوزارها. كانت ألفونسين وأسرتها في طريق عودتهم إلى منزلهم عندما داست ألفونسين على لغم مخفي. وفي مستشفى كيگالي الذي يديره فريق من الجراحين التابعين لمنظمة الطواريء، بذلتُ مع غيري من الأطباء كل ما في وسعنا لعلاج إصابتها. لقد سَحَق الانفجار ساقي ألفونسين وكسر ساعدها الأيسر. ولم يكن هناك بد من بتر ساقيها إلى ما فوق الركبتين. وأصيبت شقيقتها بشظية اخترقت المخ فلم تعد إلى وعيها، وماتت بعد ست ساعات من الجراحة التي أُجريت لها. أما والدهما، الذي كان على مسافة أمتار فقط من ابنتيه، فلم يصب إلا بجروح طفيفة في صدره.

تبين الصورة أدناه لغما صغيرا من الطراز SB-33 بالحجم الطبيعي. ويندمج اللغم بالحصى حتى يكاد لا يُرى. وعندما يدوس أي شخص على هذا اللغم الانفجاري، فإن الانفجار يطيح عادة بقدمه أو ساقه. والكثير من الألغام المضادة للأفراد تُنتَج حاليا بألوان وأشكال تساعد على تمويهها بعد زرعها.

لقد قمت خلال عملي كجراح في منظمة الطواريء بعلاج أطفال كثيرين من أمثال ألفونسين وشقيقتها ـ من ضحايا هذا النوع الجديد من الحرب. إن الغالبية العظمى من الصراعات المعاصرة هي صراعات داخلية وليست صراعات دولية؛ إنها حروب كفاح من أجل الاستقلال وحملات إرهابية "للتطهير" الإثني والعنصري ethnic and racial cleansing. وفي الوقت الحالي فإن الجيوش غير النظامية، المكونة من أفراد لا يرتدون زيا رسميا، تستخدم عادة أسلحة فتاكة في المناطق الآهلة بالسكان. ويعمد الكثير من الجماعات المسلحة إلى الانتشار بين السكان حتى لا يتم تعرّفُهم. والواقع أن هذه الجماعات تلجأ أحيانا إلى استخدام المدنيين كدروع، وكثيرا ما يقوم أحد الجيوش باستهداف الجماعات المدنية الكبيرة لترويعها كجزء من استراتيجيته العسكرية.

ونتيجة لذلك، تتزايد أعداد المدنيين من ضحايا الحروب. فخلال الحرب العالمية الأولى، كان المدنيون يمثلون 15 في المئة فقط ممن أصيبوا إصابات قاتلة. غير أن هذه النسبة ارتفعت بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية إلى 65 في المئة، بمن في ذلك ضحايا الهولوكوست (المحرقة) holocaust. أما الصراعات الدائرة حاليا، فإن أكثر من 90 في المئة من جميع المصابين فيها هم من المدنيين. وقد أكد هذه الأرقامَ العديدُ من المعاهد البحثية بما فيها معهد استوكهولهم الدولي لبحوث السلام والمعهد الدولي لبحوث السلام في أوسلو وغيرهما من المنظمات الإنسانية التي تقدم العون للضحايا.

ويرجع أسوأ جوانب هذا التغير الشديد إلى التوسع الهائل في استخدام الأسلحة اللاإنسانية، مثل الألغام المضادة للأفراد antipersonnel mines. وتشكل هذه الأسلحة تهديدا مستمرا يتسم بعدم التمييز والديمومة. فالألغام الأرضية لا تميز بين قدم مقاتل وقدم طفل يلهو، ولا تعترف باتفاقات وقف اطلاق النار ولا بما أُبرم من اتفاقات لتحقيق السلام. وبمجرد زرعها فإنها تبقى لعقود عديدة بعد انتهاء جميع أعمال القتال، كأدوات للتشويه أو القتل. ولهذا السبب وُصف اللغم المضاد للأفراد بأنه سلاح للتدمير الشامل في حالة حركة بطيئة.

التلوث بالألغام
استُخْدمت الألغام بأشكال مختلفة منذ بداية هذا القرن، غير أن الفلسفة العسكرية تطورت على مر السنين فصارت تستخدمها ببراعة فائقة. ولا يُنْظر إليها الآن على أنها مجرد سلاح لمنع العدو من الوصول إلى أراض معينة، أو لتحويل مسار القوات المعادية، أو لحماية منشآت مهمة. فهي غالبا ما تزرع في الوقت الحالي للحيلولة دون وصول جماعة من السكان في منطقة معينة إلى مصادر المياه أو الأخشاب أو الوقود أو الطرق أو حتى المقابر. والواقع أن بلدانا كثيرة استخدمت طائرات الهليكوبتر (المروحيات) والمدفعية وغيرهما من الوسائل البعيدة المدى لبث الألغام بطريقة عشوائية في القرى والأراضي الزراعية كأعمال متعمَّدة لإرهاب السكان المدنيين.

والتعريف التقني للغم المضاد للأفراد هو أنه جهاز مصمم لقتل أو تشويه الشخص الذي يطلق زناده. أما الألغام المضادة للدبابات فإنها تُصمم خصيصا لتدمير الدبابات والمركبات. فهي لا تنفجر إلا إذا تعرضت لضغط بوساطة جسم تزيد كتلته على بضع مئات من الكيلوغرامات. وبصفة عامة، تكون الألغام المضادة للأفراد ذات أقطار صغيرة نسبيا، تقل عادة عن 10 سنتيمترات ويصعب اكتشافها. وفي بعض الحالات، يساعد لون اللغم وشكله على تمويهه بحيث تتعذر رؤيته.

وينشط اللغم الأرضي عندما تقدح الضحية آلية التفجير. ويتم ذلك عادة بإحداث ضغط مباشر على اللغم نفسه أو شدّ سلك التفخيخ (العثار) trip wire. فالضغط المباشر يؤدي إلى إطلاق المفجّر detonator الذي يؤدي بدوره إلى إشعال الشحنة المعزِّزة booster charge، وهي كمية صغيرة من مادة سريعة الانفجار، فيؤدي انفجارها إلى تفجير الشحنة الرئيسية للغم الأرضي، لتتم بذلك سلسلة التفجير explosive chain.

أنماط الإصابات
غالبا ما تنجم الإصابات من النمط (A)، التي يعانيها الصبي الذي تظهر صورته أدناه، عن ألغام انفجارية صغيرة مثل اللغم VS-50، المبين في اليسار. وغالبا ما تؤدي هذه الأسلحة، التي يقل قطرها عن 10 سنتيمترات إلى بتر قدم أو ساق بحسب كيفية الدوس عليها. ونادرا ما تسبب إصابات فوق الركبة أو في القدم الأخرى.
إصابات من النمط (B) لحقت بالأطفال الذين يظهرون في اليمين في صورة التقطت لهم بمستشفى الصليب الأحمر في كابول بأفغانستان، وتنجم هذه الإصابات عن الدوس على لغم مضاد للأفراد، مثل اللغم المبين أعلاه وهو من الطراز PMN. وحجم هذه الألغام لا يزيد كثيرا على حجم الألغام الانفجارية الصغيرة، غير أنها تحتوي على كمية أكبر بكثير من المواد المتفجرة. ونتيجة لذلك، فإنها تؤدي غالبا إلى الإطاحة بالجزء السفلي من الساق وإصابة الفخذين والأعضاء التناسلية والإليتين.
لحدوث الإصابات من النمط (D)، يتعين أن يتعثّر الشخص بلغم شظوي، مثل اللغم المبين أعلاه، وهو من الطراز POMZ-2. وهذه الألغام تقتل عادة أي شخص يتعرض لها تعرضا مباشرا بإطلاق شظايا فلزية (معدنية) تنتشر على مساحة شاسعة.
تنجم الإصابات من النمط (C) عن لغم من الطراز PFM-1، الذي يُطْلَق عليه اسم اللغم الفراشة (في اليمين). ولا تنفجر هذه الألغام إلا بعد تكوُّن ضغط تراكمي على جناحي اللغم، اللذين يساعدان على هبوطه ببطء إلى الأرض عند إلقائه من هليكوبتر. ولأن هذه الألغام تكون عادة ممسوكة باليد عند انفجارها فإنها تؤدي إلى بتر الأصابع أو اليدين كما تصيب الوجه والصدر. والضحايا كلهم تقريبا من الأطفال الذين يظنون اللغم دمية، كالطفل الذي تظهر صورته أعلاه.

لقد شهدت السنوات الأخيرة تطورات مهمة في تقانة الألغام. فقد أدى إنتاج الألغام المصنوعة من البلاستيك والألغام التي تحتوي على الحد الأدنى من المواد الفلزية إلى جعل هذه الأسلحة أرخص سعرا وأكثر مَضاءً وأطول بقاء وأعسر اكتشافا وأصعب تفكيكا. إضافة إلى ذلك، أتاحت وسائل بث الألغام من بعد (مثل طائرات الهليكوبتر) إمكان نشر الآلاف من الألغام في مساحات شاسعة في غضون دقائق معدودة. كما أن بثّ الألغام بهذه الطريقة يجعل الاحتفاظ بسجل دقيق لأماكن وجودها أمرا مستحيلا ومن ثم يزيد من صعوبة استعادتها.

ولسوء الحظ، فإن تقانة الألغام الأرضية سهلة للغاية، وأسعارها زهيدة ـ تتراوح تكلفة اللغم ما بين 3 دولارات و15 دولارا. ونتيجة لذلك شهدت السنوات الأخيرة دخول أعداد متزايدة من البلدان ـ من بينها بلدان نامية كثيرة ـ مجال تصنيع الألغام الأرضية وبيعها من أجل الربح. فهناك نحو 50 بلدا تصنّع الألغام وتصدرها، ولا يقل عدد النماذج المتاحة منها حاليا عن 350 نموذجا، وهي ليست متاحة للجيوش النظامية فقط ولكن لجميع الفئات المتحاربة ولجميع الطوائف المسلحة على الصعيد العالمي.

إن عدد الألغام الموجودة في أنحاء العالم والتي لم تنفجر بعد، غير معروف. ووفقا لمصادر عديدة (منها الأمم المتحدة ووزارة الخارجية في الولايات المتحدة ومنظمات إنسانية عديدة)، هناك الآن ما لا يقل عن 100 مليون لغم منتشرة في 64 بلدا. ولأن صانعي الألغام ومستخدميها لا يحتفظون عادة بسجلات، فمن المحتمل أن يكون هذا العدد أقل من العدد الموجود فعلا. وعلى أي حال، فلا شك في أن جزءا كبيرا من العالم يعاني ما يمكن أن نطلق عليه التلوث بالألغام الأرضية landmine pollution.

ووفقا للوكالات التي تقدم المساعدة للضحايا، أو التي تقوم بعمليات إزالة الألغام، فإن هذه الأسلحة تسببت على مدى العقدين الماضيين في قتل أو تشويه نحو 15000 شخص سنويا. وكان 80 في المئة من هؤلاء الضحايا مدنيين. والواقع أن الرقم الحقيقي ربما يكون حتى أعلى من ذلك بكثير، بالنظر إلى أن حوادث كثيرة تقع في مناطق نائية ليس فيها حتى مرافق طبية، ومن ثم فإنها لا تسجل. وفي المناطق التي توجد فيها ألغام، يصبح الكثير من الأنشطة اليومية العادية ـ كجمع الخشب أو جني الثمار أو جلب المياه أو فلاحة الأرض أو اللعب أو رعي الماشية ـ أعمالا تنطوي على خطر شديد. وقد قمت شخصيا بعلاج 1950 شخصا من جرحى الألغام، كان 93 في المئة منهم مدنيين، و 29 في المئة أطفالا تقل أعمارهم عن 14 سنة.

إصابات الألغام
يمكن من الناحية العملية تقسيم الإصابات الناجمة عن الألغام المضادة للأفراد إلى مجموعتين كبيرتين: ألغام انفجارية blast mines وألغام شظوية fragmentation mines. وتستجيب الألغام الانفجارية عادة للضغط ـ كالضغط الناشئ مثلا عن هبوط قدم على لوح حساس. والإصابات التي تحدثها الألغام الانفجارية في الجسم هي نتيجة مباشرة للانفجار نفسه. أما الألغام الشظوية فإنها تنشط عادة بوساطة أسلاك التفخيخ (العثار) trip wires. وعندما تنفجر فإن عددا كبيرا من الشظايا الفلزية يتطاير من مركز الانفجار إلى مسافات بعيدة. وهذه الشظايا تكون موجودة إما داخل اللغم أو تنشأ عن تمزق غلافه الخارجي المُجزّأ fragmented outer case.

وتتوقف طبيعة ومدى الإصابة الناجمة عن أي لغم على نوع اللغم، والخصائص المتصلة بتفجيره، ووضعه بالنسبة لسطح الأرض، ووضع الضحية، والخصائص البيئية في موقع الانفجار. وتعاني الضحايا مجموعةً عريضة من الإصابات، غير أنه يمكن تحديدها في أربعة أنماط رئيسية. وإني أعتذر إذا كان الوصف الذي سأورده لهذه الإصابات مؤلما لكثير من القراء، إلا أن إدراك مدى فظاعة هذه الأسلحة يستلزم معرفة ماهية الإصابات التي تُحدثها وكيف يتم ذلك.

تُحدث الألغام الانفجارية الصغيرة، التي تقل أقطارها عن 10 سنتيمترات، نمطا شائعا جدا من الإصابات سنطلق عليه النمط (A). ومن بين أكثر الألغام التي تندرج تحت هذه المجموعة شيوعا الألغام الإيطالية من الطرازين TS-5 و SB-33 اللذين يُلْقيان على سطح الأرض، ومن الطرازين VS-50 وVAR-40 اللذين يزرعان في التربة، واللغم الأمريكي الصنع من الطراز M-14 واللغم الصيني من الطراز 72 اللذين يزرعان أيضا بالطريقة نفسها. وتؤدي هذه الأسلحة عادة إلى بتر القدم أو الساق. وفي بعض الحالات قد تقتصر الإصابة على الإطاحة بجزء من القدم؛ ويتوقف ذلك على كيفية بث اللغم وكيفية وقوع القدم عليه. وفي معظم الحالات فإن الإصابات الناجمة عن هذه الأنواع من الألغام تكون تحت الركبة ولا تحدث إصابات رئيسة فوق هذا المستوى من البدن ولا في الساق الأخرى.

أما الألغام الانفجارية الكبيرة المضادة للأفراد، مثل سلسلة الألغام الروسية من الطراز PMN، فإنها تسبب عادة نوعا آخر من الإصابات (النمط B). وينشأ هذا الاختلاف جزئيا عن اختلاف حجم اللغم. فاللغم الصغير من الطراز VS-50 قطره 9.0 سنتيمترات، أما اللغم من الطراز PMN فقطره 11.2 سنتيمتر. وتتجه موجة الانفجار الصدمية shock wave للّغمين كليهما نحو الخارج بسرعة تبلغ نحو 6800 متر في الثانية، أي إنها تصل إلى سبعة أضعاف سرعة الطلق الناري العالي السرعة high speed bullet. غير أن مخروط الانفجار ـ الحجم الحامل لقوة الانفجار ـ يكون أكبر كثيرا في حالة اللغم الكبير. كما أن الألغام الكبيرة تحتوي على كمية أكبر بكثير من المادة المتفجرة العالية الجودة high-quality explosive. فمثلا، يحتوي اللغم من الطراز V-50 على 42 غرام من مادة RDV-TNT، ويحتوي اللغم من الطراز PMN-2 على 150 غرام من مادة TNT، وتصل هذه الكمية في حالة اللغم PMN إلى 250 غرام.

والضحايا الذين يدوسون على الألغام الكبيرة المضادة للأفراد يعانون دوما إصابة باترة. ففي أحيان كثيرة يُطاح بالجزء السفلي من الساق. وقد يبرز جزء من عظم الظنبوب tibia (أكبر عظمي قصبة الساق) من الجدعة stump (ما بقي من الساق المبتور)، ويتمزق ما بقي من عضلاتها مندفعا إلى أعلى ليعطي الإصابة شكلا بشعا على هيئة ثمرة القنبيط. وأحيانا يطاح بالجزء السفلي من الساق كله بما فيه الركبة. وكثيرا ما يقترن ذلك بجروح كبيرة في الأرداف thighs أو الأعضاء التناسلية genitals أو الإليتين buttocks. وفي حالات كثيرة تصاب الساق الأخرى بجروح غائرة gaping wounds أو بكسور مفتوحة open fractures. ونتيجة لذلك، تُفقد أحيانا أجزاء من كلتا الساقين. ومن الشائع أيضا حدوث إصابات نافذة في البطن أو الصدر.

ويسبب اللغم الروسي PFM-1، الذي يُكنَّى باسم لغم الفراشة، نمطا ثالثا من الإصابات (النمط C). وقد اكتسب اللغم هذه الكنية لأن له جناحين يجعلانه يهبط ببطء بعد إطلاقه من الهليكوبتر. وقد ألقي عدد هائل من هذه الألغام خلال الصراع في أفغانستان. وكما يتردد كثيرا، فإن هذا الطراز من الألغام ينطوي على حيلة شيطانية لأنه لغم دمية ـ سلاح مُسْتَخْفٍ في صورة دمية ـ ويُصِرُّ المتخصصون على أن شكل اللغم PFM-1 أمر تمليه وظيفته، غير أنه يظل في الواقع شيئا جذابا للأطفال.

وإحدى السمات الفريدة لهذه الألغام هي أنها تنشط عندما يتعرض اللغم لتشويه distortion في الشكل أو لضغط تراكمي cumulative pressure على الجناحين؛ وبعبارة أخرى فإن اللغم لا ينفجر عند الإمساك به لأول مرة. وفي أفغانستان، أُخبرتُ وزملائي في العمل عدة مرات أن طفلا التقط الفراشة ـ أو الببغاء الأخضر، كما يسميه الأفغان ـ ولعب بها لساعات مع أصدقائه قبل أن يحدث الانفجار. ومن ثم، فإن اصطلاح "اللغم الدمية" له ما يبرره تماما. وعلى الرغم من الخبرة الطويلة لفريقنا الجراحي في علاج أكثر من 150 من ضحايا هذا النوع من الألغام، فإننا لم نُشاهد حالة واحدة كان المصاب فيها شخصا بالغا.

ومن الناحية التقنية، فإن اللغم PFM-1 هو مجرد نوع آخر من الألغام الصغيرة التي توضع على سطح الأرض، غير أنه يُحْدِث أضرارا من نوع خاص، ومن ثم فإنه يستحق أن نورد له وصفا منفصلا. فعادة ما يكون الضحية ممسكا باللغم عندما ينفجر، لذا فإن الإصابة الناجمة عنه تكون إصابة باترة لإحدى اليدين أو لكلتيهما عند الرسغ. وفي الحالات الأقل حدة، يؤدي اللغم إلى بتر إصبعين أو ثلاث. وفي أحيان كثيرة يُلحِق الانفجار إصابات أخرى بالصدر والوجه. ومن الشائع أن تصاب إحدى العينين أو كلتاهما، الأمر الذي يؤدي إلى الإصابة بالعمى الجزئي أو الكلي.

البلدان المظللة على الخريطة هي بلدان أبلغت عن وقوع إصابات ناجمة عن حوادث انفجار ألغام أرضية. ويبين المخطط عدد الألغام الأرضية المزروعة في المناطق التي تتوافر عنها تقديرات. أما المربعات المبينة إلى يسار المخطط فتبين كثافة الألغام الأرضية المزروعة مقدرة بمتوسط عدد الألغام في الميل المربع.

وينجم النمط الرابع من الإصابات (النمط D) عن الألغام الشظوية المضادة للأفراد، وتضم هذه المجموعة الألغام الشظوية "الوثابة" bounding، مثل اللغم الإيطالي فالمارا-69، وسلسلة الألغام M16 الأمريكية الصنع، وسلسلة الألغام OZM الروسية. وتزرع هذه الألغام كغيرها تحت سطح التربة، وعندما يقدح زنادها فإنها تقفز في الهواء قبل أن تنفجر لتقذف بشظاياها على أوسع نطاق ولتحدث أكبر أثر فتاك. كما أن هذه المجموعة من الأسلحة تضم الألغام الشظوية الموجهة directional، بما فيها اللغم الأمريكي الصنع M18A1 (أو الكلايمور) واللغمان الروسيان POMZو MON، وهي ألغام توجه مقذوفاتها نحو الهدف. وتعمل جميع هذه الألغام عادة بوساطة سلك التفخيخ (العثار).

والسمة المميزة للألغام الشظوية هي أنها تُطْلِق قطعا فلزية تغطي مساحة كبيرة. فاللغم ڤالمارا-69 مثلا، ينفجر على ارتفاع يتراوح ما بين 50 و 100 سنتيمتر ـ أي عند وسط جسم الإنسان تقريبا ـ ويقذف نحو 1000 شظية فلزية metallic shrapnel تنتشر على مدى 360 درجة. ويعتبر المتخصصون في الألغام أن لهذا اللغم "نطاق قتل" قطره 25 مترا و"نطاق إصابة" يصل قطره إلى 200 متر.

وتُحدِث ألغام التشظي إصابات في جميع أجزاء الجسم. ويتوقف حجم الجرح جزئيا على حجم الشظية الخارقة. وإذا كانت الضحية على بعد أمتار من موقع الانفجار، فإن عددا كبيرا من الشظايا سيخترق البطن والصدر والمخ، ولا سيما إذا كان اللغم من النوع الوثاب. أما إذا كانت المسافة أقصر من ذلك فإن الإصابات تكون مشابهة لإصابات النمط (B). ومع ذلك، فإن الأطباء نادرا ما يعالجون إصابات ناجمة عن الألغام الشظوية لأنها تؤدي عادة إلى قتل أي شخص يقوم بتنشيطها عن طريق الاتصال المباشر.

فمثلا، شاهدنا في العراق خلال حرب الخليج ستة أشخاص أصيبوا نتيجة انفجار لغم من طراز ڤالميرا-69، كان اثنان منهم يحاولان تفكيك اللغم للاستفادة مما به من ألومنيوم ـ قيمته دولار واحد تقريبا في السوق المحلي ـ وقد قُتِلا على الفور. وفي الوقت نفسه، أصيب الأربعة الآخرون إصابات شديدة لوجودهم بالقرب من موقع الانفجار. ولم يبق منهم جميعا على قيد الحياة إلا اثنان.

مشكلة علاج الضحايا
يتوقف التوزيع السائد للجروح التي قد تصيب الضحية على أنماط الإصابة التي وصفتُها آنفا. غير أنه لا يوجد تطابق تام بين مستويات شدة الإصابة وهذه الأنماط. فالإصابة الباترة للقدم والمقترنة بجرح صغير في الفخذ ـ نمط الإصابة (A) ـ قد تهدد حياة المصاب إذا كانت تشمل الشريان الفخذي femoral artery. والمريض المصاب بلغم أرضي تكون عادة حالته حرجة. وفي أغلب الأحوال، يحدث تلف مباشر في إحدى البِنَى الحيوية، أو تكون الجروح (بما فيها الإصابات الباترة) من الشدة بحيث تُعرِّض حياة المصاب للخطر من جراء صدمة النزف. وفي مثل هذه الحالات العاجلة، فإن تحديد نمط الإصابة وتعرّف الفئة التي ينتمي إليها اللغم الأرضي يُمكّنان فريق الجراحة والأشخاص المشاركين في إزالة الألغام، من الحصول على معلومات مفيدة.

وهناك أسباب عديدة تجعل جراحة إصابات الألغام عملية معقدة ومحفوفة بالمخاطر. فكثيرا ما يضطر فريق الجراحة للعمل في مناطق خطرة تدور فيها المعارك. والمرافق المتاحة تكون عادة بدائية. ويزداد الأمر صعوبة بسبب شحَّة الموارد، وعدم توافر الظروف الصحية المناسبة، بل وعدم وجود المياه والكهرباء في بعض الأحيان. علاوة على ذلك، يجب أن يكون الجراحون مدربين على علاج جميع أنواع الإصابات: إصابات الأوعية الدموية والصدر والرقبة والبطن وجراحات التجبير وغيرها. فشظايا العظام، مثلا، يمكن أن تصبح بمثابة "رصاصات ثانوية" secondary bullets. وقد تَعين عليّ في إحدى المرات أن أرمم الشريان الإبطي في كتف مصاب بعد أن قُطِع تماما بشظية عظمية انطلقت إثر إصابة باترة لقدمه.

ومن الناحية التقنية، يُعد التنظيف الجراحي للإصابة debridement (أو نزع الحطام من الجرح) عملية بالغة الأهمية. فانفجار لغم من النوع الانفجاري يدفع بالحصى والطين والعشب بل وبقطع من ملابس المصاب وحذائه في عمق النُّسُج (الأنسجة) نتيجة اندفاعها إلى أعلى؛ ذلك أن إزالة جميع الأجسام الغريبة، فضلا عن استئصال النسج الميتة أو المتهتكة من الجروح أمر أساسي لمنع العدوى (الأخماج) infections التي تعقب الجراحة والتي تهدد حياة المصاب.

الإرث المدمر
معظم المرضى الذين يشفون من حوادث الألغام الأرضية لا يستعيدون قدرتهم الفعلية على المشاركة بدور فعّال في الحياة الأسرية أو في المجتمع. وإعادة تأهيل هؤلاء المرضى هي في أفضل الظروف مسألة محفوفة غالبا بمشكلات ضخمة. فالكثير من الضحايا يعيشون في بلدان نامية، حيث الظروف المعيشية السيئة التي تزيد من صعوبة التغلب على العوائق البدنية والنفسية. فضلا عما تسببه الألغام من معاناة ومن خسائر بشرية جسيمة في الأرواح، فإنها تفرض عبئا اجتماعيا واقتصاديا ثقيلا على كاهل مجتمعاتٍ وأممٍ بأكملها. فأي قرار يتخذه جيش ما بزرع الألغام في أراض زراعية، ستكون له آثار مدمرة طويلة الأجل على المجتمعات الزراعية التي يعتمد بقاؤها على الأرض. كما أن وجود الألغام الأرضية يعوق عودة الكثير من لاجئي الحرب إلى ديارهم ومن ثم يتحول النازحون إلى لاجئين دائمين يشكلون عبئا إضافيا على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية للمناطق التي يفرون إليها.

في عام 1980 اعتمدت الأمم المتحدة ما يُعْرف عموما باسم اتفاقية الأسلحة اللاإنسانية Conrention on Inhumane Weapons. وكان مفروضا أن تكفل هذه الاتفاقية وبروتوكولاتها الحماية للمدنيين، غير أن الأحداث التي وقعت خلال الجزء الأخير من عقد الثمانينيات أثبتت بجلاء عدم كفاية تلك الترتيبات. وخلال السنوات الأخيرة، قامت أكثر من 400 منظمة إنسانية في نحو 30 بلدا بحملة لتوعية المجتمع الدولي بالآثار المدمرة للألغام المضادة للأفراد. وقد حثت هذه المنظمات الأمم المتحدة والحكومات على فرض حظر على إنتاج الألغام وتخزينها وبيعها وتصديرها واستخدامها. وأسفرت الحملة عن نتائج مهمة، إذ قرر العديد من البلدان وقف إنتاج الألغام الأرضية أو تصديرها، مؤقتا على الأقل.

وفي الشهر 5/1995 انعقد في ڤيينا مؤتمر الأمم المتحدة لاستعراض الاتفاقية. وركزت الدبلوماسية الدولية المناقشة على مختلف الجوانب التقنية والعسكرية لاستخدام الألغام الأرضية. وقد مُنِي مؤتمر ڤيينا بالفشل من الناحية الإنسانية. ففَرْضُ حظرٍ شامل على هذه الأسلحة العشوائية ـ وهو الحل الفعلي الوحيد ـ لم يكن حتى ضمن المسائل التي نظرها المؤتمر. علاوة على ذلك، يبدو من غير المحتمل أن يُقدَّم خلال دورة المؤتمر المنعقدة حاليا في جنيف اقتراح بفرض ذلك الحظر. ومن المؤكد أن معظم البلدان والمواطنين في العالم يدركون الآن حجم الويلات التي تسببها القنابل النووية. لكن المدهش أن هذه البلدان ذاتها لا تعترض على المذابح اليومية التي يتعرض لها المدنيون الأبرياء من جراء الألغام المضادة للأفراد.

وعلى الرغم من ذلك، سيواجه العالم خلال القرن القادم إرثا مروعا. فالكثير من الألغام التي زرعت قبل عشرات السنين لها فترة بقاء قد تصل إلى قرون. والواقع أنه حتى لو لم تزرع أي ألغام في المستقبل، فإن الألغام الموجودة أصلا ستتسبب في مآسٍ جسيمة وستشكل تحديا أمام منظمات الإغاثة في المستقبل. وما نطمح إليه هو أن يبادر المجتمع الدولي قريبا إلى إعطاء أولوية عليا لقضية الألغام الأرضية وإلى توفير الأموال اللازمة لمواصلة الأنشطة الإنسانية الضرورية. إن تقديم المساعدة الجراحية العاجلة للضحايا وإعادة تأهيلهم بعد ذلك ومباشرة عمليات إزالة الألغام وتعريف الناس بأخطارها، سيظل في الواقع الخيار الوحيد لتخفيف معاناة مئات الآلاف من الناس. إن النظر إلى جسد طفل مزَّقته هذه الأسلحة اللاإنسانية إربا، أمر مفجع ومروع، حتى بالنسبة لجرَّاح حروب متمرس. ولا صلة لهذه المذبحة بالاستراتيجية العسكرية. إنها خيار مقصود لإلحاق أبشع صور الإيلام والتشويه. إنها جريمة بحق الإنسان.


 المؤلف
Gino Strada
تخرج في كلية الطب بجامعة ميلانو. وفي عام 1988 التحق ببعثة الصليب الأحمر في باكستان، وهو يعمل جراح حروب منذ ذلك الحين. وقد عالج ضحايا الألغام الأرضية في أفغانستان وكمبوديا وپيرو والبوسنة وجيبوتي والصومال وأثيوبيا ورواندا وشمالي العراق. وفي عام 1994، أسس استرادا منظمة الطواريء وهي رابطة إنسانية لخدمة ضحايا الحرب من المدنيين. وللحصول على مزيد من المعلومات، يرجى الاتصال على العنوان التالي :
EMERGENCY, Bagutta 12, 20121 Milan, italy;
هاتف: 39-2-7600-1104، فاكس: 39-2-760-3719.


مراجع للاستزادة 
HIDDEN KILLERS: THE GLOBAL PROBLEM WITH UNCLEARED LANDMINES: A REPORT ON INTERNATIONAL DEMINING. Political-Military Affairs Bureau Office of International Security Operations. U.S. Department of State, 1993.
LANDMINES: A DEADLY LEGACY. The Arms Project of Human Rights Watch and Physicians for Human Rights. Human Rights Watch, 1993.
SOCIAL CONSEQUENCES OF WIDESPREAD USE OF LANDMINES. Jody Williams in ICRC Report of the Symposium on Anti-personnel Mines. ICRC, Geneva, 1993.
TEN MILLION TRAGEDIES, ONE STEP AT A TIME. Jim Wurst in Bulletin o f the Atomic Scientists, Vol. 49, No. 6, pages 14-21; July-August 1993.
Scientific American, May 1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق