Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

لماذا ننام



لماذا ننام(*)
يتناقص بالتدريج ما يكتنف أسباب نومنا من غموض
<M.J. سيگل>

أمر تفعله الطيور وكذلك النحل، وحتى ذباب الفاكهة يبدو أنه يفعله، أما البشر فيفعلونه حتما. إن الموضوع ليس الحب والغرام، بل النوم. وقد أنشد <S.C .پانزا> يمتدح النوم باعتباره «الغذاء الذي يعالج كل جوع، والماء الذي يطفئ كل عطش، والنار التي تدفئ البرد، والبرد الذي يهدئ القلب...، والثقل الموازن الذي يسوي بين راعي الغنم وصاحب المُلْك وبين الرجل الساذج والرجل الحكيم.»

لطالما تفكَّر الساذج والحكيم في سؤالين على صلة بهذا الأمر: ما هو النوم، ولماذا نحتاج إليه؟ ولعل الإجابة الواضحة عن السؤال الثاني هي أن النوم الكافي ضروري لبقاء الإنسان يقظا ومحترسا. ولكن تلك الإجابة تزوغ عن الموضوع وهي كالقول بأنك إنما تأكل لتتفادى الجوع أو تتنفس لتتقي مشاعر الاختناق. فالوظيفة الحقيقية للأكل تتمثل في تقديم المغذيات مثلما تتمثل وظيفة التنفس في إدخال الأكسجين وطرد ثنائي أكسيد الكربون. بيد أننا لا نملك تفسيرا مشابها صريحا للنوم. وأبحاث النوم التي بدأت منذ أقل من قرن واحد باعتبارها مجالا محددا للتحري العلمي، طرحت للباحثين ما يكفي من التبصرات لتقديم اقتراحات معقولة حول وظيفة حالة النعاس التي تستهلك ثلث حياتنا.

ما هو النوم؟(**)
تُعد المقولة الشهيرة التي أطلقها <P .ستيوارت> [قاضي المحكمة العليا الأمريكية] عن الفُحش ـ «أعرفه حين أراه» ـ مرشدا مفيدا وإن كان ناقصا فيما يخص النوم. وبغض النظر عن الصعوبة في تعريف النوم تعريفا دقيقا، يستطيع المراقب في العادة أن يقول متى يكون الفرد نائما: يبدي النائم في الحالة العادية غفلة نسبية عن بيئته، وعادة ما يكون بلا حراك. (بيد أن الدلافين وبعض الثدييات البحرية الأخرى تسبح وهي نائمة، كما يمكن أن تنام بعض الطيور أثناء هجراتها الطويلة).

في عام 1953 قوض رائد أبحاث النوم <N .كلايتمان> وتلميذه <E .أزيرينسكي> [من جامعة شيكاگو] وبشكل حازم، الاعتقاد الذي كان سائدا بأن النوم ما هو إلا توقف لمعظم النشاط الدماغي. فقد اكتشفنا أن النوم يتميز بفترات من الحركة العينية السريعة تُعرف باسم النوم الرِّيْمي REM sleep 1. وينطوي وجودها على أن شيئا ما فاعلا يحدث أثناء النوم. ونشير هنا إلى أن جميع ثدييات اليابسة التي تم فحصها تبدي في دورة نظامية نوما ريميا يتناوب مع نوم لارِيْمي non-REM sleep يدعى أيضا النوم الهادئ.

وفي الآونة الأخيرة، حقق هذا المجال أعظم تقدم له في توصيف طبيعة النوم على مستوى الخلايا العصبية (العصبونات) في الدماغ. ففي العشرين سنة الماضية استعمل العلماء تقنيات لإدخال أسلاك ميكروية دقيقة (لا يتجاوز قطرها 32 ميكرونا، فهي أرفع من شعرة من شعر البشر) في مناطق دماغية مختلفة. ولا تولّد مثل هذه الأسلاك أي ألم بعد اغتراسها. كما تم استخدامها في البشر وفي تشكيلة واسعة من حيوانات المختبر التي استمرت تزاول أنشطتها المعتادة بما في ذلك النوم. وقد أظهرت هذه الدراسات، مثلما هو متوقع، أن معظم العصبونات الدماغية تكون في مستويات نشاطها القصوى (أو بالقرب منها) حينما يكون الفرد يقظا. أما الأداء العصبوني أثناء النوم فإنه متغيّر بشكل مذهل. فعلى الرغم من التشابه أثناء النومين الريمي واللاريمي في وضعية جسم النائم وعدم انتباهه إلى البيئة المحيطة، فإن دماغ النائم يتصرف بشكل مغاير تماما في هاتين الحالتين.

نظرة إجمالية/ كشف بعض أسرار النوم(***)
  لايزال الباحثون يناقشون وظيفة النوم الريمي والنوم اللاريمي وسبب احتياجنا إليهما؛ بيد أن الاكتشافات الجديدة توحي ببضع فرضيات معقولة.
   ترى إحدى هذه الفرضيات أن النشاط المخفض أثناء النوم اللاريمي يمكن أن يمنح الخلايا الدماغية فرصة لترميم نفسها.
   وترى فرضية أخرى أن الإطلاق المتقطع لنواقل عصبية (تدعى الأمينات الأحادية) أثناء النوم الريمي يمكن أن يتيح للمستقبلات الدماغية لتلك الكيماويات أن تتعافى وتستعيد الحساسية الكاملة التي تفيد في تنظيم المزاج والتعلم.
   ويمكن للنشاط العصبوني الكثيف أثناء النوم الريمي خلال الحياة المبكرة أن يتيح للدماغ النمو على نحو سوي.

أثناء النوم اللاريمي تَفْعل الخلايا في المناطق الدماغية المختلفة أشياء مختلفة جدا. فمعظم العصبونات في جذع الدماغ، الواقع فوق الحبل (النخاع) الشوكي مباشرة، تُخفِّض اضطرامَها firing أو تتوقف عن الاضطرام، في حين لا تخفض معظم العصبونات الموجودة في قشرة المخ، وفي مناطق الدماغ الأمامي القريبة من جذع الدماغ، نشاطها إلا بمقدار صغير. وما يتغير بشكل مثير هو النمط الإجمالي لذلك النشاط. فأثناء حالة اليقظة، يعكف العصبون تقريبا على عمله الفردي الخاص. أما أثناء النوم اللاريمي فإن العصبونات القشرية المخية القريبة من جذع الدماغ تضطرم بشكل متزامن synchronously وبإيقاعٍ قليل التواتر نسبيا. (ويبدو من قبيل التناقض الظاهري أن هذا النشاط الكهربائي المتزامن يولد موجات دماغية أعلى ڤلطية مما يحدث في حالة اليقظة؛ إلا أنه، على غرار ما يجري في سيارة يدور محركها وهي واقفة، (أي في حالة تباطؤ أو لاحمل)، فإن الدماغ حينما يكون في الحالة نفسها، يستهلك طاقة أقل مما يستهلكه في حالة اليقظة). ونشير هنا إلى أن التنفس وضربات القلب يميلان لأن يكونا منتظمين تماما أثناء النوم اللاريمي، كما يندر حدوث أحلام زاهية أثناء هذه الحالة.

النوم والحلم واليقظة
يختلف نمطا النوم: الريمي واللاريمي في عدة نواح، نورد بعضها فيما يلي، مع واحدة من الوظائف المقترحة لكل من هذين النمطين.
  حالة يقظة
عصبونات تشغيل النوم هامدة
 النوم اللاريمي
عصبونات تشغيل النوم في الدماغ الأمامي تضطرم
 النوم الريمي
عصبونات تشغيل النوم الريمي في جذع الدماغ تضطرم
 تخرب الجذور الحرة الأغشية الخلوية حينما تكون العصبونات ناشطة كما هي حالنا أثناء اليقظة
 يمكن للنوم اللاريمي أن يتيح للخلايا أن ترمم الأغشية التي تخربها الجذور الحرة
 تكون مستقبلات معينة غير ناشطة أثناء النوم الريمي، الأمر الذي قد يكون ضروريا لعملها الناجح أثناء حالة اليقظة

هناك مجموعة صغيرة جدا من الخلايا الدماغية (قد لا يتعدى تعدادها مئة ألف خلية لدى البشر) تقع عند قاعدة الدماغ الأمامي وتكون في ذروة النشاط أثناء النوم اللاريمي فقط. وقد دُعيت هذه الخلايا باسم عصبونات تشغيل النوم sleep-on neurons. ويبدو أنها المسؤولة عن الحث على النوم. ولئن كنا حتى الآن لا نفهم تماما الإشارات الدقيقة التي تُنشط عصبونات تشغيل النوم هذه، إلا أننا نعلم أن حرارة الجسم الزائدة حينما يكون الفرد يقظا تنشّط بوضوح بعض هذه الخلايا، الأمر الذي قد يفسر النعاس الذي غالبا ما يرافق الاستحمام بالماء الساخن أو قضاء يوم صيفي على شاطئ البحر.

حساب ساعات النوم(****)
يبدو أن حجم الجسم يعتبر محددا رئيسيا لفترة النوم التي يحتاج إليها كل نوع من الأنواع الحيوانية. وبشكل عام كلما كبر حجم الحيوان قل ما يتطلبه من النوم. وتوحي البيانات بأن إحدى وظائف النوم تتمثل في ترميم عطب الخلايا الدماغية؛ فمعدلات الاستقلاب العالية لدى الحيوانات ذات الحجم الصغير تفضي إلى عطب خلوي متزايد يتطلب بالتالي زمنا أطول لترميمه.

وبالمقابل، يشبه نشاط الدماغ أثناء النوم الريمي نشاطه أثناء اليقظة. وتبقى موجات الدماغ عند ڤلطية منخفضة لأن العصبونات تسلك سلوكا إفراديا. وتكون معظم الخلايا الدماغية في كل من منطقتي الدماغ الأمامي وجذع الدماغ نشيطة تماما بحيث ترسل إشارات إلى الخلايا الدماغية الأخرى بمعدلات تساوي أو تفوق المعدلات الملحوظة في حالة اليقظة. أما الاستهلاك الدماغي الإجمالي للطاقة أثناء النوم الريمي فإنه يساوي في مقداره ما يستهلكه الدماغ أثناء اليقظة. هذا ويرافق النشاط العصبوني الأعظمي، النفضات العضلية المألوفة والحركات العينية التي تمنح النوم الريمي اسمه: حركات العين السريعة (أو الريم) rapid eye movement. أما الخلايا المتخصصة الواقعة في جذع الدماغ والمعروفة باسم خلايا تشغيل النوم الريمي فإنها تنشط بشكل خاص أثناء النوم الريمي، وتبدو في الحقيقة مسؤولة عن توليد هذه الحالة.

تحدث أزهى أحلامنا أثناء النوم الريمي، ويتصاحب النوم بتنشيط متكرر لمنظومات الدماغ الحركية، التي لا تعمل فيما عدا ذلك إلاّ أثناء حركة اليقظة. ولحسن الحظ، تتثبط معظم الحركات أثناء النوم الريمي بفعلين كيميحيويين متممين يستلزمان نواقل عصبية neurotransmitters. وهذه الأخيرة هي كيماويات تنقل الإشارات فيزيائيا من عصبون إلى آخر عند المِشبك (نقطة التماس عند العصبونين). ويتوقف الدماغ عن إطلاق النواقل العصبية التي ستنشّط لولا ذلك العصبونات الحركية (العصبونات الدماغية التي تتحكم في العضلات)، ويبعث بنواقل عصبية أخرى غيرها تُوقف عمل تلك العصبونات الحركية. بيد أن هاتين الآليتين لا تؤثران في العصبونات الحركية التي تتحكم في حركات العينين وتسمح بحدوث الحركات العينية السريعة التي تعطي مرحلة النوم الريمي اسمها.

النوم الريمي هو الأحجية المشهورة المغلفة بسر داخل لغز.
ويؤثر النوم الريمي كذلك بشكل عميق في المنظومات الدماغية التي تتحكم في أعضاء الجسم الداخلية. فعلى سبيل المثال، يصبح التنفس ومعدل ضربات القلب غير منتظمين أثناء النوم الريمي، تماما كحالتهما أثناء اليقظة. وكذلك، تصبح درجة حرارة الجسم أقل دقة في انتظامها وتنجر باتجاه درجة حرارة الوسط (البيئة) مثلما هي حال الزواحف. يضاف إلى ذلك، أن العضو الذكري كثيرا ما ينتصب، ويحدث لدى الإناث تضخم في البظر clitoris مع أن معظم مضمون الحلم ليس جنسيا.

إن هذا الوصف الوجيز للنوم على المستوى العياني والمستوى العصبوني دقيق ولكنه غير شاف. ويبقى السؤال المحير قائما: ما هي غاية النوم؟

وظيفة النوم(*****)
علق أحد الحضور في مؤتمر حديث عن النوم بأن وظيفة النوم تبقى سرا من الأسرار. وقد جادلتْ رئيسة الجلسة بحدة ضد ذلك الموقف ولكن من دون أن تقدم تصورا ماديا مضبوطا لما جعل وظيفةَ النوم أمرًا لم يعد يكتنفه الغموض. من الواضح أنه ليس ثمة اتفاق عام حول الموضوع؛ ولكني أستطيع بالاستناد إلى الأدلة المتاحة حاليا أن أقدم ما يشعر العديد منا بأنه فرضيات معقولة.

يتمثل أحد المداخل لدراسة وظيفة النوم في تفحص التغيرات الفيزيولوجية والسلوكية الناجمة عن الافتقار إلى النوم. فمنذ أكثر من عقد من الزمن تبين أن الحرمان الكامل من النوم عند الفئران يفضي بها إلى الموت. وتبدي هذه الحيوانات نقصانا في الوزن على الرغم من استهلاكها المُسرف للطعام، مما يوحي بفقد مفرط للحرارة. ولأسباب مازلنا بحاجة إلى تبيانها، تموت هذه الحيوانات أسرع (بما مقداره 10-20 يوما) فيما لو حُرِمت تماما من الطعام مع بقاء نومها اعتياديا.

يؤدي مرض دماغي تنكسي نادر جدا لدى البشر (يدعى الأرق العائلي المميت) إلى الموت بعد بضعة أشهر من الإصابة به. ولا يتضح ما إذا كان فقدان النوم في حد ذاته مميتا، أم أن اللائمة تقع في هذا الشأن على نواح أخرى من التلف الدماغي. وقد توصلت دراسات الحرمان من النوم لدى البشر إلى أن النعاس يزداد حتى في حالة الاختزالات الصغيرة من أوقات النوم ليلا. ويساوي النعاس أثناء قيادة السيارة (أو أثناء الأنشطة الأخرى التي تتطلب يقظة مستمرة) في خطورته خطورة تناول الكحول قبل تلك المهمات. ولكن الأدلة الحالية تشير إلى أن «مساعدة» الناس على زيادة زمن النوم عن طريق تناول حبوب منوِّمة لفترة طويلة لا يقدم فائدة صحية واضحة، وربما يقلل في الواقع من طول الحياة. (ونشير هنا إلى أن نوم سبع ساعات في الليلة يتلازم مع طول حياة أكبر لدى البشر). هذا وإن الدافع للنوم أمر يتعذر رده إلى درجة أن تحقيق الحرمان الكامل من النوم يتطلب تنبيها شديدا ومتكررا. ولذلك فإن الباحثين الذين يستخدمون الحرمان من النوم في دراستهم لوظيفة النوم، سرعان ما يجابهون صعوبة التمييز بين التأثيرات الناجمة عن الإجهاد والتأثيرات الناجمة عن نقص النوم.

وكذلك يدرس الباحثون عادات النوم الطبيعي لدى تشكيلة منوعة من الكائنات (المتعضيات). وثمة دالة مهمة حول وظيفة النوم هي التفاوت الهائل في مقدار النوم الذي تحتاج إليه الأنواع الحيوانية المختلفة. فعلى سبيل المثال ينام الأپوسوم(2) opossum ثماني عشرة ساعة يوميا في حين يكتفي الفيل بثلاث ساعات أو أربع. ويُتوقع أن يكون للأنواع الحيوانية ذات القرابة الوثيقة فيما بينها، التي تمتلك تشابهات وراثية وفيزيولوجية وسلوكية، عادات نوم متشابهة. ولكن الدراسات على حيوانات المختبر وحدائق الحيوان والحيوانات الوحشية كشفت أن أزمان النوم لا تتعلق بالوضع التصنيفي للحيوانات: فمقدار أزمان نوم الرئيسات المختلفة يتداخل ونظيره عند القوارض، الذي يتداخل بدوره ونظيره عند اللواحم، وهلم جرا على امتداد رتب عديدة من الثدييات. فإذا لم تكن القرابة التطورية تحدد زمن النوم، فما الذي يفعل ذلك إذًا؟
يتمثل الجواب الاستثنائي في أن الحجم هو المحدد الرئيسي، بمعنى أن الحيوانات الأكبر حجما تحتاج إلى نوم أقل. فالفيلة والزرافات والرئيسات الكبيرة (مثل الإنسان) تتطلب نوما أقل نسبيا، فيما تقضي الجرذان والقطط وفئران الحقل والحيوانات الصغيرة الأخرى معظم وقتها نائمة. ومن الواضح أن السبب يرتبط بحقيقة أن الحيوانات الصغيرة تكون ذات معدلات استقلاب (أيض) ودرجات حرارة جسمية ودماغية أعلى مما هو عليه الحال في الحيوانات الكبيرة. ولما كان الاستقلاب عملية موسخة، إذ يولد جذورا حرة free radicals (وهي كيماويات شديدة التفاعل تخرِّب الخلايا، بل وتقتلها) فإن معدلاته العالية تفضي إلى إيذاء إضافي للخلايا وللحموض النووية والپروتينات والدهون بداخلها.

يمكن التعامل مع التلف الذي تحدثه الجذور الحرة في العديد من نسج الجسم بإحلال خلايا جديدة محل الخلايا المتضررة، وذلك بفضل الانقسام الخلوي. بيد أن معظم المناطق الدماغية لا تنتج أعدادا كبيرة من الخلايا الدماغية الجديدة بعد الولادة، (فيما عدا الحُصين hippocampus الضالع في التعلم والذاكرة والذي يُعد استثناء مهما في هذا الصدد). ويبدو أن المعدل الاستقلابي ودرجة الحرارة الدماغية المنخفضين أثناء النوم اللاريمي يعطيان فرصة للتعامل مع الضرر الحاصل أثناء اليقظة. فعلى سبيل المثال، يمكن للإنزيمات أن ترمم الخلايا بشكل أكثر فاعلية في أثناء فترات عدم النشاط. أو يمكن استبدال الإنزيمات القديمة التي غيَّرتها الجذور الحرة بحيث تحل محلها إنزيمات جرى اصطناعها حديثا تكون سليمة من الناحية البنيوية.

في السنة الفائتة (2002) لاحظتْ مجموعتي في جامعة كاليفورنيا ما نعتقد أنه الدليل الأول على تلف خلوي دماغي لدى الفئران ناجم كنتيجة مباشرة عن الحرمان من النوم. ويؤيد هذا الاكتشاف فكرة كون النوم اللاريمي يصد الضرر الاستقلابي.

أما النوم الريمي فهو الأحجية المشهورة المغلفة بسر داخل لغز. فلئن كانت فرضية الترميم الخلوي تستطيع تفسير النوم اللاريمي فإنها تخفق في تعليل النوم الريمي. ناهيك عن أن الترميم في زمن التوقف لا يستطيع أن يأخذ مجراه في معظم الخلايا الدماغية أثناء النوم الريمي حينما تكون هذه الخلايا ناشطة بالقدر الذي هي عليه أثناء اليقظة. إلا أن وجود مجموعة معينة من الخلايا الدماغية تعمل ضد هذا المنحى يعد أمرا ذا أهمية خاصة في البحث عن غاية ما للنوم الريمي.

ويجدر بالتذكر هنا أن إطلاق بعض النواقل العصبية يتوقف أثناء النوم الريمي، الأمر الذي يعطل حركات الجسم ويقلل الإحاطة بما يجري في الوسط من حولنا. ويطلق على النواقل العصبية الرئيسية المتأثرة (وهي النورإپينفرين والسيروتونين والهستامين) مصطلح الأمينات الأحادية(3) لكون كل منها يحتوي على كينونة كيميائية تدعى زمرة أمينية. وتكون الخلايا الدماغية التي تصنع هذه الأمينات الأحادية في أقصى نشاطها واستمراريته أثناء اليقظة. ولكن<D .مكگنتي> و<R .هارپر> [من جامعة كاليفورنيا] اكتشفا في عام 1973 أن هذه الخلايا تتوقف عن إفراز النواقل العصبية تماما أثناء النوم الريمي.

وفي عام 1988 تقدمت مع <M .روگاوسكي> [من المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة] بفرضية ترى أن توقف إطلاق النواقل العصبية أمر حيوي لصالح العمل السوي لهذه العصبونات ومستقبلاتها (والجزيئات الواقعة على الخلايا المتلقية recipient التي تعمل على نقل إشارات النواقل العصبية إلى داخل تلك الخلية). وتشير الدراسات المختلفة إلى أن الإطلاق الثابت للأمينات الأحادية يستطيع إزالة حساسية مستقبلات النواقل العصبية. وهكذا فإن إيقاف إطلاق الأمينات الأحادية أثناء النوم الريمي يمكن أن يتيح للمنظومات المستقبلة receptor systems أن «تستريح» وأن تستعيد حساسيتها الكاملة. هذا وربما تكون الحساسية المستعادة ضرورية أثناء اليقظة من أجل تنظيم المزاج mood، الأمر الذي يعتمد على التعاون الفعّال بين النواقل العصبية ومستقبلاتها. (ونشير هنا إلى أن مضادات الاكتئاب المألوفة: الپروزاك والپاكسيل والزولوفت وغيرها مما يدعى مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية (أو SSRIs) إنما تعمل من خلال تسببها بزيادة صافية في كمية السيروتونين المتاح للخلايا المتلقية).

وكذلك تؤدي الأمينات الأحادية دورا في إعادة تشبيك rewiring الدماغ استجابة لخبرات جديدة. إذًا، يمكن أن يكون توقيفها أثناء النوم الريمي وسيلة للحيلولة دون حدوث تغيرا في الوصائل connections الدماغية التي يمكن، لولا ذلك، أن تنشأ عن غير قصد نتيجة للأنشطة الكثيفة في الخلايا الدماغية أثناء الريم.

تبلغ فترة النوم الريمي أقصاها في وقت مبكر من الحياة ثم تقل بالتدريج.
وجدير بالاهتمام أن <J.P .شو> وزملاءه [في معهد العلوم العصبية بلاهويا في كاليفورنيا] لاحظوا في عام 2000 ارتباطا بين كميات الأمينات الأحادية وفترات الغفوة التي يكون أثناءها ذباب الفاكهة خاملا نسبيا. ووجدوا أن تعطيل وقت توقف downtime ذباب الفاكهة أدى إلى مستويات زائدة من الأمينات الأحادية، مثلما هي الحال لدى البشر. ويوحي هذا الاكتشاف بأن استعادة وظيفة النواقل العصبية، التي صارت في نهاية المطاف، سمة ما ندعوه اليوم نوما، ظهرت للوجود قبل تطور الثدييات على كوكب الأرض بزمن طويل.

احتمالات أخرى(******)
ما عساه أن يفعل النوم الريمي من أشياء أخرى؟ لقد اقترح باحثون مثل <F .سنايدر> و <Th .وير> [من المعاهد الوطنية للصحة] وكذلك <R .ڤيرتس> [من جامعة فلوريدا] أن النشاط المرتفع أثناء النوم الريمي للخلايا الدماغية التي لا تنخرط في إنتاج الأمينات الأحادية يمكِّن الثدييات من أن تكون أكثر جاهزية من الزواحف للتعامل مع الظروف الخطيرة. فعندما تصحو الزواحف في بيئة باردة تكون بليدة وتتطلب مصدرَ حرارة خارجيا لتصبح ناشطة ومستجيبة. ولكن مع أن الثدييات لا تنظم حرارتها أثناء النوم الريمي، فإن النشاط العصبوني الكثيف أثناء هذا الطور يمكنه أن يرفع المعدل الاستقلابي الدماغي، الأمر الذي يساعد الثدييات على رصد أي موقف معين والتعامل معه بسرعة عند اليقظة. ومما يدعم هذه الفكرة، ما يُلاحظ من أن البشر يكونون عند استيقاظهم أثناء النوم الريمي أكثر وعيا منهم لدى الاستيقاظ أثناء فترات النوم اللاريمي.

ولكن دراسات الحرمان من النوم تشير إلى أن النوم الريمي يجب أن يفعل أكثر من مجرد تهيئة الدماغ للاستيقاظ. فهذه الدراسات تُظْهِر أن الحيوانات التي حرمت من النوم الريمي، تستحوذ منه على أكثر من المعتاد حين تمنح الفرصة لذلك في نهاية المطاف. ويبدو أنها تسعى إلى تسوية «الدَّيْن»، وفي هذا دلالة أخرى على أن النوم الريمي شأن مهم. وبالطبع، لو أن استنهاض الدماغ هو الوظيفة الوحيدة للنوم الريمي، لكان باستطاعة الاستيقاظ أن يسد «الدين» أيضا باعتبار أن الدماغ اليقظ يكون أيضا دافئا ونشطا. ولكن من الواضح أن حالة اليقظة لا تنجز هذه المهمة. ولربما كان دَيْنُ النوم الريمي ناجما عن الحاجة إلى إراحة منظومات الأمينات الأحادية أو منظومات أخرى تتوقف عن العمل أثناء النوم الريمي.

لقد تم بشكل مقنع دحض الفكرة القديمة من أن الحرمان من النوم الريمي يسبب الجنون (مع أن الدراسات تظهر أن حرمان شخص ما من النوم عن طريق حثِّه (أو حثها) بشكل متكرر على البقاء في حالة اليقظة يمكن بلا ريب أن يسبب سرعة الانفعال). وفي الحقيقة، يستطيع حرمان النوم الريمي أن يُفرِّج الاكتئاب السريري فعلا. إن آلية هذه الظاهرة غير واضحة، ولكن أحد الاقتراحات يرى أن حرمان النوم الريمي يحاكي تأثيرات مثبطات إعادة امتصاص السيروتينين الانتقائية المضادة للاكتئاب، فبسبب عدم حدوث النقصان الطبيعي في الأمينات الأحادية النوم الريمي، يزداد التركيز المشبكي synaptic concentration للنواقل العصبية التي تُستنفد في الأفراد المكتئبين.

يتابع بعض الباحثين الفكرة القائلة بأن النوم الريمي قد يؤدي دورا في توطيد الذاكرة. ولكنني حين فحصت بالتفصيل (في مقالة لي في مجلة سيانس لعام 2001) أدلة تلك الوظيفة تبين لي ضعف تلك الأدلة وتناقضها. وتتضمن المكتشفات التي تجادل ضد توطيد الذاكرة الدليل الاختباري بأن المصابين بتلف دماغي يمنع من النوم الريمي أو الذين امتنع عليهم النوم الريمي نتيجة لتناول العقاقير، تكون ذاكرتهم طبيعية، بل ربما أفضل. ومع أن الحرمان من النوم قبل القيام بمهمة معينة إنما يفسد التركيز وحسن الأداء (بدليل أن الطلبة الناعسين لا يتعلمون أو يفكرون جيدا)، يبدو أن الحرمان من النوم الريمي بعد فترة من التعلم اليقظ لا تشوشه المعلومات الجديدة. يضاف إلى ذلك أن الدلافين لا تمارس النوم الريمي (أو تمارس القليل منه)، ومع ذلك فهي تبدي مقدرة مثيرة للإعجاب على التفكير المنطقي وعلى التعلم.

وفي الحقيقة، لا يظهر أن المقدرة على التعلم، عبر الأنواع الحيوانية، متعلقة بالأمد الكلي للنوم الريمي. فالبشر لا يمتلكون أزمان نوم ريمي طويلة مقارنة بالثدييات الأخرى، إذ تتراوح لدى البشر ما بين 90 و 120 دقيقة في كل ليلة. (ونذكر هنا أن البشر ذوي حاصل ذكاء IQ أو أداء مدرسي عالٍ، لا يتصفون بنوم ريمي يزيد أو يقل عن نظيره عند ذوي حاصل الذكاء المنخفض). بيد أن مقدار الزمن المستهلك في النوم الريمي يتغير خلال حياة الفرد. ففي جميع الحيوانات التي جرت دراستها يكون جزء اليوم المكرس للنوم الريمي أكبر ما يمكن في أوائل حياة الفرد، ثم ينخفض تدريجيا إلى مستو ثابت في سن البلوغ. وتبرز حقيقة إضافية مثيرة من مقارنة أنواع حيوانية عديدة: ذلك أن أفضل متنبئ لزمن النوم الريمي لدى بالغ ينتمي إلى نوع حيوان معين، هو درجة عدم نضج نسل ذلك النوع الحيواني عند ولادته.

في عام 1999 استطعت (مع<J .پيتيگرو> و< P. مانگر> من جامعة كوينزلاند في أستراليا) أن ندرس حيوانا هو خلد الماء(4) platypus. فقد فاجأنا هذا الثديي، الذي يعتبر الأقدم تطوريا بين الثدييات التي مازالت موجودة، إنه «بطل النوم الريمي»، فهو يقضي نحو ثماني ساعات يوميا في هذا النوم. ونشير هنا إلى أن خلد الماء هذا يولد أعمى ولا يملك أي وسيلة للحماية، ولا يقوى على التنظيم الحراري، كما لا يكسب طعامه بنفسه ويبقى مرتبطا بأمه أسابيع طويلة بعد الولادة. وعلى النقيض من ذلك تماما، نجد أن الدلفين الحديث الولادة يستطيع (بل ويجب عليه) تنظيم حرارته بنفسه، ويقوى على السباحة ومتابعة أمه، ويتفادى الضواري. وكما ذكرنا سابقا، فإن الدلافين البالغة لا تنام نوما ريميا إلى حد ما.

ويقدم <M .جوڤيه> [الباحث الرائد في موضوع النوم، والذي اكتشف قبل أربعة عقود أن جذع الدماغ يولد النوم الريمي] اقتراحا مثيرا حول المقادير الكبيرة من النوم الريمي لدى الحيوانات غير الناضجة، إذ يعتقد جوڤيت أن للنشاط العصبوني المكثف وصرف الطاقة في النوم الريمي دورا مبكرا في الحياة، وذلك بتأسيس الوصلات العصبونية المبرمجة جينيا والتي تجعل ما يدعى السلوك الغريزي ممكنا. فقبل الولادة، أو في الحيوانات التي تأخر التنامي الحسي لديها، يمكن أن يعمل النوم الريمي بديلا عن التنبيه الخارجي الذي يحفز التنامي العصبوني في المخلوقات التي تكون ناضجة عند الولادة. وتؤيد هذه الفكرة أبحاث <H .روفوارگ> [مدير مركز اضطرابات النوم في المركز الطبي بجامعة ميسيسپي] وزملائه. فقد وجد روفوارگ أن منع النوم الريمي لدى القطط أثناء هذه الفترة المبكرة يفضي إلى شذوذات في نماء الجهاز الإبصاري.

إن الحيوانات التي تمارس الكثير من النوم الريمي بعد الولادة بفترة قصيرة، تواصل ممارسة مقادير كبيرة منه نسبيا حين تنضج. وهنا نتساءل: ماذا عن عدم النضج عند الولادة الذي يجعل مدة النوم الريمي كبيرة في مرحلة لاحقة من الحياة؟ فمن منطلق تطوري بسيط، ينبغي أن تحتاج الحيوانات ذات الزمن الريمي المنخفض إلى كمية وقود أقل وإلى أن تخلِّف عدد ذرية أكبر، مقارنة بالحيوانات التي تمارس فترات طويلة من الاستهلاك الطاقي العالي. ومن ذلك المنظور، يبدو من المحتمل جدا أن تكون الحيوانات التي تمتلك أزمانا ريمية عالية قد طورت استخداما للنوم الريمي غير موجود لدى الحيوانات المبكرة النشاط. بيد أن تلك الوظيفة تبقى تنتظر التحديد. ويثق الباحثون بأن التقدم في تحديد مناطق الدماغ التي تتحكم في النومين الريمي واللاريمي سرعان ما سيقود إلى فهم أكثر شمولا وإقناعا حول النوم ووظائفه. وكلما تعمقنا في دراسة آليات النوم وتطوره فإننا ربما نحرز تبصرات دقيقة حول ما يجري ترميمه وإراحته، وحول سبب كون هذه السيرورات تتم على أفضل نحو أثناء النوم. ▪


 المؤلف
Jerome M. Siegel
أستاذ الطب النفسي وعضو معهد الأبحاث الدماغية في المركز الطبي لجامعة كاليفورنيا. ويشغل وظيفة رئيس أبحاث البيولوجيا العصبية في مركز سيپولڤيدا الطبي لشؤون المحاربين القدماء. وهو رئيس سابق لجمعية أبحاث النوم ورئيس جمعيات النوم المهنية المتحدة. أما فترة نومه الحالية ليليا، فإنها تقتصر على نحو ست ساعات بحيث يتمكن من أخذ ابنته إلى صف يبدأ دروسه في الساعة السابعة صباحا.


مراجع للاستزادة 
Encyclopedia of Sleep and Dreaming. Edited by Mary A. Carskadon. Macmillan, 1993.
Narcolepsy. Jerome M. Siegel in Scientific American, Vol. 282, No. l, pages 58-63; January 2000.
Principles and Practice of Sloop Medicine. Edited by Meir H. Kryger, Thomas Roth and William C. Dement. W. B. Saunders, 2000.
Sleep and Dreaming. Allan Rechtschaffen and Jerome M. Siegel in Principles of Neural Science. Fourth edition. Edited by Eric R. Kandel, James H. Schwartz and Thomas M. Jessell. McGraw-Hill/ Appleton & Lange, 2000.
The REM Sleep-Memory Consolidation Hypothesis. Jerome M. Siegel in Science, Vol. 294, pages 1058-1063; November 2, 2001.
Center for Sleep Research at U.C.L.A.: www.npi.ucla.edu/sleepresearch
Scientific American, November 2003

(*) WHY WE SLEEP
(**) What Is Sleep
(***) Overview/ Uncovering Sleep
(****) Sleepin, Dreaming, Working
(*****) Counting Sleep
(******) The Function of Sleep
(*******) Other Possibilities


(1) REM: rapid eye movements
(2) ثديي جرابي ينشط ليلا ويعيش بين الأشجار عادة، ذو شعر كثيف وخطم وذيل طويلان، موطنه أمريكا الشمالية. (التحرير)
(3)monoamines
(4) حيوان ثديي مائي ولود له منقار كمنقار البطة يعيش في أستراليا. (التحرير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق