Translate

الاثنين، 19 مارس 2012

أمراض المناعة الذاتية


أمراض المناعة الذاتية
ينجم التصلب المتعدد والداء السكري الشبابي وغيرهما
من العلل المزمنة عن هجمات مُضلَّلة على الذات،
وتلوح في الأفق الآن معالجات واعدة.
<L. شتاينمن>

إن< K. كنت> مصابة بالتصلب المتعدد، وهو مرض مقعد يُهاجِم فيه الجهازُ المناعي المادةَ البيضاء في الجهاز العصبي المركزي. ويُظهر تصوير دماغ «كنت» بالرنين المغنطيسي آفة مميزة (الصورة العليا)، وبعد المعالجة باستخدام ضد لجزيء CD4 ـ أحد الجزيئات على الخلايا التائية التي تنسق عملية الهجوم ـ فإن الالتهاب قد تراجع (الصورة السفلى).

يستطيع الجهاز المناعي، في الحالة السوية، أن يميز بين الصديق والعدو، متجاهلا مكونات ذات الجسم، ومهاجما الغزاة الغرباء. ولكن مما يؤسف له أن الأسلحة المناعية، شأنها شأن النيران الصديقة، تنقلب أحيانا ضد الذات، مسببة عللا وخيمة، بل والموت أيضا وتصيب أمراض المناعة الذاتية أي عضو في الجسم، هذا على الرغم من أن بعض هذه الأعضاء يتأثر عادة أكثر من بعضها الآخر، كالمادة البيضاء في الدماغ والنخاع الشوكي في التصلب المتعدد multiple sclerosis، وبطانة المفاصل في التهاب المفاصل الرثياني rheumatoid arthritis، والخلايا مفرزة الأنسولين في الداء السكري الشبابي juvenile diabetes mellitus. أما الأشكال الأخرى من أمراض المناعة الذاتية فتؤذي الوصائل بين الأعصاب والعضلات كما في مرض الوهن العضلي الوبيل myasthenia gravis، وتنبه الغدة الدرقية لإفراز كميات مفرطة من هرمون الدرق في داء گريفزdisease s " Graveوتنفط (تُقرِّح) الجلد في مرض الفقاع الشائع pemphigus vulgaris، وتدمر الكلى وأعضاء أخرى في مرض الذَّأَب الحُمامي العام (المجموعي) systemic lupus erythematosus.

ويعاني 5% من البالغين في أوروبا وأمريكا الشمالية (ثلثا هذا العدد من الإناث) من أمراض المناعة الذاتية، كما أن كثرة منهم تعاني مرضين أو أكثر في آن واحد. وقد يتضح أن الجمهرة (الجماعة) المتأذية أكبر بكثير إذا ما تأكد أن المناعة الذاتية (كما يرتاب بعض الباحثين) تقوم بدور ثانوي إنما مهم في التصلب العصيدي المسؤول عن نصف عدد الوفيات في العالم الغربي. فإذا ما صح في النهاية هذا الظن فإنه سيكون مدعاة للسرور، ذلك أن العلم يتقدم بخطوات واسعة نحو فهم آلية حدوث المناعة الذاتية.

لقد تمخضت التجارب السريرية (مؤخرا) عن نتائج واعدة لثلاثة أنواع من المعالجات التجربية للتصلب المتعدد. فالجرع الفموية من مادة النخاعين حرضت على تحمل tolerance بروتينات النخاعين نفسه. كما أن أضدادًا وحيدة النسيلة مهندسة وراثيا، وأيضا مادة تتشكل بصورة طبيعية هي الإنترفِرون بيتا، أعاقت سيرورة الالتهاب، مثبطة الانتكاس مما أدى إلى تباطؤ تقدم المرض. أضف إلى ذلك أن كميات ضئيلة من الأنسولين ـ أُعطيت للغاية نفسها ـ أرجأت دائما وربما منعت أحيانا، ظهور الداء السكري لدى أطفال كان خطر تعرضهم للإصابة بهذا الداء شديدا. إن هذه النتائج توحي بأن التقدم في معالجة مرض ما من أمراض المناعة الذاتية قد يتمخض عن معطيات يفاد منها في معالجة أمراض أخرى.

لقد كشفت القصة المرضية لإحدى مريضاتي، وهي< K. كنت>، مظاهر متعددة لعلل المناعة الذاتية. إن هذه المريضة تعاني التصلب المتعدد، وهو مرض يصيب 000 250 أمريكي، (ثلثاهم نسوة).

وتبلغ «كنت» من العمر 26 عاما وتعمل وكيلا سياحيا في كاليفورنيا. لقد لاحظت الأعراض أول مرة قبل خمس سنوات عندما أحست بنخز في ساقيها وبألم في ذراعيها. وقد شخص أطباؤها الحالة على أنها تصلب متعدد وذلك عندما أظهر مسح الرنين المغنطيسي تلف المادة البيضاء التي تحوي الألياف العصبية الطويلة والتي تحمل المعلومات من الدماغ وإليه. وبعدها بعام أصيبت مرة واحدة بحالة عارضة من الرؤية المزدوجة استمرت أسبوعا. وبدأت، إثر انقضاء عام على ذلك، تعاني اضطرابا في حفظ توازنها أثناء سيرها، وكانت أحيانا تعتمد على عصا، وبخاصة عندما تكون مجهدة. أما مشكلاتها الرئيسة الآن فهي ضعف التوازن ونخز في الساقين وضعف اليد اليمنى مما يجعل الكتابة صعبة.

بدأت «كنت» في عام 1991 المشاركة في اختبارات يستخدم فيها عقار يُقْصي عاملا حاسما في الاستجابة المناعية الذاتية. ففي الشهر الأول أعطيت بالتسريب داخل الوريد ثلاث جرع من ضد مُهندَس وراثيا للواسمة CD4، وهي جزيء تحمله خلايا تائية معينة. أما في المرحلة التالية، فقد أُخضعت لهذه المعالجة مرة واحدة كل أربعة أشهر. ونتيجة لذلك، فقد هبط عدد الخلايا التائية CD4 إلى مستوى أدنى بكثير من المستوى العادي. ومع هذا، فإن بقية أجزاء الجهاز المناعي استمرت في أداء وظائفها على نحو سويّ، ولم تُصب «كنت» بأي خمج من الأخماج. واستقرت أعراض المرض لديها، مع زيادة عابرة في قوة يدها اليمنى، وتحسن عرضي متقطع في مشيتها. وهي لا تستخدم العصا حاليا إلا في سيرها خارج المنزل. وأظهر مسح الرنين المغنطيسي الذي أُجري لها مؤخرا تحسنا عاما، مع تراجع ملحوظ في كثير من الآفات ، ودلالات واضحة على تجديد المادة البيضاء [انظر المقطعين المصغَّرين ضمن الشكل في الصفحة 84]. بيد أن بعض الآفات الجديدة أخذت بالظهور.

وكما هي الحال في معظم حالات علل المناعة الذاتية، فإن العوامل الوراثية تكون واضحة. فدراسة توأمي وحيدات الزيجوت (البيضة)، أو التوائم المثيلة، توضح أنه إذا ما أصيب أحد التوأمين بالتصلب المتعدد فإن فرصة إصابة الآخر تصل إلى 30 بالمئة. ويُفصح المرض عادة عن نفسه في بداية البلوغ وغالبا بعد بضعة أسابيع من اعتلال رتيب. ويميل المرض إلى الانبجاس بعد الحمل. وتتعاقب فترات الهدأة مترافقة مع عوارض حادة، تتزايد سوءًا في نحو نصف عدد المرضى، أما في البقية، فإن مسار المرض يتفاقم باستمرار.

لقد أخذ يتضح لنا الآن سبب التصلب المتعدد. فالخلايا ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات)، التي يفترض أنها قد أزيلت أو أسكنت في غدة التوتة أثناء التنامي، تتسرب عوضا عن ذلك إلى سائر الجسم. وقد تخفق التوتة في أداء وظيفتها لأنها لا تغدو على تماس مع كمية كافية من مستضدات الذات وبخاصة البروتينات التي تُحْتَجز في عضو معين كالدماغ. وقد يتمثل الاحتمال الآخر بأن تُستثار الاستجابة المناعية الذاتية بوساطة الميكروبات (الأحياء المجهرية) التي تحاكي بنية مستضدات الذات، وبخاصة إذا لم يتم تقديم هذه المستضدات للتوتة أثناء التنامي.

وتهاجر اللمفاويات ذاتية التفاعل (التي تكونت على هذا النحو) من التوتة والعقد اللمفية والطحال إلى الدم، ومن ثم إلى أعضاء الجسم، حيث تطلق كيميائيات تلحق الأذى بنسج نوعية. لقد أتاحت هذه المعارف فعلا اقتراح عدد من الطرائق الكفيلة بإزالة الخلايا مدمرة الذات أو إسكاتها.

وقد ارتاب الباحثون طويلا فيما إذا كانت المناعة الذاتية هي السبب الاحتمالي للتصلب المتعدد، بيد أن الدليل القاطع لم يتوافر إلا في عام 1982، حين اكتشف< S.C. رين> وزملاؤه (في كلية ألبرت آينشتاين الطبية بنيويورك) خلايا مناعية في المادة البيضاء للمرضى. لقد لاحظوا طرازا التهابيا يستحيل تمييزه عن أي التهاب عادي بسيط. فمعظم الخلايا المناعية كانت لمفاويات تائية اشتقت من التوتة، وقلة منها كانت لمفاويات بائية اشتقت من نقي العظم، أما بقية الخلايا فكانت خلايا كانسة (قمّامة) scavengers أو بلعميات، ويلعب كل نوع من هذه الخلايا دورا نوعيا في تفتيت غمد النخاعين الذي يعزل الألياف العصبية الطويلة ويمنحها اللون الأبيض. إضافة إلى ذلك، فلقد اتضح أن الخلايا التائية والخلايا البائية تنجز هذا التقويض بوسائل متباينة.

يتتابع زوال النخاعين على مستويات عديدة، فتهاجم البلعميات النخاعين مباشرة (في اليسار)، مقدمة شدفًا من البروتين على سطحها كي تتعرفها الخلايا التائية. وتهاجم هذه الخلايا عن بعد بإفراز السيتوكينات، مثل عامل النخر الورمي. كما تحرض التائيات أيضا الخلايا البائية على إنتاج أضداد تدمر الخلايا الدبقية القليلة التغصن التي ترمم (في الحالة السوية) النخاعين. ويمكن أن يُعكس زوال النخاعين (في الوسط) عن طريق اغتراس خلايا دبقية قليلة التغصن جديدة (في اليمين).

ويبرز على الفور سؤالان: ما الذي كانت تفعله هذه الخلايا بالمادة البيضاء؟ وكيف استطاعت اختراق الحاجز (الحائل) الدموي الدماغي blood-brain barrier الذي لا يسمح (في الحالة السوية) لعناصر الجهاز المناعي بالعبور [انظر: «اختراق الحاجز الدماغي الدموي»،مجلة العلوم ، العدد 8/9 (1994) ، ص 30]. وللإجابة عن السؤال الأول فإن الباحثين درسوا دراسة مستفيضة الخلايا التائية والبائية وعلى وجه الخصوص البنى التي تعرف بالمُسْتَقْبِلات، وهي أدوات هذه الخلايا في تعرفها المستضد.

وأظهر تحليل مستقبل المستضد على الخلايا البائية أن السائل الشوكي لمرضى التصلب المتعدد يحوي كمية زائدة من الأضداد. وقد نتج معظم هذه الأضداد من نسائل قليلة من الخلايا البائية. ولقد برهن <.C. Cبيرنارد> وزملاؤه (في جامعة لاتروب بأستراليا)، في بداية الثمانينات، على أن بعض هذه الأضداد قد عجَّلت تفتيت المكوِّن الرئيس لغمد النخاعين، وهو بروتين النخاعين الأساسي myelin basic protein.

ولا تهاجم أضداد الخلايا البائية البروتين نفسه، ولكنها تهاجم الخلايا الدبقية القليلة التغصن oligodendroglial cells التي صُنِع فيها هذا البروتين. ويبدأ الهجوم عندما تتراكب (تتضام) الأضداد مع إنزيمات يحملها الدم وتعرف بالمُتَمِّمة complement لتُشكل ما يسمى بمعقدات الهجمة. وقد اكتشف <A.D. كومستون> وزملاؤه (في جامعة كامبريدج) في السائل المخي النخاعي لمرضى التصلب المتعدد معقدات تحوي خمسة من مكونات المتممة. وتتثبت هذه المركبات تثبتا نوعيا بأغشية الخلايا الدبقية القليلة التغصن حيث تعترض المرور الخارجي لأيونات الكلسيوم مدمرة بذلك الخلايا.

وكان توضيح وظيفة الخلايا التائية أكثر صعوبة، لأنها ـ وخلافا للأضداد ـ لا تتعرف الهدف (سواء كان پپتيدًا أو شدفة بروتينية) إلا عندما يكون مترابطا بجيب استراتيجي لواحد من البروتينات التي تعرف بمستضدات اللمفاويات البشرية human lymphocyte antigens، أو اختصارا HLA. وتتوضع هذه البروتينات على غشاء الخلية لتقدم المستضدات للخلايا التائية للسبب نفسه الذي يجعل الجندي ينطق بكلمة السر كي يتفادى المعاملة كعدو. وهنا تبرز مشكلة مهمة، ذلك أن التعبير عن جزيئات HLA لا يحدث في الحالة السوية فيما يتعلق بخلايا الجهاز العصبي، بكميات وظيفية. أما في التصلب المتعدد، فإنه يتم ابتناء هذه الجزيئات في المادة البيضاء بتحريض من السيتوكين المعروف باسم «الإنترفِرون غاما» ـ وهو إحدى الإشارات الكيميائية التي تعمل كموصلات بين خلايا الجهاز المناعي.

لقد اكتشف الأطباء هذا الموصل صدفة أثناء اختبارهم الإنترفِرون غاما كعلاج للتصلب المتعدد. فبدلا من المساعدة في الشفاء، فإن العقار زاد الأمر سوءا، حيث سبب شللا راجعا مما دعا إلى إيقاف التجارب السريرية ولكن على الرغم من ذلك فإن النتائج كانت بنَّاءة. فلقد أوضحتْ أن بوسع الخمج الڤيروسي و ضروب الكرْب stress الأخرى أن تسبب تفاقم المرض عن طريق استثارة إفراز الإنترفِرون غاما في الدماغ، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور جزيئات HLA في خلايا هذه الناحية (المنطقة) التي لا يتم فيها (في الحالة السوية) التعبير عن هذا البروتين.

وفي عام 1983 وثق <F.G. بوتاتز>و (في مستشفى كلية طب ميدلْسكْس) و <M. فلدمان> (من كلية جامعة لندن) هذه السيرورة فيما يتعلق بالدماغ في التصلب المتعدد، وبطانة المفاصل في التهاب المفاصل الرثياني، والبنكرياس في الداء السكري الشبابي. لقد فسر هذا التعبير الشاذ عن جزيئات HLA كيف يمكن للإنترفرون غاما أن يزيد سوء التصلب المتعدد، كما رسخ عقلانية متابعة المعالجات التجربية باستخدام عوامل تحصر التعبير عنHLA في مواضع الإصابة بمرض المناعة الذاتية.

صديق أم عدو: تتعرف الخلايا التائية المستضدات الغريبة التي تقدمها جزيئات HLA الخاصة بالجهاز المناعي. وفي بعض الأفراد ـ وعلى الأخص من يحمل منهم نمطا معينا من جزيئات HLA ـ قد يشبه مستضد غريب مستضدا ينتجه الجسم. إن هذه المحاكاة الجزيئية تستفز الخلايا التائية كي تهاجم نسج الجسم التي تحوي مستضدات الذات.

ولكن قبل أن يصبح بالإمكان تصميم هذه المعالجات كان من الضروري تعيين ما الذي تهاجمه الخلايا التائية في المادة البيضاء. وبغية معرفة ذلك، كان على الباحثين أن يستنتجوا بنية مستقبل الخلية التائية بدءا من تسلسل الجينات التي تكودها (ترمزها) encode. وخلافا لغيرها، فإن جينات مستقبل الخلية التائية تعيد تراتب نفسها وفقا لنظام موروث في الصبغيات (الكروموسومات). فكان من الضروري إذًا استخلاص الجينات من خلايا النسيلة التائية الواحدة وتحليلها. وكانت هذه المهمة مثيرة للرهبة إلى أن استطاع في منتصف الثمانينات باحث من شركة سيتَس (حاليا «روش للنظم الجزيئية») أن يطور تقنية جبارة لتضخيم الجينات عرفت بالتفاعل السلسلي للپوليمراز [انظر: «النشوء الاستثنائي للتفاعل السلسلي للپوليميراز»،مجلة العلوم ، العدد 4 (1992) ، ص 44].

وقد أثبتت هذه التقنية نجاعتها الفائقة عندما استخدمت من قبل فريق بحث من كلية طب جامعة ستانفورد وشركة سيتَس. لقد قمنا في هذا الفريق بين عامي 1989 و1992 بتحليل الرنا RNA من لمفاويات أخذت من مواقع الالتهاب في دماغ مرضى التصلب المتعدد. فعن طريق سلسلة مجموعة رئيسة من مستقبلات الخلايا التائية، غدا بوسعنا استنتاج الجزء الهدف من المستقبل: إنه معقد المستضد الذي يتشكل عندما تترابط شدفة معينة من بروتين النخاعين الأساسي بجزء نوعي من مستقبل HLA، يتمثل بالجزيء DR2. واكتشفنا في المستقبِل أيضا وجود تسلسل من ثلاثة حموض أمينية يبدو أنها تترابطـ بمعقد المستضد.

لقد تمخض بحث آخر مستقل أجري في الوقت نفسه من قبل< D. P. گولد> (من المركز الإقليمي للسرطان بسان دييگو)، و<H. أوفنر-ڤاندينبارك> و<A.A.ڤاندينبارك> من (كلية طب جامعة أوريگون للعلوم الصحية)، عن نتيجة حاسمة أخرى. لقد اكتشف هؤلاء الباحثون الجين نفسه المعاد تراتبه والخاص بمستقبل الخلية التائية، والثلاثية نفسها الخاصة بالحموض الأمينية في موقع الترابط، وكذلك الشدفة نفسها من بروتين النخاعين الأساسي وذلك في نموذج حيواني للتصلب المتعدد يعرف بالتهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي experimental allergic encephalomyelitis EAE. وترجع أهمية هذه النتائج إلى ترسيخها قيمة هذا النموذج الذي استنبط بتمنيع الحيوانات تمنيعا ذاتيا ضد بروتين النخاعين الأساسي الذي يبدي الأعراض السريرية نفسها للتصلب المتعدد، ألا وهي الشلل وزوال النخاعين. ويمكن بهذا النموذج إذًا اختبار معالجات الاعتلال البشري.

كيف يتقدم مرض التصلب المتعدد
ينجم زوال نخاعين العصبونات في التصلب المتعدد عن سلسلة معقدة من التآثرات الخلوية. ونورد هنا باللون الأحمر الاستراتيجيات المحتملة لاعتراض مسار هذا المرض.

ولكن ما الذي يجعل الخلايا التائية تنقلب ضد الذات؟ إن الخمج غالبا ما يسبق بداية مرض المناعة الذاتية. وبناء على ذلك، فإن العلماء قد تفحصوا بدقة الطرائق التي تستخدمها المُمْرضات (العوامل الممرضة) لتضليل الخلايا التائية. ويبدو أن الإجابة تكمن في المحاكاة الجزيئية، وهي عملية تكيّف تطوري تحاول عن طريقها الڤيروسات (الحمات) والبكتيريا (الجراثيم) خداع الجسم كي يمنحها حرية التكاثر فيه. وتقوم هذه المحاكاة على جعل الجهاز المناعي يرى امتدادات من الحموض الأمينية تبدو كالذات. وعلى سبيل المثال، فإن الڤيروس الغدي من النمط 2 يحتوي على تسلسلات من الحموض الأمينية شبيهة بالشدفة المؤثرة لبروتين النخاعين الأساسي. وباستجابته استجابة رتيبة لهذا الڤيروس، فإن الجهاز المناعي يصبح أحيانا مُرأَّسا لمهاجمة مكونات الذات المقابلة والموجودة في بروتين النخاعين.

وتبدأ الاستجابة المناعية الذاتية حتى وإن لم تكن المحاكاة الجزيئية تامة. فقد تمكن <A. گوتام> و< O.H. ماكديڤيت > (من ستانفورد) من إحداث الشلل في الفئران بتعريضها لامتداد قصير يتألف من عشرة حموض أمينية، خمسة منها فقط مثيلة (مطابقة) فعلا لبروتين النخاعين الأساسي. لقد برهن< S.R. فوجينامي> و <.B.M أولدستون> (من معهد سكريپس للبحوث) على أن پوليمراز ڤيروس التهاب الكبد من النمط B يتشارك بامتداد من ستة حموض أمينية مع قسم من جزيء بروتين النخاعين الأساسي الذي يسبب التهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي (EAE) في الأرانب. فعندما مُنِّعت بهذا القسم من الڤيروس، فإن الأرانب طورت التهابا في أدمغتها.

وتوحي نتائج هذا البحث بأن المحاكاة الجزيئية بين الڤيروسات والبكتيريا من جهة وبين الذات من جهة أخرى قد تكون حرجة فيما يتعلق باستهلال الاستجابة المناعية الذاتية. وقد ينجم تندُّب صمامات القلب الناشئ عن الحمى الرثيانية عن التفاعل المتصالب بين الميوزين myosin وأحد مكونات البروتين M في جدار خلية البكتيريا العقدية الحالة للدم hemolytic streptococcal bacteria. كما يمكن إحداث التهاب المفاصل في القوارض بتمنيعها بالمتفطرة السُّلِّية Mycobacterium tuberculosis. ويشبه هذا المرض التهاب المفاصل الرثياني، وربما ينشأ عن تشابه البنية بين بروتين لب الغضروف وبين بكتيرة السل (التدرن).

ومن الواضح أنه ليس كل من يستجيب للڤيروس الغدي من النمط 2 يبني استجابة مناعية لبروتين النخاعين الأساسي، ويطور التصلب المتعدد. ويبدو أن سبب ذلك يرجع في الغالب إلى فروق في الأنماط الفردية لجزيئات HLA. فهذه الجزيئات تعين بدقة شدف المُمْرِض التي ستُعرَض على سطح الخلية بغية تقديمها للخلايا التائية. فقد يترابط نمط معين من بنى جزيئات HLA بشدفة محاكية للذات وتقدمها للجهاز المناعي، في حين أن نمطا معينا آخر يترابط بشدفة متفردة من المُمْرض لا تحاكي الذات. ففي الحالة الأخيرة تتم مهاجمة المُمرض في حين يبقى تحمل الذات مصانا.

إن الأشخاص الذين يحملون النمط HLA-DR4 يصابون احتماليا بالتهاب المفاصل الرثياني ست مرات أكثر من سواهم. أما الأشخاص حاملو النمط HLA-DR2 فإنهم يرثون ترجيحيا التصلب المتعدد أربع مرات أكثر من غيرهم. ويصيب الداء السكري الشبابي 0.2% من سكان الولايات المتحدة، بيد أنه يكون أكثر انتشارا بعشرين مرة بين الأفراد البيض الحاملين للجينين HLA-DR3 و HLA-DR4.

لكن، وكما هي الحال في كل أمراض المناعة الذاتية، فإن الجينات لا تستطيع بحد ذاتها إحداث المرض. إن 5% من المصابين بالداء السكري الشبابي تفتقر إلى هذين الجينين، كما أن 5% من الأشخاص الأصحاء تحمل هذين النوعين من الجينات. حتى أن توائم الأشخاص المصابين بهذا المرض يعتلّون به بنسبة 50 بالمئة فقط. كما أن الذَّأَب الحُمامي العام (المجموعي) يترابط بأنماط معينة من HLA، بالرغم من أن معدل التوافق عند التوائم لا يزيد على 25 بالمئة. أضف إلى ذلك، أن بعض أنماط HLA تؤهب لأكثر من مرض من أمراض المناعة الذاتية، مما يفسر السبب في أن المصابين بالوهن العضلي الوبيل ـ على سبيل المثال ـ لديهم فرصة 30 بالمئة لاكتساب مرض گريڤز أيضا.

وبوسع الجينات أيضا أن تمنح الحماية من أمراض المناعة الذاتية. فقد لاحظ ماكديفيت و<I.J. بل> و<A.J. تود> (من ستانفورد) في عام 1987، أن المقاومة ضد الداء السكري الشبابي تترافق مع وجود الأسبارتات (جذر الحمض الأميني لحمض الأسبارتيك) في الموضع 57 لسلسلة بيتا من الجزيء HLA-DQ (يتألف هذا الجزيء من السلسلتين ألفا وبيتا). كما توصل إيرليخ بصورة مستقلة إلى الاكتشاف نفسه. ومما تجدر الإشارة إليه أن مدى انتشار الداء السكري الشبابي عند اليابانيين (وهم يحملون تحديدا هذا النمط) يبلغ 5% فقط مما هو عليه في الولايات المتحدة. وبالمقابل فإن سلاسل بيتا لأشكال النمط HLA-DQ التي تحتوي على السيرين أو الألانين أو الڤالين في الموضع 57 تترافق مع مجازفة كبيرة للإصابة بالداء السكري الشبابي. إن هذه العلاقة بين HLA والمرض تنجم جزئيا عن احتمال ما إذا كان جزيئا معينا من HLA يستطيع أن يقدم شدفة من المُمْرِض تحاكي أحد مكونات الذات.

وبغض النظر عن كيفية استهلاليتها، فإن المناعة الذاتية ليست مجرد حشد جيش من الخلايا التائية، ذلك أن على هذه الخلايا أن ترتحل من التوتة والطحال إلى الدم، ومن ثم إلى العضو الهدف. إن ثلاث فئات من الجزيئات متورطة في هذه الآلية المعقدة من المبيت homing. فالمرور عبر جدار وعاء الدم في مرض المناعة الذاتية هو ظاهريا نفسه في الاستجابة الالتهابية السوية للخمج. وتتوسط سيرورة المبيت أفرادٌ من فصيلة الجين الفائق supergene للگلوبلينات المناعية، وكذلك مستقبلات الخلية التائية من النمطين CD4 و CD8 [انظر: «كيف يتعرف الجهاز المناعي (على) الغزاة»، في هذا العدد].

أما سيرورة المبيت فتبدأ عندما تصل الكريات البيض، ومعظمها من التائيات، إلى الهدف وترسّخ وجودها هناك بمساعدة جزيئات الالتصاق بين الخلايا التي تعرف بالإنتگرينات (المُدْمِجات) integrins. وتحمل هذه الجزيئات، التي تتوضع على سطوح الخلايا التائية، مستقبلات يمكن ربطها بإحدى نهايتي ناشبة (مثبت) ڤيلكرو Velcro fastener. أما النهاية الأخرى للناشبة فتربط بالمستقبل المضاد الذي ينتمي إلى فصيلة الجين الفائق للگلوبلين المناعي. إن رابطة bond ڤيلكرو التي تشكلت على هذا النحو تجمع إذًا بين مستقبل الخلية التائية من جهة والمستقبل المضاد الذي ينمو بدءا من خلية في بطانة الأوعية الدموية من جهة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن هذا النمو يحدث في النقاط التي تعرضت لفعل بعض السيتوكينات كالإنترفرون غاما وعامل النخر (الموت الموضعي) الورمي tumor necrosis factor.

وتُنتج هذه السيتوكينات إنتاجا آنيا بوساطة الخلايا التائية المنشَّطة والبلعميات. وبناء على ذلك، فعندما تهبط إحدى الخلايا التائية إلى الوعاء الدموي وتلتقي مستقبلا مضادا فإنها تلتصق به. وتدفع سيرورة الالتصاق بالخلية التائية لأن تفرز الپروتيازات، تلك الإنزيمات التي تساعد على إحداث ثقب دقيق جدا في الوعاء الدموي وتمكِّن الخلايا التائية من توتير هيكلها الخلوي، الأمر الذي يسمح لها بأن تنسلّ عبر هذا الثقب بالغ الصغر. وبهذه الطريقة تخترق الكريات البيض الحاجز الدموي الدماغي مسببة التصلب المتعدد، كما أن اختراقها البطانة الزليلية synovial lining يسبب التهاب المفاصل الرثياني، وهكذا فيما يتعلق بأمراض المناعة الذاتية الأخرى كافة.

إن الطفح المميز فوق عظام الوجنتين والجبهة يُشخِّص مرض الذَّأَب الحُمامي العام (المجموعي). وغالبا ما يبدأ المرض في البالغين صغار السِّن. وقد يصيب في النهاية العديد من أجهزة الجسم.

ويبدأ التدمير عندما تصادف خلية تائية معينة مستضدها في فلح (شق) cleft جزيء نوعي من HLA، فتحرِّر عندئذ مجموعة بروتينات وپپتيدات تشتمل فيما تشتمل على عامل النخر الورمي، ومادة كيميائية تقربه تسمى الذيفان اللمفي lymphotoxin، والإنترفرون غاما. ولقد تم تعيين هوية هذه الكيميائيات وتأثيراتها، وتبين أنها السبب الأقرب وراء زوال النخاعين. وتسرِّع البلعميات عندئذ السيرورة بإفراز عامل النخر الورمي من جهة وبشن هجمة مباشرة من جهة أخرى. لقد بينت <R. برينياز> و<J. برينياز> (من جامعة الطب وطب الأسنان في نيوجرسي) أن البلعميات تنتزع في الحقيقة شدفا بكاملها من نخاعين الغمد الذي يغطي محاوير العصب nerve axons [انظر الشكل في الصفحة 86].

وقد يفترض البعض أن مرض المناعة الذاتية ما إن يبدأ حتى يتتابع دونما انقطاع. بيد أنه في التصلب المتعدد والتهاب المفاصل الرثياني والذَّأَب الحُمامي العام (المجموعي) والوهن العضلي الوبيل، تتعاقب عادة فترات التردي والهدأة. ولقد أمكن البرهان على أن طراز الانحطاط يترابط في هذه الأمراض كافة ترابطا وثيقا بثلاثة عوامل بيئية، هي: هرمونات الأنوثة والخمج والكرْب stress.

لقد لوحظ منذ زمن طويل أن أمراض المناعة الذاتية تكون على العموم أسوأ في الإناث منها في الرجال. وقد قدم< S.H. فوكس> (من معهد سكريپس) مؤخرا، سببا لهذه الظاهرة، إذ أثبت أن هرمون الإستروجين الأنثوي ينبه تسلسلا من الدنا DNA الذي ينشط بدوره جينات قريبة من هذا التسلسل، فتُنسخ هذه الجينات عندئذ إلى الإنترفرون غاما. فالإستروجين إذًا يحض على إنتاج هذا الإنترفرون الذي يساعد ـ كما رأينا ـ على تحريض سيرورة المناعة الذاتية.
 
ومن الجلي أن الأحياء المجهرية (المِكْرَوِيّة) microorganisms لا يمكنها أن تزيد من تفاقم مرض المناعة الذاتية بالطريقة نفسها التي حرضت بها على إحداثه، ذلك بأن المحاكاة الجزيئية لا تستطيع أن تجعل الجسم حساسا لمكوناته أكثر مما هو عليه فعلا. ولا بد أن تكون وظيفة أخرى من وظائف الحي المجهري هي الملومة. وقد استوحيت طبيعة هذه الوظيفة من دراسة التهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي (EAE) التي قام بها <S. بروك> وزملاؤه في ستانفورد. فعندما أعطى الباحثون الفئران التي شفيت من شلل حرض عليه الالتهاب المذكور، الذيفانَ المعوي B للمكورات العنقودية staphylococcal enterotoxin B حدثت النكسات خلال 48 ساعة. وينتمي الذيفان المعوي B للمكورات العنقودية إلى صف من المواد عرفت بالمستضدات الفائقة superantigens، وسُمِّيت كذلك لأنها تنشّط الخلايا التائية التي لا تستجيب فيما عدا ذلك إلا لمستضدات نوعية خاصة.

ولأن المستضدات الفائقة تنشّط من جديد الخلايا التائية المؤذية، فإنها تزيد كثيرا من شدة الالتهاب. ويرجع التأثير الواسع إلى هذه المستضدات لكونها تترابط بمستقبل الخلية التائية في نقطة تقع خارج الموضع (المقر) ذي النوعية الشديدة والذي يتعرف المستضد [انظر:
Superantigens in Human Disease"
by H M. Johnson - J. K. Russel - C. H. Pontzer;Scientific American, April 1992].

وبطبيعة الحال، فإن الخلايا التائية التي رُئِّست للتفاعل مع مستضد الذات هي فقط التي ستجد طريقها إلى الهدف. وعلى سبيل المثال، فقد بيّن <L.B .كوتزين> و<P. ماراك> (من المركز NJC لعلم المناعة وطب الأمراض التنفسية في دنڤر) بأن خلايا تائية معينة (تحمل مستقبلا نوعيا) تتركز في السائل الزليلي لدى مرضى التهاب المفاصل الرثياني، ويتراءى هذا التركيز بنفاد مقابل للخلايا التائية نفسها من الدم. لقد اقترح كوتزين وماراك أن هذه الخلايا التائية ذات المناعة الذاتية قد نُشِّطت بوساطة المستضدات الفائقة، مما يدفعها إلى مهاجمة بطانة المفاصل، فتتكاثر عندئذ في النسج الزليلية، حيث تم انتقاؤها من قبل مستضد نوعي لم تحدد هويته بعد.

وقد يزيد الكرْب (كالمرض والرضح trauma) من تفاقم مرض المناعة الذاتي وذلك بالتأثير في غدتين دماغيتين هما الوِطاء hypothalamus والنُّخامي pituitary، وتقوم هاتان الغدتان عندئذ بإفراز هرمونات تعزز الالتهاب. وفضلا عن ذلك، فربما تلعب الأعصاب دورا ما بتعصيبها المباشر للغدد اللمفية والخلايا المناعية التي تستوطن تلك الأعضاء.

ويحث الالتهاب على تحرير السيتوكينات التي تصل غدد الدماغ دافعة بها إلى إفراز عامل تحرير المُوَجِّهَة القشرية corticotropin-releasing factor. إن لهذا الپپتيد العصبي تأثيرين متعاكسين، فهو يضاعف نشاط الخلايا المناعية في موضع الالتهاب، ويحث في الوقت نفسه الغدة الكظرية على إنتاج القشرانيات السكرية glucocorticiods التي تعمل على إيقاف الالتهاب. ويمكن إحصار التأثير الالتهابي لعامل تحرير الموجهة القشرية باستخدام عقاقير معينة، كالأضداد التي تترابط بالعامل مُحيِّدةً neutralizing فعله.

أين يمكن لأمراض المناعة الذاتية أن تؤثر
المرض
داء أديسون
فقر الدم الانحلالي المناعي الذاتي
داء كرون
متلازمة كودپاستشر
داء گريفز
التهاب الدرقية الهاشيموتي
فرفرية قلة الصفيحات ذاتية النمط
الداء السكري المنوط بالإنسولين
التصلب المتعدد
الوهن العضلي الوبيل
الفقاع الشائع
فقر الدم الوبيل
التهاب كُبيبات الكلى بعد الخمج بالعقديات
الصُّداف
التهاب المفاصل الرثياني
تصلب الجلد
متلازمة شُگرين
العقم التلقائي
الذََّأَب الحُمامي العام (المجموعي)
الهدف
غدة الكظر
بروتينات غشاء الكريات الحمر
المعى
الكلية والرئتان
الدرقية
الدرقية
الصفيحات
خلايا بيتا في البنكرياس
الدماغ والنخاع الشوكي
التشابكات العصبية العضلية
الجلد
الخلايا الجدارية للمعدة
الكلية
الجلد
النسيج الضام
القلب والرئتان والمعى والكلية
الكبد والكلية والدماغ والدرقية والغدة اللعابية
النطفة
 الدنا (DNA) والصفيحات والنسج الأخرى

وفي مرض التصلب المتعدد ـ وأثناء الخمج خاصة ـ قد تُنتَج سيتوكينات مثل عامل النخر الورمي والإنترلوكين1- داخل الدماغ نفسه وذلك من قبل الخلايا الدبقية (التي تدعم وظيفة العصبونات). وقد يزداد عدد هذه السيتوكينات عندما تُرفد بأخرى تُنتَج خارج الدماغ وتُنقل إلى داخله عبر نقاط حرجة في الحاجز الدموي الدماغي وتكون هذه التأثيرات حاسمة في سَبَبِيّات الحمى البسيطة، ذلك أن الخمج يدفع بالبلعميات إلى إفراز الإنترلوكين-1 الذي يدخل الوِطاء عبر ثغرة في الحاجز الدموي الدماغي تقع في المنطقة التي تسبق دخول العصب البصري، حيث يستثير هذا السيتوكين (الإنترلوكين-1)، نتيجة تأثيره في الوِطَاء، ارتفاعا في درجة حرارة الجسم.

لقد ارتاب الباحثون طويلا في إمكان تورط الأعصاب في المناعة، بيد أن الدليل القاطع على ذلك لم يتوافر إلا منذ شهور قليلة فقط. فلقد تمكن <D.R. گرانشتاين> وزملاؤه (في مستشفى ماساتشوستس العام) من أن يبرهنوا على أن الأعصاب تستطيع أن تحرر پپتيدات عصبية معينة في الجلد، وبذلك تؤثر في قوة الاستجابة المناعية الموضعية. وقد يظهر هذا التنظيم الموضعي في الصُّداف psoriasis ـ الذي يمثل بوضوح أحد أمراض المناعة الذاتية. ومن المعروف أن أعراض هذا المرض تزداد سوءا عندما يصبح المريض قلقا.

لقد ركز الباحثون اهتمامهم حتى الآن على السبل الهرمونية التي تربط الكرْب بتفاعلات المناعة الذاتية. بيد أن <L.R. ويلدر> و< P.G. كروسوس>وزملاؤهما (من المعاهد الوطنية للصحة) برهنوا مؤخرا على وجود عامل تحرير الموجِّهة القشرية في السائل الزليلي لمرضى التهاب المفاصل الرثياني وفي نسجهم. كما أوضحوا أن الحيوانات التي تُخْفِق في تحرير كمية كافية من عامل تحرير الموجهة القشرية كاستجابة منها للكرب تكون ذات استعداد عال لالتهاب المفاصل المحرض تجربيا. وقد لاحظ <S.G. باناي > (من مستشفى گاي لكلية طب جامعة لندن) الملامح نفسها في مرضى التهاب المفاصل الرثياني. وقد تمثل هذه النتائج حلقة وصل بين الدور العصبي من جهة، وبين الملاحظة السريرية المعروفة على نطاق واسع بأن القلق يزيد مرض المناعة الذاتية سوءا من جهة أخرى.

وإذا كان بوسع الخوف أن يسبب النُكس، فإن الخوف من النكس قد يصبح نبوءة ذاتية التحقق. وفي الحقيقة، فإن عدم التيقن من المستقبَل ربما يشكل المظهر الأكثر مرارة في مرض المناعة الذاتية. وقد تستمر الهدأة شهورا أو سنوات، وقد يتقدم المرض ببطء أو بسرعة، ولكن حدوث مضاعفات تتعدى السيرورة (الحدث) الأولية للمناعة الذاتية يظل أمرا احتماليا. وعلاوة على ذلك، فإن فرص تطور حالة أخرى من المناعة الذاتية تزداد كثيرا لدى الأشخاص الذين أصيبوا فعلا بواحدة من هذه الحالات.

وتكون بعض هذه الحالات الثانوية حميدة التأثير لأنها تخرب نسجا ذات وظائف يمكن تعويضها. فعلى سبيل المثال يمكن معالجة داء گريڤز باستئصال الغدة الدرقية ذات النشاط المفرط ومن ثم التعويض عن الهرمون المفقود بإعطائه عن طريق الفم. بيد أن المعالجة المماثلة للداء السكري الشبابي ـ أي حقن الأنسولين ـ ليست تامة الجوانب. ذلك أن هذه الحقن لا تولد إفرازا دقيق التدرج كالذي تختص به الخلايا بيتا التي تتحكم في استقلاب الغلوكوز بحساسية رائعة الإتقان. ولهذا السبب فإن تركيز الغلوكوز في الدم يتقلب تقلبا واسعا، مُعرِّضا مريض الداء السكري لمجازفة عالية من المضاعفات الوعائية. وتجدر الإشارة إلى دراسة طويلة الأمد تمت في الشهر6/ 1993 برعاية المعهد الوطني للداء السكري وأمراض الجهاز الهضمي والكُلى، واستنتج منها أن المرضى يستطيعون أن يتجنبوا المضاعفات أو يرجئونها، وذلك بإجراء اختبارات الدم بصورة مستمرة وإدخال تعديلات مناسبة على القوت (الغذاء) والتمارين الرياضية، ومن ثم تقدير جرعات الأنسولين.

بيد أنه لا يوجد بديل للجزيئات المتأذية في نسج الوهن العضلي الوبيل، ونعني بذلك مستقبل الأسيتيل كولين عند المواصل بين الأعصاب والعضلة. فالأضداد تهاجم الموصل مسببة الضعف والشلل. إن تحمل الجسم لمستقبل الأسيتيل كولين يُخترق في غدة التوتة حيث يتم التعبير عن مستقبلات الأسيتيل كولين. وتتضخم هذه الغدة في نصف عدد المرضى تقريبا، ويعمد عادة إلى استئصالها، الأمر الذي يخفف من أعراض المرض، ولدى صغار السن خاصة.

وقد يكون مرض الذَّأب الحُمامي العام (المجموعي) أشد أمراض المناعة الذاتية تدميرا، إذ بوسعه الوصول عمليًا إلى أعضاء الجسم كافة، ويصيب أحيانًا العضو تلو الآخر، وغالبًا دونما أي إنذار سابق على الإطلاق. ويصيب هذا المرض نحو 250000 شخص في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، بعيدًا عن أي توازن فيما يتعلق بالجنس، فالنساء يمثلن كامل التسعين بالمئة من المرضى. ويبدأ الاعتلال عمومًا في سن البلوغ المبكر عندما يظهر طفح جلدي مميز فوق عظمي الوجنتين وجبهة الرأس، مولدًا الانطباع عن سحنة شبيهة بالذئب، الأمر الذي أدى إلى اشتقاق اسم المرض [انظر الشكل في الصفحة 90]. ويُعَدّ تساقط الشعر والتأذي الكُلوي الوخيم والتهاب المفاصل وتراكم السائل حول القلب والتهاب بطانة الرئتين، أعراضًا شائعة. وتلتهب أيضًا في نصف عدد المرضى تقريبا، الأوعية الدموية للدماغ مما يؤدي أحيانا إلى الشلل والاختلاج.

أما السببُ في أن يكون الذأب الحُمامي العام شديد التقلب فيظل لغزًا محيرًا، هذا على الرغم من أن مَرَضِيّات النسج التي هي شديدة التباين تنطوي كلها على إخفاق عام في تحمل الذات. وتوحي التجارب التي أجريت مؤخرا بتفسير جذاب، فقد اتضح أن الفئران المصابة بشبيه الذَّأب تحمل طفرة في الجين المكوِّد (المرمز) للبروتين Fas، وهو جزيء يوجد على سطوح الخلايا التوتية والتائية والبائية المنشَّطة. إن جزيء Fas السوي يستثير موت الخلايا المناعية موتًا مبرمجا. فإذا ما أخفق حدوث الموت الذي يتوسطه Fas، فإن الخلايا التائية والبائية ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات) تعيث فسادًا في أعضاء أجهزة الجسم العديدة.

وقد بقي الأطباء حتى وقت قريب يحاربون هذا المرض عشوائيًا، وسلاحهم الوحيد هو كابتات المناعة اللانوعية كالستيرويدات القشرية corticosteroids التي لا تفيد إلا قليلا، بل إنها تلحق الأذى أحيانا. بيد أن معارفنا ـ في السنوات القليلة الفائتة ـ لإحداث داء المناعة الذاتية قد قادت إلى تطوير معالجات عالية الانتقائية، تتدخل كل واحدة منها في نقطة مختلفة من نقاط سيرورة المناعة الذاتية. وقد حققت هذه المعالجات في النماذج الحيوانية نتائج ممتازة. ويخضع حاليا بعضُها لتجارب سريرية. وبالفعل، فإن بعض هذه العقاقير تنتظر الآن الموافقة على استعمالها.

وإذا كانت جزيئات HLA في المادة البيضاء مترابطة بهجمات من التصلب المتعدد، فإنه من المنطقي أن نحصر التعبير عنها. إن للإنترفرون بيتا هذا التأثير المحصر تماما كالإنترفرون غاما الذي يعمل على زيادة هذا التعبير. وقد أُجْرِيت مؤخرا اختبارات سريرية كثيرة في مراكز عديدة على الإنترفرون بيتا من قبل علماء ينتمون إلى مؤسستين متشاركتين من مؤسسات التقانة الحيوية، هما هيئة شيرون chiron وبيرلكس للعلوم الحيوية Berlex bioseiences. وقد خفض العقار عدد الهجمات بمعدل 30%، وقلص فعلا مناطق الالتهاب في المادة البيضاء. وقد أوصت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في الشهر7/ 1993 باستخدام الإنترفرون بيتا، فأصبح العلاج الأول للتصلب المتعدد الذي تمت الموافقة على استعماله.

وربما تكون الاستراتيجيات الأخرى التي تحصِر جزيئات HLA، التي تقدم المستضدات حساسة الذات، أشد استهدافا وأكثر قوة. ففي النموذج الحيواني للتصلب المتعدد، تقدم جزيئات تشبه HLA-DR شدفا من بروتين النخاعين الأساسي للخلايا التائية، التي تهاجم عندئذ الجهاز العصبي المركزي. ولقد أوضحتُ مع ماك ديفيت وآخرين أنه من الممكن صنع مضاهئات للنخاعين تترابط بجزيئات HLA بألفة تفوق ترابط النخاعين الواطن (الأصلي)، فضلا عن أنها غير مستمنعة. فعن طريق توهين جزيئات HLA بترابط تنافسي أقوى، فإن المضاهئ يعمل عندئذ كشراك جزيئية تقي من التهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي (EAE)، حتى إنه يعكس المرض الشللي المرافق.

وبناء على هذه النتائج المشجعة فإن زملائي (في شركة نوروكراين للعلوم الحيوية، حيث أعمل رئيسا للباحثين) يصممون حاليا شراكا تترابط ترابطًا وثيقا بفلح HLA. فهي تعطل نوعيا (أو تتحمل) الخلايا التائية التي تفتت النخاعين. وتمتلك الشركة حقوق البراءة لهذه التقانة وتعمل بمساعدتي على تطويرها بغرض التطبيق السريري. ويسود الاعتقاد بأنه يمكن تطبيق هذه الاستراتيجية على أمراض المناعة الذاتية كافة. وقد قام <M. سيلا> و<R. أرنون> وزملاؤهما ( بمعهد وايزمان للعلوم في رَهَڤوت) بتركيب تميم پوليمر (مكوثر) copolymer يشبه بروتين النخاعين الأساسي. ويترابط تميم الپوليمر هذا بجزيء HLA-DR2، فيقلل عندئذ من وقوع النكس في التصلب المتعدد.

وهنالك مقاربة (نهج) أخرى تتمثل بتعطيل أحد الأسلحة الكيماوية الرئيسية للخلايا التائية، ويقصد بذلك عامل النخر الورمي. ولقد أنجز ذلك في تجربة استرشادية فلدمان و< T.R. مياني> ومعاونوهما (في معهد كِنِدي للرثويات بلندن، وفي هيئة سنتوكور Centocor Corporation. فقد أنتجوا ضدا وحيد النسيلة يترابط بعامل النخر الورمي، وأثبتوا مقدرته على إزالة هذا السيتوكين من الدورة الدموية. وتكبت جرعة واحدة الاستجابة المناعية الذاتية مدة تتراوح ما بين 5 و 10 أسابيع من دون أن تخمد الاستجابة المناعية العامة تجاه الأخماج. ولا يضارع قوة هذه المعالجة سوى نوعيتها المذهلة.

وزادت المعالجة بالضد حركية المفاصل وقللت تيبسها المترافق مع التهاب المفاصل الرثياني. ويتوقع أيضا تطبيق هذه الاستراتيجية في معالجة التصلب المتعدد، حيث إن عامل النخر الورمي متورط كعنصر تفتيتٍ للمادة البيضاء في مكان حدوث المرض.

وفضلا عن ذلك، فهنالك وسيلة أخرى للمعالجة تتمثل بتضليل اللمفاويات عن أهدافها. ولقد تمكنتُ مع <A.T .يدنوك> (من معهد أثينا للعلوم العصبية) و<N. كارين> (من ستانفورد) من منع تطور التهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي (EAE) في الجرذان بهذه الطريقة. فقد عالجناها بضد وحيدة النسيلة موجهًا نحو VLA-4 ـ أحد نتوءات الالتصاق على سطح الخلية التائية ـ فالخلية التائية المعالَجة بهذه الطريقة لا تستطيع الالتصاق بالمستقبلات المتممة (المضادة) لها والموجودة على جدار الوعاء الدموي. بناء على ذلك، فإن الخلية تمر متخطية مكانها المقصود من دون أن تحاول اختراق الحاجز الدموي الدماغي، ولم توفر هذه الطريقة الحماية للحيوانات من المرض الشللي فحسب، بل إنها صانت تماما أدمغتها من الالتهاب.

وسيتم قريبا تطبيق هذه المقاربة في التصلب المتعدد. ولقد أنْسَنّا فعلا الجزيء مضاد VLA-4، أي إننا استعضنا عن قطع الجزيء التي تعين هويته الفأرية الأصل بمكونات بشرية تقابلها. ولقد اتبعت مقاربة مماثلة من قبل <K.أوكومورا> وزملائه (من كلية طب جامعة جنتندو بطوكيو)، وذلك فيما يتعلق بنموذج حيواني لالتهاب المفاصل الرثياني، إذ أحصروا هجرة اللمفاويات إلى المفاصل باستخدام ضد ICAM-1، وهو جزيء يمكّن الخلية من الالتصاق بجدار الوعاء الدموي. وهنا أيضا تخضع الأضداد الموجهة ضد ICAM-1 لاختبارات قبل سريرية تمهيدا لاستخدامها في المرضى الآدميين.

وثمة مقاربة ذات براعة خاصة شرع بها <C.C. ويتكر> (من جامعة ولاية أوهايو) و<L.H. واين>ر (من جامعة هارڤارد). فلقد أثبت هذان الباحثان أن مجرد إطعام بروتين النخاعين الأساسي للحيوانات المصابة بالتهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي (EAE) يمكن أن يمنع الشلل أو يعكسه. إن أسلوب إعطاء البروتين أمر مهم فيما يبدو، لأن الجسم مبرمج لقبول معظم البروتينات المأكولة كطعام، ولمهاجمة معظم البروتينات التي تصل النسج مباشرة (كما هي الحال في الجرح الوخزي، أو في الحقن تحت الجلد). إن هذه المعالجة الفموية للتحمل ـ كما يطلق عليها ـ تحرض فيما يبدو، الخلايا التائية على إفراز السيتوكينات، مثل عامل النمو المحول  transforming growth factor βi الذي يبطل التأثيرات المؤذية للإنترفرون غاما وعامل النخر الورمي.

لقد أجرى واينر مؤخرا تجربة سريرية تناولت عددًا قليلا نسبيا من مرضى التصلب المتعدد، حيث قام بإطعامهم النخاعين البقري، مما أدى إلى نقصان عدد النَكسات في الرجال من دون النساء. ولأن الفائدة كانت أكثر وضوحا في الرجال منها في النساء، فقد يمكن ربط هذا التفاوت بما للإستروجين من تأثير في إنتاج السيتوكينات.

وتهدف مقاربة أشد صراحة لعلاج المناعة الذاتية إلى إزالة المجموعات الجزيئية subsets النوعية من الخلايا التائية المتورطة في إحداث العلة. فلقد عالج <J.W. كوپمان> وزملاؤه (في جامعة ألاباما ببرمنگهام) التهاب المفاصل الرثياني بضد وحيد النسيلة مضاد للجزيء CD4، وقد زاد هذا الضد من حركية المفاصل عند المرضى زيادة ملموسة. ويختبر حاليا <I.W. ماكدونالد> وزملاؤه (في المستشفى الوطني لطب الأعصاب وجراحتها بلندن) هذه الاستراتيجية ضد التصلب المتعدد.

وقد يتمثل العلاج الكامل للمناعة الذاتية بإسكات أو إزالة ذلك القسم فقط من جهاز المناعة مخرب الذات، والإبقاء ما عدا ذلك على الجهاز سليمًا لمقاومة الخمج. وربما كان هذا الهدف أسهل منالا مما كان يظن الباحثون أصلا، ذلك أن هناك أدلة تشير إلى أن الخلايا التائية المسببة لأمراض المناعة الذاتية تستخدم مجموعة محدودة من الجزيئات المستقبلة. وقد أمكن إثبات أهمية الجزيء الواحد على نحو درامي في التهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي (EAE) عام 1988. فلقد أثبتُ مع زملائي (في ستانفورد)، وكما أثبت كذلك< E.L. هود> (الذي كان حينذاك في معهد كاليفورنيا للتقانة) ومساعدوه ـ في تجربتين مستقلتين ـ أن الخلايا التائية التي تحرض على الشلل في الالتهاب (EAE) تمتلك كلها الجين V-بيتا 8 الذي يكوِّد أحد مكونات مستقبل المستضد. وقد صممنا ضدًا وحيد النسيلة موجها نتاج هذا الجين، وأوضحنا أن هذا الضد يعكس المرض الشللي.

وفي بداية الثمانينات من هذا القرن أوضح <R.I. كوهين> (من معهد وايزمان للعلوم) أنه من الممكن تلقيح الأفراد ضد خلاياهم التائية المؤذية، الأمر الذي يقي من التهاب النخاع والدماغ المناعي الذاتي التجربي، والتهاب المفاصل التجربي، والداء السكري التجربي، أو حتى معالجة هذه الأمراض [انظر: «الذات والعالم والمناعة الذاتية»،مجلة العلوم ، العدد 4 (1989) ، ص 6].

لقد استُهلت مؤخرا تجارب سريرية تتناول التلقيح بالخلايا التائية في التصلب المتعدد، والتهاب المفاصل الرثياني. ففي عام 1989، نجحت أوفنر-ڤاندنبارك وڤاندنبارك، وكذلك <.W.S بروستوف> (من هيئة الاستجابة المناعية)، بتجربتين مستقلتين في معالجة الالتهاب EAE بتلقيح الحيوانات بپپتيد من أحد جزيئات مستقبل الخلية التائية، ومنذ ذلك الحين تختبر أوفنر-ڤاندنبارك وڤاندنبارك هذه التقنية على عدد صغير من مرضى التصلب المتعدد، باستخدام پپتيد يوجد في أحد مستقبلات الخلية التائية، الذي يتفاعل مع بروتين النخاعين الأساسي. لقد أبدى نصف عدد المرضى استجابة مناعية لهذه المستقبلات المُمْرِضة المأخوذة من الخلايا التائية. وتُجرى الآن تجارب للتأكد مما إذا كان هذا العلاج يغير من مسار المرض.

وفي الوقت الذي تنشأ فيه معالجات عالية الانتقائية لهذه الأمراض، فإن الباحثين سيحولون انتباههم إلى إصلاح النسج المتأذية. وقد يتوقع أن يبدأ بعض أنواع هذا الإصلاح تلقائيا بمجرد اعتراض الاستجابة المناعية الذاتية. ولقد أورد <M. رودريگيز> وزملاؤه (في مؤسسة مايو) بيانات موحية استنبطت من نموذج حيواني للتصلب المتعدد. فعندما عالج الباحثون الحيوانات بإحصار الخلايا التائية ذات الصلة وجزيئات HLA، تجدد النخاعين في الأجزاء المصابة من الدماغ. وقد تساعد معالجات أشد «قسوة» على تسريع التجديد، أو على تحريضها في الحالات التي يكون فيها الأذى أعمق من أن يسمح بإصلاح ذاتي. فعندما قام <M. نوبل> ومساعدوه (في معهد لودڤيگ لأبحاث السرطان في لندن) باغتراس الخلايا الدبقية القليلة التغصن في أدمغة القوارض المصابة بالتهاب الدماغ والنخاع الأرجي التجربي (EAE)، غلفت خلايا الطعوم المناطق التالفة بنخاعين تشكل من جديد [انظر الشكل في الصفحة 86].

وقد تتمخض عن هذه البحوث نتائج نفعها أعم مما كان متوقعا، إذ يتضح الآن أن المناعة الذاتية مذهلة في انتشارها. فهي مسؤولة، فيما يبدو، عن مضاعفاتِ كثرةٍ من الأمراض التي لا علاقة للاستجابة المناعية بالأسباب الأولية لنشوئها. ففي داء دوشين لحثل العضلات Duchenne muscular'S dystrophy ـ على سبيل المثال ـ هناك جين معيب يضعف مادة أساسية لتقوية العضلات، فيوهَن المريض ويموت في النهاية وهو في عشرينات عمره، نتيجة القصور التنفسي. وعندما اكتشف أن العضلات تؤوي خلايا تائية، استخدمت العقاقير كابتة المناعة، الأمر الذي أطال مقدرة المصاب على المشي مدة تتراوح بين 3 و 5 سنوات.

وهناك دليل مثير يوحي بصلة أشد أهمية. ذلك أن المناعة الذاتية قد تكون أيضا متورطة في تصلب الشرايين، أي انسدادها الذي يسبب السكتة الدماغية والهجمة القلبية. فمن بين علامات هاتين الإصابتين وجود أضداد ذاتية مترابطة بالمدخرات الدهنية في الشرايين، وبروتيناتِ توافقٍ نسيجي معبَّر عنها تعبيرا شاذًا، وارتشاح بلعميات وخلايا تائية مفرزة للسيتوكينات. وقد تحرض هذه السيتوكينات تكاثر العضلات الملساء والنسيج البطاني، الأمر الذي يزيد من الانسداد. فإذا ما بُرهن على أن هذه الصلة موجودة فعلا، فإن المعالجات الكابتة للخلايا التائية المؤذية ولمراسيلها (رُسُلها) الكيميائية قد تخفف ذات يوم من وخامة المرض القلبي الوعائي الذي يسبب نصف عدد وفيات العالم الصناعي.


 المؤلف
Lawrence Steinman
أستاذ علوم أمراض الجهاز العصبي وطب الأطفال بكلية طب جامعة ستانفورد. ويعمل أيضا رئيسا للباحثين في علم المناعة بشركة نوروكراين للعلوم الحيوية في كاليفورنيا، وهي الشركة التي تطور معالجات تقوم على التآثر بين الجهاز المناعي والجهاز العصبي والغدد الصم. وحصل على البكالوريوس في الفيزياء من كلية دارتموث عام 1968، كما نال درجة الدكتوراه في الطب من كلية طب هارڤارد عام 1973. وقبل أن يلتحق بالأقسام الحالية التي يعمل فيها، أمضى زمالة ما بعد الدكتوراه في علم المناعة الكيميائية في معهد وايزمان للعلوم في رَهَڤوت، كما عمل في قسم أمراض الجهاز العصبي للأطفال في ستانفورد. وكان قد حاز على جائزة السيناتور جاكوب جافيتز من المعهد الوطني للاضطرابات العصبية والسكتة الدماغية.


مراجع للاستزادة 
MOLECULAR MIMICRY AND AUTOIMMUNE DISEASE. M. B. Oldstone in Cell, Vol. 50, No. 6, pages 819-820; September 11, 1987.
T CELL RECOGNITION AS THE TARGET FOR IMMUNE INTERVENTION IN AUTOIMMUNE DISEASE. David C. Wraith, Hugh O. McDevitt, Lawrence Steinman and Hans Acha-Orbea in Cell, Vol. 57, No. 5, pages 709-715; June 2, 1989.
ADHESION RECEPTORS OF THE IMMUNE SYSTEM. Timothy A. Springer in Nature, Vol. 346, No. 6283, pages 425-434; August 2, 1990.
THE DEVELOPMENT OF RATIONAL STRATEGIES FOR SELECTIVE IMMUNOTHERAPY AGAINST AUTOIMMUNE DEMYELINATING DISEASE. Lawrence Steinman in Advances in Immunology, Vol. 49, pages 357-379; 1991.
MHC CLASS-II MOLECULES AND AUTOIMMUNITY. Gerald T. Nepom and Henry Erlich in Annual Review of Immunology, Vol. 9, pages 493-525; 1991.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق