Translate

الثلاثاء، 13 مارس 2012

استخدام الضوء للتحكم بالدماغ

استخدام الضوء للتحكم بالدماغ(*)
أصبح الباحثون قادرين على استقصاء تفاصيل غير مسبوقة لكيفية عمل الجهاز العصبي، وذلك باستخدام تقنية تُدعى الوراثيات الضوئية(1)،
 حيث توصلوا إلى نتائج يمكن أن تتمخض عنها أساليب علاجية أكثر فعالية للمشكلات النفسية.
<K. دايسيروت>


باختصار
   لأمد طويل، ظل علماء الجهاز العصبي neuroscientists يعانون الإحباط لأنهم لم يتمكنوا من استقصاء آلية عمل الدماغ بصورة تفصيلية ودقيقة كما يقتضي الأمر. وفجأة لاح في الأفق حل أنجبته الأبحاث الجينية الأساسية المعنية بدراسة المتعضيات الميكروية microorganisms التي تعتمد اعتمادا كليا - من أجل الحفاظ على حياتها - على بروتينات الأوپسين الحساسة للضوء.
   وانطلاقا من هذا المبدأ، أصبح العلماء اليوم قادرين على غرس جينات الأوپسين opsin genes في خلايا الدماغ واستخدام الوميض الضوئي لحث عصبونات معينة على الإضرام firing وفق الطلب، كما صاروا قادرين أيضا، وبفضل الوراثيات الضوئية(2)، على إجراء تجارب عالية الدقة تستهدف نوعا محددا من الخلايا في أدمغة الحيوانات الحية التي تتحرك بحرية، والتي لا يمكن فيها استخدام مسار كهربية electrodes وغيرها من الطرائق التقليدية.
   وعلى الرغم من أن الوراثيات الضوئية لا تزال في طفولتها الباكرة، فقد أخذت تزودنا بإمكانيات لاستبصار ما تنطوي عليه العلوم العصبية من أسس يقوم عليها عدد من الأمراض النفسية.

في كل يوم أقضيه كطبيب نفسي ممارس تَمْـثُل أمامي محدودية هذا المجال. وعلى الرغم من الجهود النبيلة التي يبذلها السريريون والباحثون، فإن محدودية استبصارنا في جذور المرض النفسي ما زالت تشكل عقبة أمام مساعينا الرامية إلى اكتشاف طرق علاجية ناجعة، وتسهم في استمرار النظرة الواصمة حيال واحدة من كبرى المشكلات الصحية التي يواجهها العالم كلّه، وما يترتب عليها من خسائر فادحة، بدءا بسنوات العمر الضائعة وانتهاء بالإصابة بالعجز أو الموت. ولا ريب في أننا بحاجة إلى إجابات شافية في مجال الطــب النفـسي، ولكن وكما كـــان يمكن لفيلســوف العـلــوم <K. پوپر> أن يقول: «إذا أردنا الحصول على إجابات صحيحة، علينا أولا أن نطرح أسئلة جديدة، مما يعني بكلمات أخرى أننا بحاجة إلى تقانة جديدة.»

غير أن تطوير طرق جديدة ملائمة هو أمر معقد، فدماغ الثديّيات لا مثيل له من حيث تركيبته المتشابكة، فهو جهاز بالغ التعقيد يتكون من عشرات البلايين من العصبونات المتضافرة معا، والتي تمتلك خصائص متميزة لا حصر لها، ونماذج من الاتصالات السلكية لتبادل الإشارات الكهربائية بصورة محددة زمنيا بدقة بالغة وفي أجزاء من الميلّي ثانية، إضافة إلى كمّ وافر من الرسل الكيميائية الحيوية المتنوعة. وبسبب هذا التعقيد المذهل، فإن علماء الجهاز العصبي لا يمتلكون المفتاح لفهم عميق لما يقوم به الدماغ فعليّا، ولا لفهم نوعية نماذج النشاط التي تصدر عن خلايا معينة في الدماغ وتؤدي في آخر الأمر إلى نشوء الأفكار والذكريات والأحاسيس والمشاعر. وإذا ما توسعنا في حديثنا، فيمكننا أن نقول إننا أيضا لا نعرف كيف تؤدي العيوب في بنية الدماغ إلى نشوء الاضطرابات النفسية المختلفة، كالاكتئاب والفصام. والنموذج paradigm السائد للاضطرابات النفسية بأطرها الحالية التي تقوم على فرضية اختلال التوازن الكيميائي وتغير في مستويات النواقل العصبية لا تتوافق مع السرعة العالية لمجموعة الدارات الكهربائية العصبية، وهذا ما يفسر لماذا تُعتبر طرق المعالجة المستخدمة في الطب النفسي في جوهرها أساليب علاج جرى اكتشافها مصادفة؛ وبالطبع فمع العون الذي تقدمه تلك الطرق إلى كثير من الناس، فإنها نادرا ما تكون ملهمة.

إذن، لايبدو مستغربا أن يقترح الحائز على جائزة نوبل <F. كريك> في مقالته التي نشرها في مجلة ساينتفيك أمريكان سنة 1979 أن أكبر تحد تواجهه العلوم العصبية الحديثة يتمثل بضرورة التوصل إلى التحكم بنوع محدد من خلايا الدماغ من دون إحداث تغيير في الخلايا الأخرى. وغني عن القول إن التنبيه الكهربائي لا يفي بهذا الغرض، لأن المساري الكهربية ليست أداة تتوفر فيها درجة الدقة المطلوبة، نظرا لأن رأسها المغروس ينبه جميع الخلايا المجاورة ولا يُفرق بين أنواعها المختلفة، ولأن الإشارات الصادرة عنها غير قادرة على تثبيط العصبونات المستهدفة بدقة عالية. وقد راهن <كريك> في محاضراته التي ألقاها لاحقا على إمكانية استخدام الضوء كأداة تحكم، وذلك لأنه قابل للإرسال على شكل نبضات محددة بدقة عالية زمنيا ضمن مجال من الألوان والمواقع. وقد أتت تصريحات <كريك> في الوقت الذي لم يكن أحد يعرف بتاتا كيف يمكن لنا أن نجعل نوعا معينا من الخلايا يستجيب للضوء.

في غضون ذلك، كان الباحثون العاملون في حقل من حقول علم الأحياء - يبدو بعيدا كل البعد عن المجال الذي يُعنى بدراسة الدماغ عند الثديّيات - منكبين على دراسة بعض المتعضيات الميكروية microorganisms في جانب من جوانبها لم تثبت أهميته إلاّ بعد مرور وقت طويل. فمنذ 40 عاما على أقل تقدير وعلماء البيولوجيا يعتقدون أن هناك متعضيات ميكروية تُنتج بروتينات تنظم جريان الشحنة الكهربائية عبر غشائها الخلوي بصورة مباشرة كاستجابة للضوء المرئي. وتسهم هذه البروتينات، التي تقوم مجموعة من جينات «الأوپسين» المميَّزة بإنتاجها، في استخلاص الطاقة من الضوء وتجميع المعلومات عنه من البيئة التي تعيش فيها هذه الميكروبات. في عام 1971 قام كل من <W. ستوكنيوس> و<D. أوسترهلت> [من جامعة كاليفورنيا – سان فرنسيسكو] باكتشاف أن أحد تلك البروتينات؛ وهو باكتيريورودوپسين bacteriorhodopsin، يعمل بمفرده كمضخة أيونية يتم تفعيلها بفوتونات الضوء الأخضر، أي إننا إزاء آلة جزيئية مدهشة تؤدي بمفردها جميع الوظائف المطلوبة. ومن ثم، توالت الاكتشافات المتعلقة بأعضاء هذه العائلة من البروتينات لاحقا، فاكتُشفت الهالورودوپسينات halorhodopsins سنة 1977 والتشانيل رودوپسينات channelrhodopsins عام 2002، في سياق متابعة الفكرة الرئيسية لعام 1971 المتمحورة حول الجين الواحد الذي يتحكم بمجموعة كاملة من الوظائف.

وإذا استخدمنا المنطق النموذجى للإدراك المتأخر، فعندئذ يمكننا القول إن صنع الأدوات اللازمة لتجاوز التحدي الذي تحدث عنه <كريك> - وهو استراتيجية من شأنها أن تُحدث تقدما هائلا في أبحاث الدماغ - كان من حيث المبدأ متاحا حتى قبل أن يتفوه <كريك> بذلك. ومع هذا، فقد استغرق الأمر أكثر من 30 عاما حتى استطعنا تجميع المفاهيم في تقانة جديدة هي الوراثيات الضوئية.


والوراثيات الضوئية هي توليفة من علم الوراثة وعلم الضوء تهدف إلى التحكم بوقائع محددة تحدث في نوع معين من خلايا النسيج الحي (وليس النسيج العصبي وحسب). وتتضمن الوراثيات الضوئية عمليتين: إحداهما هي اكتشاف الخلايا التي تحتوي على الجينات التي تمنح إمكانية الاستجابة للضوء، والأخرى هي غرس هذه الجينات في تلك الخلايا. كما أنها تتضمن أيضا التقانة المساعدة على إيصال الضوء إلى داخل الدماغ، فتوجيهه بالطريقة التي يؤثر بها في الجينات والخلايا المستهدفة، ومن ثم قياس تجليات أو آثار هذا التحكم الضوئي. وما يثير حماس علماء الجهاز العصبي حيال الوراثيات الضوئية هو ما تقدمه لنا من قدرة على التحكم بأحداث معينة داخل أنواع محددة من الخلايا وضمن أطر زمنية معينة، الأمر الذي يعني أننا نعمل هنا على مستوى من الدقة، ليس فقط غير مسبوق، وإنما على الأرجح لا غنى عنه لفهم علم الأحياء.

لا يمكننا أن نفهم أهمية أي حدث من الأحداث التي تقع في خلية ما إلاّ في سياق الأحداث الأخرى التي يشهدها باقي النسيج المجاور، أو المتعضي بكامله، أو حتى المحيط البيئي الأوسع، إذ إن تبدلا بسيطا لا يتجاوز ميلّي ثوانٍ قليلة في توقيت الإضرام العصبوني، على سبيل المثال، يمكن أن ينجم عنه أحيانا انعكاس تام في تأثير الإشارة العصبونية في باقي الجهاز العصبي. إن آلاف الباحثين يستخدمون اليوم الوراثيات الضوئية ببراعة لمعرفة كيف تتولد وظائف الأعضاء المعقدة ويتولد السلوك من أنماط معينة من النشاط الذي يحدث في مجموعة منتخبة من العصبونات عند الديدان والذباب والأسماك والطيور والفئران والجرذان والقردة. وقد تمخض عن هذه الأبحاث، بالفعل، قدر مهم من الاستبصار في المشكلات الإنسانية، بما فيها الاكتئاب واضطرابات النوم وداء پاركنسون والفصام.

وما يثير اهتمام علماء الجهاز العصبي بالوراثيات الضوئية هو في المقام الأول ما تقدمه لنا من قدرة على التحكم بأحداث معينة داخل أنواع محددة من الخلايا وضمن أطر زمنية معينة.

إسقاط الضوء على الحياة(**)

إن استعمال الضوء للتداخل في النظم الحية هو أحد التقاليد المعروفة في البيولوجيا، فالباحثون يستخدمون منذ وقت طويل طريقة تعتمد على الضوء تُدعى «كالي» CALI لهدم ومن ثم لتثبيط بروتينات مُختارة، كما يستخدمون أيضا الليزر لتقويض خلايا معينة في دودة كينورابدايتس إليگانس Caenorhabditis elegans، مثلا. وفي المقابل، حدثنا <L .R. فورك> [من مختبرات بيل Bell] في سبعينات القرن العشرين، و<R. يوست> [من جامعة كولومبيا] في سنة 2002، عن طرق تستخدم الليزر لتنبيه العصبونات من خلال تمزيقها لبعض أجزاء الأغشية الخلوية. أما في العقد الأخير، قامت مختبرات أخرى باستخدام نظم متعددة المكوِّنات لتعديل الخلايا المستهدفة بواسطة الضوء. ومن هذه المختبرات: مختبر <G. ميزنبوك> من مركز السرطان ميموريال – سلون - كاتارنگ، ومختبرات <E. إيزاكوف> و<H .R. كريمر> و<D. ترونر> في جامعة كاليفورنيا - بيركلي. وقد قدّم هؤلاء الباحثون – مثلا – طريقة يُستخدم فيها أحد البروتينات التي تقوم بتنظيم العصبونات وإحدى المواد الكيميائية التي من شأنها أن تدفع هذا البروتين إلى العمل إثر تعريضه لمنبه من الضوء فوق البنفسجى.

إلاّ أن هدم البروتينات أو الخلايا المستهدفة يفرض بالتأكيد قيودا على خيارات الباحث التجريبية، فالطرق التي تعتمد على النُّظُم المتعددة المكوِّنات، مع أناقتها وفائدتها، تنطوي على تحديات عملية، إضافة إلى أنها ليست قابلة للتطبيق أو الاستعمال على نطاق واسع عند الثدييات، الأمر الذي يعني أنه كان لا بد من حدوث تحول جذري باتجاه استراتيجية النُّظُم ذات المكوِّن الواحد. وحينما حدث هذا التحول لم تكن استراتيجية نظام المكوِّن الواحد قادرة على استغلال أجزاء أو طرق مستمدة من مناهج سابقة لتبنى عليها، بل عمدت بدلا من ذلك إلى استثمار البروتينات كلّية الوظائف التي يتم تفعيلها بالضوء واستخلاصها من ميكروبات باكتيريورودوپسين، وهالورودوپسين، وتشانيل رودوپسين.

وبعد أن أصبحت باكتيريورودوپسين وهالورودوپسين معروفة في مجال البحث العلمي، قام معهد <كازوزا> لأبحاث الدنا DNA في اليابان عام 2000 بنشر آلاف من المتواليات الجينية الجديدة الخاصة بطحالب الكلاميدوموناس رينهاردي الخضراء green algae Chlamydomonas reinhardtii على الإنترنت. وأثناء قيام <P. هاگيمان> - الذي كان يعمل آنذاك في جامعة ريگينزبورگ ببرلين، وهو الذي كان قد تنبأ بأن الكلاميدوموناس يمكن أن تكون لديها قناة أيونية ضوئية التفعيل light-activated ion channel – بمراجعة تلك المتواليات الجينية استرعت انتباهه متواليتان طويلتان شبيهتان بالباكتيريورودوپسين. وبعد حصوله على نسختين منهما، طلب إلى <G. ناگل> [باحث رئيسي في فرانكفورت في ذلك الحين] أن يقوم باختبارهما لمعرفة هل كانتا تمثلان – بالفعل - كودين codes لقنوات أيونية. قام <هاگيمان> و<ناگل> بتوصيف ما توصلا إليه من نتائج بهذا الشأن في سنة 2002. ويفيد توصيفهما هذا بأن إحدى هاتين المتواليتين تُكوِّد قناة غشائية أحادية البروتين حساسة للضوء الأزرق؛ أي إن ارتطام هذا البروتين، الذي أطلق عليه فيما بعد اسم (تشانيل رودوپسين1-) أو (ChR1)، بالفوتونات الزرقاء يدفعه إلى القيام بنظم جريان الأيونات ذات الشحنة الإيجابية. وفي السنوات اللاحقة تابع <هاگيمان> و<ناگل> وزملاؤهما، بمن فيهم <E. بامبرگ> [من مدينة فرانكفورت] استقصاء المتواليات الأخرى، فاكتشفوا بروتين تشانيل رودوپسين-2 أو (ChR2). وبصورة متزامنة تقريبا، برهن <L .J. سبوديت> على أن تلك الجينات تؤدي دورا مهما في الاستجابات المتعلقة بالضوء عند الكلاميدوموناس. ومع ذلك فإن اكتشاف التشانيل رودوپسينات باعتبارها نوعا ثالثا من تلك البروتينات الناقلة، أحادية المكون وضوئية التفعيل، لم تكن لتتم ترجمته فورا إلى قوة قادرة على دفع العلوم العصبية نحو الأمام، أكثر مما فعله اكتشاف باكتيريورودوپسين وهالورودوپسين في العقود السابقة.


علم الأحياء المجهرية (الميكروبيولوجيا)
الأصول المتواضعة للبروتينات الحساسة للضوء(***)
   بعض أنواع الطحالب والجراثيم الأخرى تعتمد من أجل الحفاظ على حياتها اعتمادا كليا على البروتينات المعروفة ببروتينات الأوپسين التي تستجيب للضوء المرئي. وعندما تتعرض هذه القنوات البروتينية للضوء، فإنها تقوم بنظم جريان الأيونات المشحونة كهربائيا عبر الأغشية الخلوية، الأمر الذي يُمكّن هذه الخلايا من استخلاص الطاقة من البيئة التي تعيش فيها. ويمكن لمختلف أنواع الأوپسينات أن تتباين في حساسيتها للضوء وسلوكها حياله. وتشكل جينات الأوپسين التي تقوم بتركيب هذه البروتينات الأساس الذي تقوم عليه تقانة الوراثيات الضوئية التي يستخدمها علماء الجهاز العصبي اليوم للتحكم بنماذج نشاط العصبونات المستهدفة.
ميكروب
الكلاميدوموناس رينهاردي هو طحلب وحيد الخلية متحرك مزوّد بسوطين يمنحانه القدرة على السباحة في المياه العذبة.
ڤولڤوكس كارتيري هو طحلب تربطه قرابة وثيقة بالكلاميدوموناس ويتكون من مئات الخلايا التي تعيش معا في مستعمرات كروية.
ناترونوموناس فاراعوني هو من العتائق البكتيرية التي لا تستطيع أن تعيش إلاّ في مياه ذات تركيز ملحي عال جدا.
موطن
تربة وتجمعات المياه العذبة في جميع أنحاء العالم.
مستنقعات وبحيرات وبرك وحفر ممتلئة بالماء.
بحيرات ملحية في مصر وكينيا تحتوي على نسبة عالية من الصودا.
قناة
تشانيل رودوپسين-2 (ChR2) يسمح لأيونات الصوديوم الموجبة بالعبور استجابة للضوء الأزرق.
تشانيل رودوپسين (VChR1) يستجيب لبعض موجات الضوءين الأخضر والأصفر.
هالورودوپسين (NpHR) ينظم سريان أيونات الكلوريد السالب استجابة للضوء الأصفر.



إجراءات
تحضير العصبونات للاستجابة إلى الضوء(****)
   لإجراء دراسات الوراثة الضوئية يقوم علماء الجهاز العصبي بإدخال جينات الأوپسين إلى خلايا الدماغ بواسطة ڤيروسات مَهندسة، بحيث يصبحون قادرين بعدئذ على حث النشاط العصبي بومضات من الضوء حين يشاؤون، ثم مراقبة آثار ذلك في سلوك حيوانات التجارب.

يقوم العلماء بضم جين الأوپسين إلى عنصر يُدعى المعزز promoter، وهو العنصر الذي لا يسمح لهذا الجين بأن ينشط سوى في نوع معيّن من الخلايا.
يتم غرس الجين المُعدّل في ڤيروس ما، ثم يُحقن هذا الڤيروس في دماغ أحد الفئران.


sa1110Deis07.epssa1110Deis08.epssa1110Deis09.eps

يُعدي الڤيروس عددا من الخلايا العصبية، ومع ذلك فإن المعزز لا يسمح بإنتاج بروتين الأوپسين سوى في نوع واحد فقط من العصبونات.
مسابير مكَّونة من الألياف البصرية تكون قادرة بعد غرسها في دماغ الحيوان على إرسال وميض ضوئي إلى الدماغ للتحكم بنماذج معينة من النشاط العصبي.

وقد كشف لي بعض الباحثين بأنهم كانوا يفكرون في القيام بغرس جينات أوپسينية بكتيرية أو طحلبية في العصبونات ومحاولة التحكم عن طريق الضوء بهذه الخلايا المعدلة، ولكنهم تخلوا عن هذه الفكرة. فالخلايا الحيوانية، على الأرجح، لا تقوم بتشغيل البروتينات الجرثومية بطريقة فعالة أو آمنة، إضافة إلى أن هذه البروتينات هي فعليا، وبصورة مؤكدة، بطيئة وضعيفة إلى درجة لا تسمح لها بأن تكون فعّالة كما يجب. وهي، فوق ذلك، بحاجة إلى عامل إضافي لكي تتمكن من أداء وظيفتها، وهو مركب ذو صلة بفيتامين A يُدعى الريتينال المفروق من شأنه أن يساعدها على امتصاص الفوتونات. لقد كانت المجازفة في هدر المال والوقت أكبر بكثير من أن تلاقي القبول.

ومع ذلك، فقد كان حافز فريق أبحاث الهندسة البيولوجية الذي قمت بتشكيله في جامعة ستانفورد للارتقاء بفهمنا للطب النفسي السريري أقوى من المتوقع، وهذا ما يبرر مجازفتنا الكبيرة في ألاّ تتكلل مساعينا بالنجاح. لقد شاهدت بأم عيني أثناء فترة تخصصي في الطب النفسي مكامن الضعف والآثار الجانبية للمعالجة الدوائية وغير الدوائية، كالمعالجة بالصدمة الكهربائية electroconvulsive therapy على سبيل المثال، وهذا ما أسهم في دفعي إلى اتخاذ قراري الحاسم بالعمل في جامعة ستانفورد، حيث قمت سنة 2004 بصفتي باحثا رئيسيّا بتشكيل فريق من طالبَيّ الدراسات العليا <E .S. بويدن> و <F. زانگ> لمجابهة هذا التحدي. قمت بإدخال التشانيل رودوپسين-2 في عصبونات الثدييات المزروعة باستخدام الطريقة المعروفة جيدا باسم التَعْداء ‎transfection، وهي طريقة تقوم على تضفير splicing جين التشانيل رودوپـسـين2- (ChR2) مـع نـــوع خـــاص مـــن بدّالة التشغيل on switch أو معزز promoter، ثم غرسهما معا في جينات ناقل (ڤيروس حميد، مثلا) يقوم بإيصال هذه المادة الجينية إلى داخل الخلايا، حيث يضمن المعزز ألاّ تقوم هذه المادة الجينية بالإفصاح عن نفسها (أي ألاّ تقوم بصنع بروتينات الأوپسين المُكودة) سوى في العصبونات المستهدفة (مثلا، العصبونات التي تُفرز الناقل العصبي گلوتومات فقط).

وعلى خلاف جميع التوقعات، سارت التجربة بنجاح كبير يدعو إلى الدهشة، واستطعنا باستخدام نبضات آمنة من الضوء المرئي التحكم على درجة عالية من الدقة (بالميلي ثانية) والجدارة بالثقة بنماذج إضرام جهد الفعل الذي تطلقه الخلايا؛ وهي الومضات أو النبضات الڤلطية التي تمكن العصبون الواحد من نقل المعلومات إلى عصبون آخر. وقد قام فريقي في الشهر 2005/8 بنشر أول تقرير عن عملية غرس جين أوپسيني جرثومي واحد في عصبونات الثدييات وجعل هذه الخلايا تستجيب للضوء بحساسية عالية. وقد تبين لنا بالدليل أن التشانيل رودوپسينات (ولاحقا الباكتيريورودوپسين، المعروف منذ عام 1971، والهالورودوپسين أيضا) كلها قادرة على تفعيل استجابة العصبونات للضوء أو تثبيطها بصورة فعّالة وآمنة. كما تبين لنا أيضا أن هذه القدرة تعود – في جزء منها على أقل تقدير - إلى الهبة غير المتوقعة التي أغدقتها الطبيعة على أنسجة الثدييات بجعلها تمتلك تلقائيا مقادير ثابتة من الريتينال المفروق؛ العامل الكيميائي المساعد الذي تحتاج إليه الفوتونات ولا تستطيع تفعيل الأوپسينات الجرثومية من دونه، الأمر الذي يشير إلى أننا لسنا بحاجة إلى أكثر من نقل جين الأوپسين إلى داخل العصبونات المستهدفة.

ما كان يبرر مجازفتنا الكبيرة في الفشل هو حافزنا القوي لتحسين قدرتنا على فهم الطب النفسي السريري.

وبعد ظهور تقريرنا الأول عام 2005 بسنة واحدة قمتُ مع زميلي <M. شنيتزر> [من جامعة ستانفورد] بنشر مقالة مراجعة review paper أطلقنا فيها اسم «الوراثيات الضوئية» على الطريقة المذكورة آنفا. وقد قام عدد كبير من المختبرات في جميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين بإجراء الأبحاث استنادا إلى هذه الطريقة واستخدام صيغ مختلفة للجينات التي قام فريقي بتركيبها بصورة تسمح لها بالعمل في خلايا الثدييات على الوجه الأمثل. وإذا أحصينا المختبرات التي أرسلنا إليها هذه الجينات حتى الآن، فإن عددها يبلغ 700 مختبر تقريبا في جميع أنحاء العالم.



ممتلكات جزيئية
عُدة متزايدة من الجينات المفيدة(*****)
   يتابع الباحثون جهودهم الرامية إلى تحسين كفاءات الوراثيات الضوئية عبر التلاعب بجينات الأوپسينات المعروفة والتنقيب في عالم الطبيعة عن بروتينات جديدة قادرة على الاستجابة للضوء، إذ إن الحصول على أوپسينات جديدة تتمتع بالخصائص المطلوبة من شأنه أن يمكن العلماء من إيجاد حلول للألغاز البيولوجية عن طريق إجراء تجارب لم تكن ممكنة في الماضي. ونستعرض فيما يلي مجموعة من أصناف الأوپسينات القيّمة وطرق استخدامها.

إدخال تحسينات على الطبيعة(******)

تشهد وسائل الوراثيات البصرية نموا سريعا من حيث عددها وتنوع قدراتها، وذلك بسبب التقارب المدهش بين علم البيئة والهندسة. وتنصب جهود الباحثين اليوم على إثراء خزينة أدواتهم البحثية عبر التنقيب في عالم الطبيعة بحثا عن أدوات جديدة، وأيضا من خلال استغلالهم لتطبيقات الهندسة الجزيئية وإدخال تحسينات على الأوپسينات المعروفة لجعلها أكثر صلاحية للاستخدام في طيف أوسع من التجارب، وعند عدد أكبر من المتعضيات.

وفي عام 2008، على سبيل المثال، أدت استقصاءاتنا لجينوم genome نوع آخر من الطحالب، ڤولڤوكس كارتيري Volvox carteri، التي أجريناها بقيادة <F. زانگون> إلى اكتشاف نوع ثالث من التشانيل رودوپسينات (VChR1) يستجيب للضوء الأصفر بدلا من الضوء الأزرق الذي سبق ذكره في سياق الحديث عن <هاگيمان>. وبفضل استخدام هذا النوع الجديد من التشانيل رودوپسينات (VChR1) ونوعيه الآخرين معا أصبحنا قادرين على التحكم بخليط من التجمعات الخلوية، فالضوء الأصفر يقوم بنظم جزء من هذا الخليط الخلوي على نحو معين، في حين أن الضوء الأزرق يقوم بإصدار أوامر مختلفة ولجزء آخر من تلك التجمعات. وقد وجدنا مؤخرا أن أكثر التشانيل رودوپسينات فعالية هو في حقيقة الأمر هجين من النوع الثالث (VChR1)، والنوع الأول (ChR1) لا يدخل النوع الثاني (ChR2) في تركيبه بتاتا. أما ما قمنا بتعديله من أنواع التشانيل رودوپسينات الأخرى (وهي من ابتداع <O. إزهار> و <L. فينو> و<L. گانادين> و<هيگمان> وطلبته)، فيشمل في الوقت الحالي طفرات تشانيل رودوپسين الفائقة السرعة من جهة والمتناهية البطء من جهة أخرى، وهي طفرات تُبدي قدرة عالية على التحكم بتوقيت جهود الفعل ومددها الزمنية. وفي حين أن النوع الأول (الفائق السرعة) يحث على انبعاث أكثر من 200 جهد فعل في الثانية الواحدة، فإن النوع الثاني (المتناهي البطء) يدفع الخلايا بفعل دفقة واحدة من الضوء إلى الدخول في حالات مستقرة من القابلية للاستثارة أو إلى الخروج منها. إن أحدث ما نملكه حاليا من الأوپسينات هو ذاك الذي يستجيب أيضا للضوء الأحمر الداكن المجاور للأشعة تحت الحمراء الذي يبقى متمركزا بوضوح، ويخترق الأنسجة بسهولة ويُسر، ويتم تحمله بجرعة عالية.

وقد نجحت الهندسة الجزيئية في توسيع دائرة التحكم الوراثي الضوئي متعدية السلوك الكهربائي للخلايا لتشمل كيميائيتها الحيوية، فجزء كبير من الأدوية الطبية المعتمدة يؤثر في عائلة من بروتينات غشاء الخلية من صنف المستقبلات المقترنة بالبروتين-G G-protein-coupled receptors، وهي بروتينات تتحسس الإشارات الكيميائية خارج الخلوية، مثل الإبينفرين، وتستجيب للتغيرات التي تطرأ على مستويات الإشارات الكيميائية داخل الخلوية، كأيونات الكالسيوم مثلا، ومن ثم للتبدلات في نشاط الخلايا. وقد نجح <D .R. إيران> وآخرون في مختبري في تطوير مجموعة من المستقبلات المعروفة باسم أپتو إكس. آر. إس (opto XRs) التي تستجيب بسرعة للضوء الأخضر، وذلك من خلال إضافة القطاع الحساس للضوء من جزيء الرودوپسين إلى المستقبلات المقترنة بالبروتين-G. فعندما تقوم الڤيروسات بإدخال المركبات الجينية الخاصة بالأپتو إكس. آر. إس إلى أدمغة قوارض المختبر، فإن المستقبلات opto XRs تزودنا بوسيلة تحكم بالأحداث الكيميائية الحيوية في هذه الحيوانات وهي تتحرك بحرية داخل قفصها. واستنادا إلى ما تم ذكره، فقد أضحى التحكم الضوئي السريع ببعض السبل الكيميائية الحيوية داخل نوع معين من الخلايا أمرا ممكنا، سواء بحاويات المختبرات أو لدى الثدييات الطليقة. إن هذا التحكم بالكيمياء الحيوية يفتح الباب أمام الوراثيات الضوئية للدخول من حيث المبدأ إلى أية خلية وأي نسيج في عالم علم الأحياء.



أخلاقيات
هل تشكل الوراثيات الضوئية تحديا للأخلاقيات ethics؟(********)
انضمت الوراثيات الضوئية إلى صفوف التقنيات المعدلة للدماغ، مثل الأدوية المؤثرة نفسيا والتدخلات الجراحية التي تثير تساؤلات أخلاقية وفلسفية بسبب مفعولها القوي. غير أن الوراثيات الضوئية - إذا ما نظرنا إلى أحد جوانبها عن كثب – هي في حقيقة الأمر أكثر أمنا وأقل اشتباكا مع الاعتبارات الأخلاقية مقارنة بالطرق التي تقوم على الاستراتيجيات القديمة. فالإمكانات المتزايدة للوراثيات الضوئية وطبيعتها الانتقائية تسير يدا بيد مع تعقيدها التقني؛ فلا يمكن استخدام هذه الطريقة لدى المرضى – عمليا - من دون موافقتهم ومعرفتهم.
ومن ناحية ثانية، فقد انبثقت مسائل أكثر مراوغة (وربما أكثر أهمية) بخصوص ما تتمتع به الوراثيات الضوئية من دقة عالية. وفي مستوى من المستويات، تنبثق جميع مظاهر شخصياتنا وأولوياتنا وقدراتنا وانفعالاتنا وذكرياتنا من وقائع كهربائية وكيميائية حيوية تحدث في مجموعات معينة من العصبونات وفق نماذج زمنية محددة. ومن شأن التحكم بالمكونات الأساسية للعقل أن يثير جملة من الأسئلة والتحديات الفلسفية بدءا بالسؤال المتعلق بمبررات هذه التعديلات وهل هي مناسبة أم لا وصولا إلى أسئلة أكثر تجريدا عن الجوهر الحقيقي للذات والإرادة وقابليتهما للتعديل.
أما التدخلات العصبية التي تستند إلى الجراحة أو الأدوية أو المساري الكهربية فقد كانت تفتقر إلى الدقة على مدى تطورها التاريخي، مما جعل تلك القضايا الفلسفية المهمة تدور في أطرها النظرية وليست العملية؛ فهي لم تحظ باهتمام اختصاصي علم الأخلاق ولا باهتمام القوانين إلاّ بصورة جزئية.
وليست تساؤلات كهذه بغريبة عن الطبيب النفسي، فنحن نستخدم قدراتنا الطبية الحالية للتأثير في الانفعالات البشرية، وفي التشييد النفسي للواقع.
إلاّ أن الزمن يتغير، كما بينت لنا الوراثيات الضوئية وسرعة تطورها المذهلة التي شهدناها في السنوات القليلة الماضية. ولكننا لن نستطيع تحقيق قفزات نوعية في تحسين الدقة الخلوية والزمنية لتدخلاتنا بمعزل عن الاهتمام الجاد والمتواصل للمجتمع كما نفعل حيال التقانات المتقدمة الأخرى.
إذن، على علماء الجهاز العصبي أن يكونوا مستعدين لتزويد رجل الشارع المهتم بإيضاحات دقيقة عما تعنيه (وما لا تعنيه) التجارب الوراثية الضوئية لفهمنا للعقل البشري ومعالجته.

إنّ الكثير من جينات الأوپسين الطبيعية التي يتم العمل حاليا على اكتشافها في الجينومات الجرثومية تُكوّد بروتينات لا تستطيع خلايا الثدييات تصنيعها بصورة جيّدة. ومع ذلك، فقد قامت <V. گرادينارو> [من مجموعتي] بتطوير عدد من استراتيجيات الاستخدام العام لتحسين طرق إيصال هذه الجينات وتحسين قدرتها التعبيرية، وأبرز مثال على ذلك هو حَزْمُ الجينات الأوپسينية مع أجزاء من الدنا تكون بمنزلة الرموز البريدية التي تضمن وصول الجينات إلى المكان الصحيح داخل خلايا الثدييات ومن ثم ترجمتها إلى بروتينات فعّالة وظيفيا كما ينبغي. إضافة إلى ذلك، فقد أصبح الباحثون قادرين - وبفضل الأدوات المكونة من الألياف البصرية التي طورناها في عامي 2006 و 2007 - على إيصال الضوء اللازم للتحكم الجيني الضوئي إلى أية منطقة من مناطق الدماغ السطحية والعميقة لدى الثدييات التي تتحرك بحرية. ومن أجل أن تتسنى لنا قراءة الإشارات الكهربائية الديناميكية التي يستثيرها التحكم الوراثي الضوئي قراءة متزامنة، قمنا بتطوير أدوات قياس بوحدة الميلي ثانية تحتوي على خليط متكامل من الألياف البصرية والمساري الكهربية (وأطلقنا عليها اسم المساري البصرية optrodes).

ما ينبثق عن ذلك هو تآزر جميل بين التنبيه الضوئي والتسجيل الكهربائي نظرا لأن الاثنين يمكن إعدادهما بحيث لا يتداخل أحدهما في الآخر. وقد أصبح بإمكاننا اليوم، مثلا، أن نراقب التبدلات التي تطرأ على النشاط الكهربائي للدارات العصبية المشاركة في نظم الوظيفة الحركية، مباشرة وبصورة متزامنة مع اللحظة التي نقوم فيها بعملية التحكم الضوئي بتلك الدارات المزودة بالأوپسينات الجرثومية. وكلما تزايدت المدخلات الوراثية الضوئية إلى الدارات العصبية وأصبحت مخرجاتها الكهربائية أكثر تعقيدا وغزارة، أصبح بمقدورنا التحرك باتجاه الهندسة العكسية لمجموعة الدارات العصبية؛ وسوف نكون قادرين على استخلاص الدلائل المتعلقة بالوظائف الحوسبية والمعلوماتية للدارات العصبية انطلاقا من فهمنا للكيفية التي تقوم بها هذه الدارات بتحويل إشاراتنا. فالهندسة العكسية للدارات العصبية السليمة سوف تمنحنا فرصا ذهبية لتحديد الخصائص والأنشطة التى تضطرب فى حالة الأمراض النفسية والعصبية. وسوف تساعدنا هذه المعارف بدورها على تركيز جهودنا في الاتجاه المؤدي إلى اكتشاف تدخلات قادرة على إعادة الحالة الطبيعية لتلك الدارات.

هندسة عكسية للعقل(*********)
 
تتزايد أهمية الوراثيات الضوئية بوتيرة سريعة باعتبارها وسيلة من الوسائل البحثية، وبوجه خاص، لكونها تترابط بالتقانات الأخرى. وقد حققت العلوم العصبية في السنوات القليلة الماضية إنجازات مهمة في مجال المسح التصويري للدماغ باستخدام طريقة تُدعى التصوير الوظيفي بالرنين المغنطيسي (fMRI)(1). ويتم تقديم هذه الطريقة من المسح التصويري عادة بصفتها وسيلة تزودنا بخرائط تفصيلية عن النشاط العصبي الذي يُظهِر استجابة لمنبهات متعددة مع أنه بتعبير أدق فإن التصوير الوظيفي fMRI لا يُطلعنا إلاّ على تقلبات مستوى أكسجين الدم في مناطق الدماغ المختلفة، وهي تقلبات تظهر بالنيابة عن النشاط العصبي الفعلي، ليس إلاّ.

لهذا السبب، فإن السؤال المتعلق بإمكانية إطلاق هذه الإشارات المركبة من خلال زيادة النشاط العصبي الاستثاري، مازال مدعاة للشك المضني. ومن جانب آخر فقد أجرى مختبرنا في الشهر 2010/5 اختبارا استُخدمت فيه توليفة من الوراثيات الضوئية والتصوير الوظيفي fMRI للتأكد من أن إضرام العصبونات الاستثاري المحلي كاف تماما لإطلاق الإشارات المركبة التي يكتشفها المرنان الوظيفي. إضافة إلى ذلك، فقد تبين لنا أن مزاوجة الوراثيات الضوئية والمرنان الوظيفي قادرة على ترسيم الدارات العصبية الوظيفية بدقة عالية وبصورة كاملة لم نخبرهما سابقا، لا عن طريق المساري الكهربية، ولا من خلال التدخلات الدوائية. وبناء على ذلك، فإن الوراثيات الضوئية تساعد على توثيق صحة الأدبيات العلمية وتحسينها في مجالي العلوم العصبية والطب النفسي.

لقد أخذنا نلمس بالفعل الأثر المباشر الذي تركته الوراثيات الضوئية في المسائل المتعلقة بالأمراض البشرية، وأبرز مثال على ذلك هو ما توصلنا إليه مؤخرا عبر تطبيقها على نوع معين من العصبونات (خلايا الهيپوكرتين) الواقعة في منطقة عميقة من الدماغ والمعروفة من قبل بعلاقتها بمرض من أمراض النوم يُدعى ناركوليپسي narcolepsy. كما وجدنا أيضا أن هذه العصبونات تولد نماذج معينة من النشاط الكهربائي هي المسؤولة عن إحداث حالة اليقظة، الأمر الذي يعني أن اكتشاف وسيلة قادرة على إحداث تلك النماذج من النشاط الكهربائي يمكن أن يزودنا يوما ما بطريقة علاجية جديدة. إلاّ أن الأمر الأكثر أهمية من ذلك هو الاستبصار العلمي بأن أنواعا معينة من النشاط في أنواع معينة من الخلايا يمكن أن تقود إلى أنماط من السلوك المركب.

ولا تقتصر الوراثيات الضوئية في عطاءاتها على ما سبق ذكره، بل هي تساعدنا أيضا على تحديد كيف يمكن أن تؤدي العصبونات المُصنِّعة للدوپامين إلى انطلاق المشاعر المتعلقة بالمكافأة والمتعة. وقد قام فريقي – مستخدما تقنية الوراثيات الضوئية - بإحداث نبضات من النشاط لمدد زمنية مختلفة في مجموعة محددة بدقة من العصبونات الدوپامينية لدى فئران حرة الحركة، فتمكن من تعرف نماذج التنبيه التي يمكن أن تكون مسؤولة عن إثارة الشعور بالمكافأة لدى تلك الحيوانات التي أخذت تفضل قضاء معظم وقتها في الأمكنة التي تعرضت فيها إلى ذلك التنبيه المؤدي إلى نشوء تلك النبضات من النشاط في عصبوناتها الدوپامينية، علما بأن هذه الحيوانات لم تتلق أية تلميحات أو مكافآت تؤدي إلى الإحساس بالمكافأة لديها. إن لهذه المعلومات فوائد جمة، فهي تساعدنا على استخلاص النشاط الخلوي الكامن وراء عملية المكافأة الطبيعية من جهة، والمسؤول من جهة أخرى عن الاختلالات المَرَضيّة التي تتعرض لها منظومة المتعة مما يؤدي إلى الاكتئاب وإلى الإدمان.

وتجدر الإشارة إلى أن تقنية الوراثيات الضوئية أسهمت، إلى جانب ما ذُكر سابقا، في تعميق فهمنا لداء پاركنسون الذي يقوم على أرضية اضطراب في معالجة المعلومات في بعض دارات الدماغ المسيّرة للوظيفة الحركية. فتسعينات القرن الماضي جلبت معها لمرضى پاركنسون قدرا من العون تمثل بطريقة علاجية جديدة اسمها (تنبيه أعماق الدماغ deep-brain stimulation)، وهي طريقة يقوم فيها جهاز مغروس شبيه بالناظمة pacemaker ببث تنبيهات كهربائية تذبذبية oscillating electric stimuli محددة زمنيا بدقة بالغة يتم إرسالها إلى مناطق تقع في عمق الدماغ، كالنواة تحت المهاد subthalamic nucleus على سبيل المثال.

غير أن ما أطلقته هذه الطريقة من وعود للمصابين بداء پاركنسون (ومجموعة منوعة من الحالات المرضية، في واقع الأمر) بقيت محدودة لأسباب تعود في جزء منها إلى أن المساري الكهربية تقوم بتنبيه الخلايا الدماغية المجاورة بطريقة غير انتقائية من جهة، وإلى أن معارفنا المتعلقة بطبيعة التنبيهات اللازمة ما زالت حتى الآن ناقصة إلى درجة تثير الشفقة من جهة ثانية. ومهما يكن من أمر، فقد نجحنا مؤخرا في دراسة النموذج الحيواني لداء پاركنسون بتقنية الوراثيات الضوئية، حيث تمكنا من اكتساب استبصار أساسى بمجموعة الدارات العصبية المصابة وطبيعتها المرضية، وبآليات تأثير المداخلات العلاجية.

لقد وجدنا مثلا أن تنبيه أعماق الدماغ يمكن أن يصل إلى فعاليته القصوى إذا لم يستهدف الخلايا بحد ذاتها، بل الوصلات ما بين الخلوية التي تؤثر في جريان النشاط العصبي بين مناطق الدماغ المختلفة. كما قمنا مع زميلنا <A. كريتزر> [من جامعة كاليفورنيا - سان فرنسيسكو (UCSF)] بوضع خرائط وظيفية لسبيلين من سبل مجموعة دارات الوظيفة الحركية في الدماغ: أحدهما مسؤول عن إبطاء الحركات والآخر مسؤول عن تسريعها وقادر على تصحيح الحالة الپاركنسونية.

إضافة إلى ذلك، أصبحنا نعرف كيف يمكننا حث نوع محدد من الخلايا، هي عصبونات القشرة المخية الحديثة من صنف الپارڤألبومين neocortical parvalbumin neurons، على تعديل دورات من النشاط الدماغي المعروف بنظم الـ 40 ذبذبة في الثانية أو ذبذبات گاما gamma oscillations. ومنذ وقت قصير والعلم شاهد على أن مرضى الفصام يعانون تبدلات في خلايا الپارڤألبومين، ويعانون – كما يعاني مرضى التوحد أيضا - خللا في ذبذبات گاما. غير أن الدلالة السببية لهذه الارتباطات correlations - إن كانت موجودة - ما زالت مجهولة حتى الآن. لقد بيّنّا من خلال استخدامنا لتقنية الوراثيات الضوئية أن خلايا الپارڤألبومين تساعد على تعزيز موجات گاما، وأن هذه الموجات تعزز بدورها سريان المعلومات عبر دارات القشرة المخية.

لقد لاحظت عند مرضى الفصام الذين أقوم برعايتهم ما يمكن أن يبدو بوضوح مشكلة في معالجة المعلومات، حيث يقوم هؤلاء المرضى على نحو خاطئ بتأويل أحداث عادية تقع بمحض الصدفة، فيدركونها كجزء من مواضيع أو نماذج أوسع (مشكلة معلوماتية قد تفضي إلى حدوث الذهان الكبريائي أو أشكال من الهلاوس delusions). إن هؤلاء المرضى يعانون أيضا بعض الإخفاق في تسيير آلية التبليغ الداخلي التي تنبئنا متى تكون الأفكار من صنع ذواتنا (مشكلة معلوماتية قد تكون هي الأساس الذي تقوم عليه الظاهرة المروِعة المعروفة باسم «سماع الأصوات»). أما مرضاي الذين يعانون أحد أطياف مرض التوحد فقد لاحظت أن معالجة المعلومات لديهم لا تتم إلاّ في حدود ضيقة للغاية، وذلك على عكس حالة فرط ترابط المعلومات غير الملائم التي ذكرتها قبل قليل. إنهم يفقدون القدرة على رؤية المشهد الكلي بسبب تركيزهم المفرط على جزئيات الأشياء والأشخاص والمحادثات وغيرها من المواضيع. وقد تكون هذه الإخفاقات في معالجة المعلومات هي ما يقود إلى الإخفاقات المعروفة في عملية التواصل وفي السلوك الاجتماعي. وبناء عليه، فإن فهمنا لذبذبات گاما فهما أفضل من شأنه أن يزودنا بأساليب أنجع من الاستبصار في هذه الأمراض المعقدة.

إن أكثر ما يثير اهتمامي كطبيب في هذا النوع من البحث العلمي هو جلب مبادئ هندسية وتقانة كميّة للتأثير في تلك الأمراض النفسية المدمرة التي تبدو غامضة وعصية. وهكذا، فإن الوراثيات الضوئية ستقدم لنا يد العون في حمل الطب النفسي على الرحيل إلى مجال هندسة الشبكات وأساليب فهمها الذي يُعنى بتفسير وظائف الدماغ المعقدة (والسلوك الناتج منه) من حيث إنها تمثل خصائص النظام العصبي الذي ينبثق عن الديناميكيا الكهربائية الكيميائية للخلايا والدارات المكونة للدماغ. وهذا ما من شأنه أن يغير نظرتنا بصورة كلية إلى الكيفية التي تعمل بها الأنسجة القابلة للاستثارة كهربائيا في حالتي الصحة والمرض. إنها حقا لرحلة طويلة - لا يمكن التنبؤ بوجهتها - من الاندهاش بطريقة يقوم فيها هذا البروتين الجرثومي الغريب - الباكتيريورودوپسين - بالاستجابة للضوء.

سخاء اللامتوقع(**********)

في ملتقيات جمعية العلوم العصبية (SN) وفي بعض المؤتمرات الضخمة الأخرى، كنت بين الحين والآخر أسترق السمع إلى ما يتبادله زملائي من مقترحات ينطوي بعضها على فكرة مفادها أنه قد يكون من الأجدى أن يركز عشرات الآلاف من الباحثين في الوقت نفسه على مشروع بحثي واحد ذي شأن عظيم وذي ضرورة قصوى، كداء الزهايمر مثلا، بدلا من متابعة المزيد من استقصاءاتهم المتنوعة. ولكن كلما ضاقت دائرة أهداف البحث العلمي وتحددت مساراته، تباطأت حركته الإجمالية إلى الأمام على الأرجح، وكلما أصبح من المؤكد أن عوالم الطبيعة النائية التي لم تُسبر أغوارها بعد، وهي العوالم التي يمكن أن تبزغ فيها أفكار ثورية حقيقية، سيجرى عزلها نهائيا عن مسيرتنا العلمية العامة.

إن الدرس الذي يمكننا استخلاصه من الوراثيات الضوئية هو أن الخلايا القديمة والهشة والنادرة المأخوذة من غثاء المستنقعات أو من البحيرات الصحراوية الملحية الجافة قد تؤدي دورا حاسما في إدراكنا لذواتنا ولعالمنا المعاصر. وحكاية هذه التقانة تؤكد لنا أهمية الحفاظ على الأماكن البيئية النادرة وقيمتها الكبيرة، وأهمية دعم العلوم الأساسية الحقة أيضا. ويجب ألاّ يغيب عن أذهاننا أبدا أننا لا نعلم حتى الآن إلى أين ستأخذنا مسيرة العلم الطويلة، وأننا أيضا لا نعرف ما الذي سنحتاجه لإنارة طريقنا إلى هناك.

Karl Deisseroth
<دايسيروت> هو عضو هيئة التدريس في كلية الهندسة البيولوجية وكلية الطب النفسي بجامعة ستانفورد، حاز جائزة ناكازوني العالمية لما حققه من إنجازات في مجال تطوير بروتينات الأوپسين الجرثومية والوراثيات الضوئية.



  مراجع للاستزادة

Millisecond-Timescale, Genetically Targeted Optical Control of Neural Activity. Edward S. Boyden et al. in Nature Neuroscience, Vol. 8, pages 1263-1268; September 2005

Optical Deconstruction of Parkinsonian Neural Circuity. Viviana Gradinaru et al. in Science Vol. 324. Pages 354-359; April 17,2009

Temporally Precise in Vivo Control of Intracellular Signaling, Raag D. Airan et al. in Nature. Vol. 458, pages 1025-1029; April 23,2009

Optogenetic Interrogation of Neural Circuits: Technology for Probing Mammalian Brain Structures. Feng Zhang et al. in Nature Protocols, Vol. 5, No. 3, pages 439-456; February 18, 2010


(*) CONTROLLING THE BRAIN WITH LIGHT أو : نَظْمُ الدماغ بالضوء.
(**) CASTING LIGHT ON LIFE
(***) Making Neurons React to Light
(****) The Humble Origins of Light-Sensitive Proteins
(*****) IMPROVING ON NATURE
(******) An Expanding Tool Kit of Useful Genes
(*******) Does Optogenetics Challenge Ethics?
(********) REVERSE-ENGINEERING THE MIND
(*********) BOUNTY OF THE UNEXPECTED

(1) optogenetics
(1) functional magnetic resonance imaging








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق