Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

عينان مفتوحتان، دماغ مغلق


عينان مفتوحتان، دماغ مغلق(*)
تقنيات التصوير الدماغي الجديدة تُمكّن
الباحثين من فهمٍ أفضل لمرضى الحالة الإنباتية(1)
<S.لوريز>



نظرة إجمالية/ الحالة الإنباتية (الإعاشية)(**)

   في كل عام ينتقل آلاف الأمريكيين الذين تعرَّضوا لأذيّات دماغية من الغيبوبة (السبات) coma إلى الحالة الإنباتية (الإعاشية) vegetativestate. فإذا بقي المرضى في هذهِ الحالة أكثر من عام تكون فرص استعادتهم الوعي معدومة تقريبا.

   يحاول الباحثون تطوير تقنيات تصوير دماغي لتشخيص الحالة الإنباتية، مما يتيح للأطباء إمكان تحديد أفضل لمرضى التلف الدماغي الذين لديهم فرصة الإفاقة.

   لقد كشف التصوير العصبي الوظيفي لمرضى الحالة الإنباتية دالّاتclues جديدة على آليات الوعيconsciousness، ولكننا بحاجة إلى المزيد قبل أن يتمكّن الأطباء من استخدام هذهِ الأداة للتشخيص وتحديد مآل المرضprognosis.

إن المرضى في الحالة الإنباتية هم يقظون بدون شعور واعٍ. فهم يستطيعون فتح أعينهم ويستطيعون أن يتنفَّسوا بدون مساعدة، ولكنهم لا يستطيعون تنفيذ أوامر معينة أو أداء حركات هادفة.

إن التقدُّم الحالي في الرعاية الطبية أسهم في زيادة عدد الناس الذين يبقون على قيد الحياة إثر تعرضهم لتلف دماغي حاد. فالأطباء يستطيعون إنقاذ أرواح العديد من المرضى الذين يعانون رضحا دماغيا(2) (بعد حوادث الطرق على الأغلب) أو افتقارا للأكسجين (بعد توقف قلبي أو الغرق مثلا)، ولكن إذا كان التلف شديدا فسيدخل المصاب في غيبوبة (سبات) coma. وفي مثل هذه الحالات لا يفتح المصابون عيونهم. وفي أفضل الأحوال، فإن هؤلاء المصابين يُظهرون بعض الحركات الانعكاسية في الأطراف. ويشار هنا إلى أن الغيبوبة قلّما تستغرق أكثر من أسبوعين إلى خمسة أسابيع. أما أولئك الذين يستعيدون وعيهم، فإنهم يتجاوزون الغيبوبة خلال أيام، ويموت آخرون؛ في حين يصحو بعضهم الآخر من غيبوبتهم مع بقائهم غير واعين؛ ولكن في حالة تدعى الحالة الإنباتية (أو الإعاشية)(1).
 
وحتى بالنسبة إلى الخبراء، فإن الحالة الإنباتية تعدّ حالة مزعجة جدّا. إنها توضِّح كيف يمكن أن يصبح المكوِّنان الرئيسيان للوعي منفصلين تماما أحدهما عن الآخر: إذ تبقى اليقظة wakefulness سليمة، في حين ينعدم الوعي (الدراية) awareness الذي يشمل جميع الأفكار والمشاعر. والمقصود هنا باليقظة أن المرضى في الحالة الإنباتية يتّصفون بدورات نوم واستيقاظ sleep/wake cycles. ففي الأوقات التي يبدون فيها يقظين تكون عيونهم مفتوحة وأحيانا تتحرّك. وفي أوقات أخرى يُبْقي المرضى عيونهم مغلقة ويبدون نياما مع أنه يمكنهم فتح عيونهم وتحريكها حين لمسهم أو التحدث معهم؛ كما يستطيعون التنفُّس بدون مساعدة فنيّة، ويمكنهم أيضا القيام بتشكيلة منوّعة من الحركات مثل صك الأسنان أو البلع أو البكاء أو الابتسام أو الإمساك بيد أخرى أو الهمهمة grunting أو التأوّه groaning، ولكن جميع هذه الحركات تكون دائما انعكاسية وليست نتيجة سلوك هادف. هذا ولن يثبِّت المرضى عيونهم نمطيّا على أي شيء لفترة مستديمة، ولكنهم في حالات نادرة يتتبعون بشكل خاطف شيئا ما يتحرك أو يستديرون بسرعة نحو مصدر صوتٍ عالٍ.
 
إن العديد من المصابين بالحالة الإنباتية يستعيدون وعيهم في الشهر الأول عقب الأذيّة الدماغية. أما بعد شهر فإن المريض يوصف بأنه في حالة إنباتية مستديمة persistent vegetative state (PVS) ويتناقص احتمال شفائه مع مرور الزمن. وفي الولايات المتحدة يبقى سنويا ما لا يقل عن 1400 من المصابين بالتلف الدماغي الحاد في حالة إنباتية لمدة شهر بعد الأذيّة. وفي عام 1994 استنتج فريق البحْث(3)M-S.T.F على الحالة الإنباتية المستديمة (وهو فريق من أحد عشر باحثا من معاهد مختلفة) أن فرص الشفاء تقارب الصفر إذا لم يُبد المريض علامات وعي خلال سنة تلي الأذيّة الدماغية الرضحية أو ثلاثة أشهر (عُدّلت فيما بعد إلى ستة أشهر) تلي التلف من الافتقار إلى الأكسجين أو أسباب أخرى. وقد أطلق هذا الفريق البحْثي على هذه الحالات الطويلة الأجل اسم الحالة الإنباتية الدائمة permanent vegetative state.
 
لقد اقتحمت دراسة الحالة الإنباتية (PVS) بؤرة الاهتمام الشعبي في عام 2005 حين ناقش السياسيون حالة <تيري شيافو>، وهي سيدة من فلوريدا دخلت في حالة إنباتية منذ عام 1990. (وذات يوم اختلف والداها وزوجها حول إمكانية شفائها، وأخيرا أجازت المحاكم للأطباء إزالة أنبوب التغذية وبعد 13 يوما توفيت المريضة بسبب التجفاف dehydration). وهنا ألقى هذا الخلاف الضوء على أهمية إيجاد أساليب أكثر فعالية لتحديد ما إذا كان المريض إنباتيا دائما أو أنه حالة أكثر أملا بالشفاء. ومؤخّرا درس العلماء فائدة تقنيات تصوير دماغي لتحديد علامات الوعي التي قد تكون خفيّة لدى المريض غير المستجيب. فلو تمكن الأطباء من التوصل إلى طرائق موثوقة لاكتشاف الشعور الواعي conscious awareness، لاستطاعوا أن يميِّزوا على نحو أفضل بين مرضى الأذيّات الدماغية التي يؤمل الشفاء منها وبين أولئك الذين يواجهون الأقدار الميئوسة. وفي الوقت ذاته قد يلقي هذا البحث ضوءا جديدا على طبيعة الوعي نفسه.
 
تشخيص صعب(***)

غالبا ما تكون أولى علامات وعي المرضى الذين يشفون من الحالة الإنباتية ضئيلة، وتظهر بالتدريج. فالمريض يمكن أن يبدأ بأداء حركات متأنِّية لاانعكاسية، ولكنه يبقى غير قادر على التعبير عن أفكاره ومشاعره وإيصالها إلى الآخرين. ومن أجل تصنيف هذهِ الحالات ابتدع الأطباء فئة سريرية(4) clinical category تدعى حالة الوعي الدنيا(5). وعلى غرار الحالة الإنباتية، فإن حالة الوعي الدنيا هذهِ قد تكون حالة عابرة على طريق المزيد من استرداد الوعي أو تكون متأصلة (مزمنة) وأحيانا دائمة. ومع ذلك، فهنالك فرق مهم يتمثل في أن المرضى الذين يبقون في حالة الوعي الدنيا سنوات عديدة يظلّون يمتلكون فرصة الشفاء. وفي حالة اشتهرت إعلاميّا بدأ <تيري واليس> [وهو رجل من أركانساس كان قد دخل حالة الوعي الدنيا بعد حادث مروري في عام 1984] يتكلم في عام 2003. وكذلك استعاد <واليس> بعض قدراته على تحريك أطرافه، مع أنه لم يستطع المشي واستمرت حاجته إلى الرعاية على مدار الساعة.
 
يعتبر الفصل بين الحالة الإنباتية وحالة الوعي الدنيا تحدِّيا يتطلب فحوصات متكررة من قبل أطباء مدربين ذوي خبرة حسنة بمثل هؤلاء المرضى. فالسريريون، الذين يشخصون حالة إنباتية، غالبا ما يبنون حكمهم على غياب العلامات السلوكية للوعي. ولإيضاح ذلك ببساطة، فإن المريض إذا بدا يقظا (بمعنى أن تكون عيناه أو عيناها مفتوحتين) وأخفق في تنفيذ أوامر مثل «اقْرُص يدي» أو «انظر إلى الأسفل» وكان يؤدي حركات انعكاسية فقط، فقد يعتبره الطبيب في حالة إنباتية.
 
ولكن في أوائل تسعينات القرن الماضي أظهرت دراسات أجرتها <N.كليدس> [من مركز تأهيل الرعاية الصحية في أوستن بولاية تكساس] و<K.إندروز> [من المستشفى الملكي للعجز العصبي في لندن] أن ما يزيد على ثلث عدد المرضى الذين تمَّ تشخيص الحالة الإنباتية لديهم أظهروا بعض علامات الوعي لدى فحصهم بعناية. ولكي يحصل الأطباء على تشخيص أكثر مصداقية، فإنهم بحاجة إلى توظيف اختبارات سريرية موَحّدة تسبر استجابات المريض إزاء تشكيلة منوعة واسعة من المنبِّهات السمعية والبصرية واللمسية. وتتضمن بعض أمثلة هذه الاختبارات مقياس الشفاء من الغيبوبة (السبات) Coma Recovery Scale، الذي أوجده <J.جياسينو> [من معهد تأهيل JFK جونسون في إيديسون]، كما تتضمن تقنية تأهيل التقييم الحواسّي(6) التي ابتكرتها <H.جيل-ثوايتس> [من المستشفى الملكي للعجز العصبي]. وليس ثمة شك في القدرة التشخيصية لهذين المقياسين المتخصّصين بالوعي، ولكنهما يستغرقان من الوقت ما يفوق الفحوص العصبية التقليدية أو أي اختبار بسيط مثل مقياس گلاسكو للغيبوبة Glasgow Coma Scale.
 
بيد أن الشعور الواعي conscious awareness هو خبرة موضوعية يصعب قياسها بشكل غريزي لدى فرد آخر، وهنا يتساءَل المرء: هل يمكن لأكثر التقييمات تأنِّيا أن يخطئ علامات الشعور لدى مرضى اللاتواصل(7) بسبب التلف الدماغي الحاد؟ وطوال العقد الماضي، سعى الباحثون جاهدين من أجل العثور على اختبار موضوعي يمكن أن يؤكد أو يدحض التشخيص السريري للحالة الإنباتية. صحيح إن التصوير البنيوي للدماغ(8)، باستخدام التصوير التجاوبي المغنطيسي (MRI) أو المسح المقطعي الطبقي المحوسب (CT) بالأشعة السينية، قد يفيد الأطباء في مشاهدة مدى التلف الدماغي، بيد أن مثل هذه التقنيات لا تستطيع اكتشاف علامات الوعي. ومع ذلك تشير الدراسات الحالية إلى أن التصوير MRI للأذيّات الدماغية الرضحية قد يفيد الأطباء في التنبؤ بما إذا كان المريض سيخرج من الحالة الإنباتية. فعلى سبيل المثال، يبدو لهم أن المرضى بإصابات تلف مناطق معينة مثل جذع الدماغ brain stem والجسم الثَّفني corpus callosum (وهو العصابة النسيجية التي تربط بين نصفي الكرتين المخيَّيْن) يكونون أضعف فرصة للشفاء.
 
إضافة إلى ذلك، فإن الباحثين، باستخدامهم التقنية الحديثة التي تدعى تصوير موتِّرة الانتشار التجاوبي المغنطيسي(9) التي تسبر متانة (تماسك) مادة الدماغ البيضاء المؤلفة من المحاوير العصبونية التي تحمل الدفعات العصبية nerve impulses، توصلوا إلى فهم أعمق لآليات الشفاء من الحالة الإنباتية. فمثلا مؤخرا استخدم فريق بحثي بقيادة <N.شيف> [من جامعة كورنل] تصوير موتِّرة الانتشار من أجل تبيان تجدُّد نمو المحاوير axons في دماغ <واليس> (المريض الذي استفاق من حالة الوعي الدنيا بعد 19 سنة من الغيبوبة).
 
وهناك أداة أخرى واسعة الاستخدام هي مخطط كهربية الدماغ(10)(EEG) الذي يقيس النشاط الكهربائي للدماغ والذي تستطيع نتائجه أن تكشف حالة يقظة المريض، وذلك لأن النشاط الكهربائي هذا يتباطأ أثناء النوم غير الحالم nondreaming sleep. فبالنسبة إلى المرضى الذين هم في غيبوبة، تستطيع هذه الأداة أن تؤكِّد التشخيص السريري للموت الدماغي(11) (حينما يصبح المخطط EEG متساوي الكهربية، بمعنى أن يكون الخط منبسطا) بيد أن المخطط EEG لا يعد كبير الوثوقية لقياس تغيُّرات الشعور الواعي. ففي حالة مرضى الحالة الإنباتية، لا تستطيع هذه الأداة تأكيد تشخيصات حالاتهم ولا التنبؤ بفرص شفائهم. وقد أوضحت مع زملائي [في جامعة لييج في بلجيكا] أن المرضى الذين هم في حالة الوعي الدنيا يُبدون استجابة دماغية كهربية تدعى الجهد (الكمون) (P300(12 حين سماعهم أسماءَهم وليس حين سماعهم الأسماء الأولى لغيرهم. بيد أن بعض مرضى الحالة الإنباتية المزمنة أبدوا تشابها في استجابات الجهد P300، مما جعل هذهِ التقنية تبدو غير ذات قيمة تشخيصية.
 


(****)يقظ ولكن غير دار 

إثر أذيّة دماغية تفضي إلى غيبوبة (سبات)، يمكن أن يسلك المريض واحدا من بضعة مسارات (في اليمين). فإذا لم يمت المريض أو لم يفق، فمن المحتمل جدا أن يَعْبر إلى حالة إنباتية. (وفي حالات نادرة، يمكن أن تظهر عند شخص متلازمة شلل تامloccked-insyndrome لعضلات الجسم الإرادية). ومن ثم يمكن أن تتطور حالة المريض إلى حالة الوعي الدنيا minimally consciousstate ليتبعها استرجاع الوعي أو البقاء في الحالة الإنباتية على الدوام. وبالمقارنة مع أشخاص في الحالات العقلية الأخرى (في اليسار) يمتلك المرضى الإنباتيون مستوى عاليا من اليقظة، فخلافا للأفراد المسبوتين (الذين هم في حالة غيبوبة) comatoses فإنهم يمتلكون دورات نوم ويقظة دون أن يمتلكوا أي شعور واعٍ يُميّز اليقظة الواعية السويّة.


منطقة الوعي(*****)

ربما كانت أكثر الطرائق الواعدة فيما يخص استقصاء الحالة الإنباتية تتمثل في التصوير العصبي الوظيفي functional neuroimaging. فقد أظهرت الدراسات التي تستخدم التصوير المقطعي بالإصدار الپوزيتروني (أو اختصاراPET ) أن النشاط الاستقلابي في الدماغ، مقيسا باستهلاك الغلوكوز، يتناقص في الحالة الإنباتية إلى ما دون نصف القيم السويَّة. ولقد أُجْريت هذه التجارب لأول مرة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي من قبل مجموعة بقيادة <F.بلوم> [من كورنل]، ثم كرّرتها لاحقا بضع مجموعات أوروبية، بما في ذلك مجموعتنا البحثية. بيد أن بعض المرضى الذين يستفيقون من هذهِ الحالة الإنباتية لا يبدون أيّة تغيُّرات كبيرة في الاستقلاب الدماغي العام حسبما ذكر مختبرنا في أواخر تسعينات القرن الماضي.
 
إضافة إلى ذلك، لاحظنا أن بعض الواعين تماما، والمتطوعين الأصحاء، يتصفون بقيم استقلاب دماغي إجمالية تضاهي القيم التي تشاهد لدى بعض مرضى الحالة الإنباتية. فقد ذكر <شيف> أن عددا صغيرا من مرضى الحالة الإنباتية هم ذوو استقلاب قشري دماغي مقارب جدا للحالة السوية. ولذلك، لا يشير قياس المستويات الإجمالية لاستهلاك الطاقة في دماغ المرضى إلى وجود وعي لديهم.
 
بيد أن مجموعتنا استطاعت تحديد باحات في الدماغ يبدو أنها مهمّة بشكل خاص لنشوء الوعي. فبالمقارنة بين مرضى في الحالة الإنباتية ومجموعة كبيرة من متطوعين أصحاء، وجدنا نقصا ملموسا في النشاط الاستقلابي لدى شبكة واسعة الانتشار من القشرات المخيّة الترابطيّة ذات الحواسِّية المتعدِّدة polymodal associative cortices (المتوضعة في الفصين الجبهي والجداري من الدماغ) التي تضطلع بالمعالجة المعرفية للمعلومات الحسية [انظر المؤطر في الصفحة 50]. لقد بينّا أن الشعور الواعي له صلة كذلك بما يسمى التخاطب cross talk أو الاتصالية الوظيفية functional connectivity داخل هذهِ الشبكة الجدارية الجبهية، ويرتبط بمراكز أكثر عمقا في الدماغ ولاسيما المهاد thalamus. ونشير هنا إلى أن الاتصالات من مسافة بعيدة (لدى مرضانا الإنباتيين) بين إحدى القشرات المخيّة والأخرى وكذلك الوصلات بين القشرات المخيّة والمهاد تبدو معطّلة. إضافة إلى ذلك، يترابط الشفاء من الحالة الإنباتية بالاسترجاع الوظيفي لهذهِ الشبكة الجدارية الجبهية ولاتصالاتها.
 
ولسوء الحظ، يبدو أن مرضى حالة الوعي الدنيا minimally conscious state يُظْهِرون خللا وظيفيّا مخِّيّا مشابها. ونتيجة لذلك، لا تستطيع قياسات التصوير PET للاستقلاب الدماغي أن تميِّز بين الحالة الإنباتية وحالة الوعي الدنيا، وذلك حين يكون المريض هادئا. ومع ذلك، فقد كشفت هذه التقنية فروقا فعلية لدى تحليل التغيُّرات الحاصلة في الوظيفة التي تسبِّبها منبهات خارجية مثل الألم والكلمات المنطوقة.
 
لقد درسنا الإدراك الشعوري للألم عن طريق تنبيه اليد كهربائيّا (وهو ما يختبره الأفراد الأصحاء من المجموعة الشاهدة على أنه مؤلم) وعن طريق التصوير PET لقياس التدفق الدموي المخيِّ الذي يعد علامة أخرى على النشاط العصبي. وهنا أشارت النتائج لدى مرضى الحالة الإنباتية وأفراد المجموعة الشاهدة كليهما إلى وجود نشاط في جذع الدماغ brain stem والمهاد والقشرة المخيّة الحسية الجسمية الأوّلية somatosensory cortex التي تستقبل المعلومات الحسّية من الأعصاب المحيطية. أما باقي الدماغ لدى مرضى الحالة الإنباتية، فقد أخفق في الاستجابة. ويشار إلى أن هذه المنطقة القشرية الصغيرة التي أظهرت ذلك النشاط (أي القشرة الحسية الجسمية الأوّلية) جرى عزلها عن باقي الدماغ، ولاسيما عن الشبكات التي يعتقد أنها ضرورية للإحساس الواعي بالألم. (وهذهِ النتائج تستطيع أن تؤكد لأفراد عائلة مرضى الحالة الإنباتية والمرافقين لهم، أن هؤلاء المرضى لا يحسّون بالألم بالطريقة نفسها التي يحسُّ بها الأصحاء.)

وبهذهِ المناسبة، وجدت دراسات التصوير المقطعي بالإصدار الپوزيتروني(PET) نموذجا مشابها حين تحدثنا إلى مرضى بالحالة الإنباتية. فعلى غرار ما جرى بخصوص التنبيه الحسي الجسمي، اقتصر النشاط على المراكز القشرية الدماغية الدنيا (وهي القشرات المخيّة السمعية في هذا المثال)، في حين أخفقت الباحات المخيّة الراقية ذات الحواسية المتعددة polymodal في الاستجابة وبقيت مفصولة من الناحية الوظيفية. ونشير هنا إلى أن هذا المستوى من المعالجة المخيّة لا يُعد كافيا للشعور الواعي السمعي. بيد أن المنبهات السمعية في مرضى الوعي الأدنى تستطيع قدح نشاطٍ قشريّ مخيٍّ راقي المستوى وكبير المقياس لا يشاهد عادة في الحالة الإنباتية. وقد كان <شيف> أول من استخدم التصوير التجاوبي المغنطيسي الوظيفي(fMRI) على مرضى في حالة الوعي الدنيا، وبيَّن أن شبكاتهم اللغوية تنشَّطت أثناء عرض قصة شخصية هادفة يؤديها صوت مألوف على مسامعهم. ولدى إعادة عرض القصة عبر آلة التسجيل، فإنها لم تستثر مثل هذهِ الاستجابة، في حين فعلت ذلك لدى الأفراد الأصحاء في المجموعة الشاهدة.
 


(******)نظرة متفحصة للتلف 


 
تبدي أدمغة مرضى الحالة الإنباتية فقدانات متميِّزة في النشاط الاستقلابي مقيسة باستهلاك الغلوكوز في الأنسجة. فالمناطق الكائنة في القشرة أمام الجبهية والقشرة الجدارية (باللون الأرجواني) تكون أقل نشاطا بشكل كبير لدى مرضى الحالة الإنباتية. ويمكن أن يكون الخلل الوظيفي إما نتيجة للتلف القشري أو نتيجة لتمزُّق الوصلات (الأسهم الحمراء) بين هاتين القشرتين والمهاد. فهذهِ الاتصالات هي على ما يبدو حاسمة في موضوع الإدراك الشعوري الواعي.

وعلى نحو مشابه، ذكرت مجموعتنا البحثية في عام 2004 أن المنبهات السمعية ذات القوة الانفعالية emotional power (مثل بكاء الأطفال واسم المريض بالذات) تستثير تنشيطا واسعا لدى مرضى الوعي الأدنى يفوق ما تفعله الضوضاء الفارغة. وهنا تشير هذهِ النتائج إلى أهمية المحتوى حين مخاطبة مريض الوعي الأدنى. ولكننا، من أجل تطوير هذهِ التقنية إلى أداة تشخيصيَّة، وجدنا أنه علينا تبيين أن المنبهات السمعية المعقدة لا تنشِّط أبدا الشبكات على نطاق واسع لدى مرضى الحالة الإنباتية.
 
وقد واجهت هذهِ الفرضية أصعب اختبار لها في عام 2006 حين أجرى فريق بحثي بقيادة <A.أوين> [من جامعة كامبردج] بالتعاون مع <M.بويل> [من مجموعتنا] دراسة على امرأة عمرها 23 سنة تعاني أذيّة رضِّيَّة في مقدمة دماغها إثر حادث مروري. لقد بقيت هذه المرأة في غيبوبة ما يزيد على أسبوع، ثم تطورت حالتها إلى حالة إنباتية. لقد كانت تفتح عينيها بشكل عفوي ولكنها لم تستجب أبدا لأية أوامر لفظية verbal أو غير لفظية.
 
وبعد مرور خمسة أشهر على الحادث قام <أوين> وزملاؤه بدراسة دماغ هذهِ المرأة باستخدام التصوير fMRI ـ وأثناء ذلك المسح scanning عرضَ الباحثون صوت تسجيلات لجمل منطوقة مثل: «هناك حليب وسكر في قهوته»، وذلك إلى جانب أصداء ضوضائية تضاهي صوتيّا تلك الجمل. فوجدوا أن الجمل المنطوقة قَدََحَت نشاطا في التلفيفين الصدغي الأوسط والعلوي لدماغها، الأمر الذي يتضمن فهم الكلام ومعنى الكلمات، مع العلم بأن النموذج نفسه شوهد لدى الأفراد الأصحاء في المجموعة الشاهدة. وربما تشير هذهِ النتائج إلى حدوث معالجة لغوية lingnistic processing واعية لدى هذهِ المرأة الإنباتية، ولكن ليس بالضرورة. فقد أظهرت الدراسات على الأصحاء أن مثل هذهِ المعالجة قد تحدث أيضا في أثناء النوم وحتى تحت التخدير العام.
 
ولإيضاح ما إذا كانت هذهِ المريضة تستجيب بشكل واعٍ للُّغة، أجرى أولئك الباحثون دراسة ثانية طلبوا فيها إلى المريضة أداء مهام تخيُّلية عقلية. فعندما طُلب إليها أن تتخيّل أنها تلعب كرة المضرب (التنس)، أظهرت مسوحات التصوير التجاوبي المغنطيسي الوظيفي(fMRI) نشاطا في الباحة المحرِّكة العلوية من دماغها، وذلك على غرار ما حدث لدى أفراد المجموعة الشاهدة تماما. وحينما طُلب إلى هذهِ المريضة أن تتخيّل المشي داخل غرف منزلها، أظهرت المسوحات نشاطا في الشبكة العصبية المعنيّة بالتجوال الحيِّزي spatial navigation، وهي القشرات المخيّة أمام المحركة premotor والجدارية parietal وجانب الحُصَينيّة parahippocampal، وهنا أيضا كانت الاستجابة متميِّزة من تلك التي تشاهد لدى الأفراد الأصحاء. وعلى الرغم من إفادة التشخيص السريري بأن المريضة كانت في حالة إنباتية، فإنها فهمت هذهِ المهام وأنجزتها بشكل متكرر، مما يعني أنها كانت واعية.


(*******)علامات التعافي 

أظهر التصوير العصبي الوظيفي لامرأة عمرها 23 عاما مصابة بتلف دماغي (الصورتان العلويتان) نشاطا في الباحة المحركةmotor area حين طُلب إليها أن تتخيل أنها تلعب كرة المضرب (التنس)، كما أظهر تنشيطا لشبكة التجوال الحيّزي spatialnavigation network العصبية حين طلب إليها أن تتصور أنها تمشي داخل منزلها. وقد شوهدت مثل هذهِ الاستجابات لدى الأفراد الأصحاء من المجموعة الشاهدة (الصورتان السفليتان)، مما يشير إلى أن هذهِ المرأة كانت تبدأ العبور من الحالة الإنباتية إلى حالة الوعي الدنيا.


إن أول استفسار طرحته هذهِ النتائج المثيرة يتعلّق فيما إذا كان قد حصل خطأ في تشخيص المريضة. فمع أن التقديرات الخبيرة المتكررة أكّدت أن المريضة كانت في حالة إنباتية أثناء فترة دراسة الأمر، فقد كشفت الفحوصات أن عينيها كانتا تتثبَّتان بشكل خاطف على الأشياء. صحيح إن هذا الأمر يشاهد أحيانا في الحالة الإنباتية، ولكنه أمر غير نمطيٍّ atypical، ويجب أن يستحثّ الأطباء على البحث عن علامات أخرى للشعور الواعي. وفي فحص ثانٍ بعد حوالي ستّة أشهر من هذهِ الدراسة استطاعت المريضة تثبيت عينيها فترة استدامت أكثر من خمس ثوانٍ على أحد الأشياء، واستطاعت تكوين صورة تخصُّها لهذا الشيء. وتبشر هاتان العلامتان كلتاهما بعبور إلى حالة الوعي الدنيا. ونذكر في هذا الصدد أن المريضة لا تزال حاليّا في أدنى حدود الوعي بحيث تنفذ الأوامر أحيانا ولكنها لا تتفاعل مع ما حولها.
 
وبأخذنا في الاعتبار سن المريضة الشابة وسبب وديمومة حالتها الإنباتية، عرفنا منذ البداية أن فرص شفائها لم تكن صفرا بل كانت واحدا من خمسة تقريبا. ولذلك لا يجوز سوء تأويل نتائج هذهِ الدراسة واعتبارها دليلا على أن جميع مرضى الحالة الإنباتية المزمنة يمكن اعتبارهم واعين فعليّا. وفي الحقيقة، فإننا لم نشاهد أي علامات شعور واعٍ مشابهة في المسوحات الوظيفية لأكثر من 60 مريضا إنباتيّا آخر قامت جامعة لييج في بلجيكا بدراستهم. ولعل أكثر التفسيرات احتمالا لهذه النتائج يتمثّل في أن مريضتنا ذات الثلاث والعشرين سنة عمرا كانت قد شرعت في العبور إلى حالة الوعي الدنيا أثناء فترة التجربة. وبالفعل، فقد أكّدت دراسة حديثة أجراها <D.هايبو> [من جامعة شيانغ في الصين] وزملاؤه أن تنشيط المناطق الدماغية من المستوى الأعلى في أثناء اختبارات التصوير التجاوبي المغنطيسي الوظيفي تستطيع التنبُّؤ بالانتقال إلى حالة الوعي الدنيا.
 
تشكِّل هذهِ الاكتشافات المتحقِّقة مسألة عويصة. صحيح إننا تعلمنا الكثير من تقنيات التصوير الجديدة التي تقيس النشاط العصبي لدى مرضى الأذيات الدماغية، ولكننا بحاجة إلى المزيد من الأبحاث قبل أن يستطيع العلماء استخدام التصوير العصبي الوظيفي(13) لتأكيد تشخيص الحالة الإنباتية والمساعدة على تشخيص مستقبل المرض ومعالجة هذهِ الحالة الطبيِّة المدمِّرة. أما في الوقت الراهن فلا بد من أن يستمر الأطباء في الاعتماد على الفحوص السريرية الدقيقة حين اتخاذ قراراتهم العلاجية الصعبة.


المؤلف

Staven Laureys

  يقود فريق بحث الغيبوبة في مركز أبحاث السيكلوترون بجامعة لييج في بلجيكا. حصل على دكتوراه في الطب.M. D من جامعة بروكسل الحرة في عام 1993 وعلى دكتوراه فلسفة من جامعة لييج في عام 2000. وتم تمويل بحثه من قبل الصندوق الوطني البلجيكي للأبحاث العلمية والمفوضية الأوزونية ومؤسسة العلوم العقلية. ومؤخرا نشر <لوريز> كتابه «حدود الوعي: البيولوجيا العصبية والباثولوجيا العصبية» The Boundaries of Cansciousness: Neurobiology and Neuropathology.
 

  مراجع للاستزادة

The Vegetative State: Medical Facts, Ethical and Legal Dilemmas, B.Jennett. Cambridge University Press, 2002.

Science and Society: Death, Unconstiousness and the Brain. Steven Laureys in Nature
Reviews Neuroscience, Vol, 6, No. 11, pages B99—909; November 2005.

Detecting Awareness in the Vegetative State.A. M. Owen, M. R. Coleman, M. Boly, M. H. Davis,
S. Laureys and J. D. Pickard in Science, Vol. 313, page 1402, September 8, 2006.


(*)EYES OPEN, BRAIN SHUT
(**)Overview/ The Vegetative State
(***)A Difficult Diagnosis
(****)AWAKE BUT NOT AWARE
(*****)A Consciousness Region
(******)VIEWING THE DAMAGE
(*******)SIGNS OF RECOVERY


(1) vegetative state
(2) brain trauma أو رضّ دماغي.
(3) Multi-Society Task Force
(4) clinical category
(5)minimally conscious state
(6) Sensory Modality Assessment Rehabilitation Technique
(7) noncommunicative patients
(8) structural imaging of the brain
(9) MRI diffusion tensor imaging
(10) (the electroencephalogram (EEG
(11) brain death
(12) potential P300
(13) functional neuroimaging
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق