ألم أسفل الظّهر(*)
لقد بلغ هذا الألم مستويات وبائية. وعلى
الرغم من أنّ أسبابه لاتزال غير مفهومة تماما،
فقد تحسَّنت خيارات المعالجة مع
كون القدرة الشفائية
للجسم ذاته هي المعالجة الأكثر نجوعا.
<A.R. دييو>
يقتصر بيان استحقاقات الحياة عادة على الموت
والضرائب، ولكن القائمة الأكثر واقعية يجب تضمينها ألم أسفل الظهر. فنسبة
البالغين الذين سيعانون في نهاية الأمر ألمَ الظهر قد تصل إلى 80 في المئة،
وهذا سبب رئيسي لزيارة عيادات الأطباء ودخول المستشفيات للمعالجة والجراحة،
إضافة إلى العجز عن العمل. وقد تصل الكلفة السنوية المشتركة للرعاية الطبية
المتعلّقة بألم الظهر وتعويضات عجز العمل إلى 50 بليون دولار في الولايات
المتحدة الأمريكية. ومن الواضح أن ألم الظهر هو أبرز الحالات الطبية غير
المميتة في المجتمع؛ ومع ذلك فإن الانتشار الواسع لألم الظهر ربما لا يوازيه في
الدرجة إلا الغموض المتلكّئ الذي يصحبه.
لنفكِّر في المفارقة الظاهرية التالية: فالاقتصاد
الأمريكي يتصف بسمات ما بعد الثورة الصناعية؛ إذ يقلّ العمل اليدوي الشاق
وتزداد الأتْمَتَة والمَكْنَنَة الإنسالية robotic،
إضافة إلى ما قام به الطب من تحسين ثابت ومتواصل للتصوير التشخيصي للعمود
الفقري وما طوَّره من أشكال جديدة من المعالجة الجراحية وغير الجراحية. ولكن
عجز العمل الناجم عن ألم الظهر ظل في ازدياد مستمر. ولهذا، فإن اعتبار الطبيب
خبيرا حاذقا في ألم الظهر هو إطراء زائف؛ لأن الطب في أفضل الأحوال يمتلك
فَهْما محدودا لهذه الحالة. وفي الواقع، إن اعتماد الطب على أفكار قديمة ربما
يكون أسهم حقا في استمرار هذه المشكلة. فالمفاهيم القديمة لم تكن تَدْعَمُها
إلا أدلة ضعيفة مثل الاستدلالات الفيزيولوجية وتقارير الحالات المرضية من دون
الاعتماد على البيانات (المعطيات) السريرية الناتجة من تجارب خضعت لرقابة
صارمة.
أما الأخبار السارة هنا فهي أن معظم مرضى ألم الظهر
سوف يتعافون منه بشكل جوهري وسريع حتى ولو كان ألَمُهُم شديدا. ويصح هذا التكهن
بغض النظر عن أسلوب العلاج أو حتى من دون معالجة. ولسوف يفوت العملَ نسبةٌ
قليلة من مرضى ألم الظهر، فمعظم المرضى الذين يتركون العمل يعودون إليه خلال
ستة أسابيع؛ ونسبة صغيرة فقط هي التي لا تعود إلى وظائفها أبدا. ففي زمن ما
يكون ما نسبته واحد في المئة من القوة العاملة عاجزا بشكل مزمن بسبب مُعْضلات
الظهر. وهكذا وبشكل إجمالي تُعتبر الآفاق المتاحة أمام مرضى آلام الظهر الحادة
جيدة إلى حد ما. أما الأخبار السيئة فتتمثّل في أن معاودة الألم أمرٌ شائع،
وسوف يعاني ذلك أغلب المرضى. ولحسن الحظ، فإن تلك المعاودات تميل إلى الانتهاء
على غرار ما حدث في الإصابات الأولى، ويتعافى معظم المرضى مجدَّدا بشكل سريع
وتلقائي.
مصدر الألم
إن ألم أسفل الظهر عَرَضٌ
symptom يمكن أن يَدُلّ على حالات مختلفة تؤثر في بنى
structures بأسفل الظهر. ويعود جزء من غموض ألم
الظهر إلى التحدّي التشخيصي لتحديد سببه في منظومة ميكانيكية وبيوكيميائية
تتألف من أجزاء عديدة يكون جميعُها معرَّضا للأذى. إن إصابات العضلات والأربطة
قد تسهم في ذلك مثلما يمكن أن يفعل أيضا التهاب المفاصل الوجيهية
facet joints أو
الأقراص disks. أما القُرْص المنفتق
herniated disk (أو
المنزلق slipped) الذي تبرز فيه مادة
التَّوْسيد(1) الداخلية الطرية عبر حافة القرص الخارجية وتهيج (تُخَرِّش)
irritate الجذر العصبي المجاور، فإنه يمكن أن
يكون هو مصدر الألم؛ أو قد يكمن السبب في التضيُّق النخاعي
spinal stenosis
الذي هو صِغَرٌ قطر القناة النخاعية يمكن أن يسبب ضغطا على العصب، وهو ما يعرف
بالعصب المقروص pinched
nerve. وعادة ما يُصاحب هذا التضيُّق تقدم العمر وتآكل الأقراص والمفاصل
الوجيهية والأربطة في القناة النخاعية.
ويمكن لألم الظهر أيضا أن يكون نتيجة شذوذات ولادية
congenital abnormalities
في العمود الفقري. وغالبا ما تكون هذه البنى الشاذة لاعَرَضية
asymptomatic، ولكنها قد تُسبِّب مشكلات إذا كانت
شديدة بشكل كاف. هذا وقد ينتج ألم الظهر أيضا من أمراض الأعضاء الأخرى في الجسم
مثل الكليتين والبنكرياس والأبهر أو الأعضاء الجنسية (التناسلية). وأخيرا، يمكن
أن يكون ألم الظهر عَرَضا لأمراض خطيرة مثل السرطان والعداوي (الأخماج)
العظميّة أو أشكال نادرة من التهاب المفاصل. ولحسن الحظ، فإن مثل هذه الأسباب
تكون نادرة للغاية. ونشير إلى أن نحو 98 في المئة من مرضى ألم الظهر يعانون
تأذيا، وقتيا في العادة، في العضلات أو الأربطة أو العظام أو الأقراص.
وإضافة إلى التعقيد الفيزيائي لأسفل الظهر، هناك
حقيقة أخرى محيِّرة تعيق تشخيص سبب الألم: إذ لا يوجد إلا ترابطٌ ضعيف بين
الأعراض ونتائج التصوير والتغيُّرات التشريحية أو الوظيفية. وفي هذه الأحوال،
يعتمد معظم أسس التشخيص على استبعاد الأسباب المتطرّّفة للألم (مثل السرطان
والعداوي) التي يمكن تحديدها بدقة، وعلى تحديد ما إذا كان لدى المريض عَصَبٌ
مقروص أو مهاج. ولهذا، فإن 85 في المئة من مرضى ألم أسفل الظهر يُتْركون من دون
تشخيص حاسم للسبب الحقيقي لألمهم. هذا ولا يستطيع معظم المرضى أن يتذكّروا
حادثا بعينه سبَّب معاناتهم، مع العلم بأن الأحْمالَ الثقيلة والأذيّات (وإن
كانت عوامل مخاطرة في حدّ ذاتها) لا تفسِّر معظم نوبات الألم. وغالبا ما يُكتفى
باعتبار ألم الظهر واقعا يحدث، وبالتالي فإن المجتمع الطبي الذي يعكس هذا
الغموض لم يصل في حال من الأحوال إلى إجماع حول أسباب تلك الحالات البالغة
التنوع.
وربما يتعلق بعض ألم الظهر الشائع بالكَرْب
stress. وهناك دراسة، نشرتْها في الشهر 5/1998<A.لامپ>
وزملاؤها (من جامعة إنسبروك) أظهرت وجود علاقة بين وقائع الحياة الحافلة بالكرب
وحدوث ألم الظهر. وفي دراسة سابقة كانت لامپ قد وجدت أن المرضى الذين ليس لديهم
أي سبب فيزيائي محدَّد لألم أسفل الظهر كانوا ينظرون إلى الحياة على أنها أشد
كربا مما تبيَّن لدى مجموعة شاهدةٍ (ضابطة) control
من مرضى ألم الظهر الذين أُصيبوا بأذية فيزيائية محددة. وقد استنتج <E.J.سارنو>
[من معهد راسك لطب إعادة التأهيل في المركز الطبي لجامعة نيويورك] أن الحالات
المشحونة بالانفعالات التي لم تنفرج، إنما تسبِّب توترا فيزيائيا يثير بدوره
ألما. وهو يؤكد في الواقع أن هذه التشكيلة من ألم الظهر تفيد حقيقة في صَرْفِ
انتباه المرضى عن الكرب الكامن في مواجهة صراعاتهم النفسية. وقد نجح سارنو في
معالجة بعض المرضى بوساطة الإرشاد النفسي psychological
counselling.
الأسباب الرئيسية لزيارة
البالغين عيادات الأطباء
المرتبة
ارتفاع ضغط الدم
(فرط التوتر الشرياني)
رعاية الحوامل
فحوص مراجعة عامة
عداوي الجهاز
التنفسي العلوي (حالات الرشح)
ألم أسفل الظهر
الاكتئاب والقلق
الداء السكري
المصدر: المسح
الوطني للعناية الطبية المتنقلة (للمرضى غير ملازمي الفراش)
1980-1990
|
ومن المحتمل جدا أن يسبِّب الوجَع العضلي البسيط
الناتج من جهد فيزيائي بعضَ آلام الظهر، على غرار ما يفعله البِلى
wear and
tear في الأقراص والأربطة والذي تنتج منه رضوح
مكروية (دقيقة) microtraumas في تلك البنى ولا
سيما مع تقدم العمر. ولكن تحديد سبب الألم لدى فردٍ معين غالبا ما يبقى فنّا
أكثر منه عِلْما. فإذا ما استبعدنا من التشخيص احتمال وجود مرض خطير، واعتبرنا
أن التعافي التلقائي هو القاعدة، فإن تحديد السبب الحقيقي للألم قد لا يكون
ضروريا في معظم الحالات.
التحدِّيات التشخيصية
إن عدم كفاية تشخيص سبب ألم الظهر بشكل محدَّد جعل
زميلي <C.D.تشيركن> [من المجموعة التعاونية
الصحية في پيوجيت ساوند] وكذلك مجموعتي البحثية [في جامعة واشنطن] يُجْرون
مَسْحا وطنيا على أطباء من مختلف الاختصاصات. فقد عَرَضْنا عليهم وصفا معياريا
لحالات مرضية وسألناهم عن كيفية التعامل مع مثل هؤلاء المرضى الافتراضيين. وهنا
جاءت التوصيات متباينة إلى درجة كبيرة، الأمر الذي يعكس عدم اليقين في تدبر هذه
الحالات ومعالجتها. ويمكن تلخيص النتائج في العنوان الفرعي الذي ورد في نشرتنا
لنتائج المسح: «إن من تراه يحدد ما تحصل عليه»(2). فعلى سبيل المثال، كان عدد اختصاصيي الرّثَويات (الروماتيزم) الذين طلبوا تحاليل مختبرية بحثا عن حالات
التهاب المفاصل ضعف عدد أطباء الاختصاصات الأخرى الذين طلبوا ذلك. أما جرّاحو
الأعصاب الذين طلبوا استقصاءات شعاعية لاكتشاف الأقراص المنفتقة فقد بلغ عددهم
الضعف أيضا، في حين مال أطباء الأعصاب للبحث عن نتائج التخطيط العضلي الكهربائي
electromyograms (التي قد تدلّ على إصابة
الأعصاب) بقدرٍ عَادَل ثلاثة أضعاف عدد غيرهم؛ فليس المرضى وحدهم هم الذين
ينتابهم التشويش.
وحتى وقت قريب كان الأطباء يعتمدون على صور الأشعة
السينية للعمود الفقري، وغالبا ما يطلبون ذلك لكلّ مريض يشكو من ألمٍ أسفل
الظهر. وقد كشفت عدة دراسات عن مشكلات متعددة لهذه المقاربة؛ أولا: أظهرت أبحاث
في السويد دامت عشر سنوات أن الصور الشعاعية السينية بالنسبة إلى البالغين تحت
سن الخمسين على الأقل لم تُضف إلا فائدة قليلة جدا للفحوص السريرية (في
العيادة)، ولم تشاهد نتائج غير متوقعة إلا لدى مريض واحد من بين كل 2500 مريض
تم تصويرهم بالأشعة السينية.
نسبة معدلات جراحة الظهر في
أماكن مختارة (1988-1989)
وثانيا: أظهرت الأبحاث الوبائية أن الكثير من حالات
العمود الفقري التي غالبا ما كانت تُوجَّه لها ملامة التسبُّب بالألم لم تكن في
الواقع ذات علاقة بالأعراض. وقد تمّ إجراء تصوير شعاعي لكثير من الناس الذين لا
يشكون ألما، وذلك خلال إجراءات الفحص الطبي لأغراض التوظيف والتجنيد العسكري في
بعض البلدان، فأظهرت عدة دراسات أن كثيرا من شذوذات العمود الفقري كانت تشيع
بين أشخاص لا يبدون أي أعراض بالقدر نفسه الذي كانت تشيع فيه بين مُعاني الألم.
ولذلك، فقد يكون التصوير بالأشعة السينية مضلِّلا تماما.
وثالثا: إن الصور الشعاعية السينية لأسفل الظهر، لا
محالة، تشمل تعريض الأعضاء الجنسية (التناسلية) لجرعات كبيرة من الإشعاع
المؤيِّن تفوق 1000 ضعفٍ الإشعاع الذي يرافق الصورة الشعاعية للصدر. وأخيرا،
يفسر حتى أكثر أطباء الأشعة خبرة الصور الشعاعية نفسها بشكل مختلف، الأمر الذي
ينتج منه عدم اليقين، بل والتوصية بمعالجة غير مناسبة. وهكذا فإن أحدث
التعليمات السريرية لتقييم ألم الظهر توصي بأن تقتصر الصور الشعاعية السينية
على مرضى معينين كالذين يتعرضون لإصابات بالغة في حادث سقوط أو حادث سيارة على
سبيل المثال.
لقد كان الخبراء الطبّيون يأملون أن يتيح استخدام
أدوات التصوير التشخيصية المتطورة (من أمثال التصوير الطبقي المحوري
المُحَوْسَب computed
tomographic scanning
CT والتصوير بالرنين المغنطيسي
magnetic resonance
imaging MRI إجراء
تشخيصات أكثر دقة لمعظم مرضى ألم الظهر، ولكن ذلك الأمل كان وَهْما. ويكمن أحد
الأسباب المهمة (كما في دراسات الصور الشعاعية السينية) في اكتشاف شذوذات مثيرة
لدى أناس لا يعانون أي ألم.
وهناك دراسة أجراها في عام 1990 <D.S.بودين>
وزملاؤه [من المركز الطبي في جامعة جورج واشنطن]، تفحّصوا فيها حالة 67 فردا
ذكروا أنهم لم يعانوا قط أي ألم في الظهر أو عرقَ النَّسا
sciatica، الذي هو ألم في الساق بسبب إصابة في
أسفل الظهر. فالأقراص المنفتقة غالبا ما يأتي ذكرها سببا لألم المريض، ولكن
الصور بالرنين المغنطيسي (MRI) أظهرت هذه الأقراص
لدى خُمْس عدد أفراد الدراسة الذين لا يشكون ألما والذين لم يبلغوا بعد سن
الستين. وقد ظهر لدى نصف أفراد تلك المجموعة قرص ناتئ (بارز)
bulging disk، وهذه
حالة أقل شدة ولكنها كثيرا ما اعتبرت مسؤولة عن الألم أيضا. أما البالغون ممّن
هم فوق سن الستين، فقد وُجد لدى ما يزيد على ثلثهم قرص منفتق وضُح في صور
الرنين المغنطيسي، كما وُجد لدى 80 في المئة منهم قرص ناتئ. ونشير هنا إلى أن
جميعهم تقريبا أظهروا بعض التنكس القرصي disk
degeneration المرتبط بالسن. أما التضيُّق
النخاعي الذي يندر لدى البالغين الأصغر سنا فقد وُجد في نحو خُمْس أفراد
المجموعة العمرية فوق سنّ الستين التي لا يعاني أفرادها آلاما. وهناك دراسة
مشابهة عن 98 شخصا لا يعانون آلاما نشرها في عام 1994 <N.M.برانت-زاوادسكي>
وزملاؤه [من مستشفى هوگ التذكاري في كاليفورنيا]. وقد أظهرت هذه الدراسة أن
ثلثي الأشخاص كان لديهم أقراص شاذة. ولذلك، فإن اكتشاف قرص منفتق على صورة
استقصائية إنما يثبت شيئا واحدا مؤكدا: إن المريض لديه قرص منفتق.
خرافة حول ألم أسفل الظهر
الخرافة 6: كل شخص يعاني ألم الظهر يجب أن تجرى له صورة شعاعية للعمود الفقري.




إن هذه النتائج توحي بوجود الكثير من الأمور التي
تشوِّش تفسير الصور وبأن الشذوذات في العمود الفقري (بالنسبة إلى البعض على
الأقل) تكون تصادفية مَحْضة ولا تسبب ألما. وفوق ذلك، تخفق ـ حتى أفضل الصور
الاستقصائية ـ في تحديد التشنج العضلي البسيط أو الرباط المتأذي الذي يحتمل أن
يكون مسؤولا عن الألم لدى نسبة كبيرة من مرضى ألم الظهر. وقد دفع كل هذا
الالتباس التصويري أحد جرَّاحي العظام إلى القول: «إن التشخيص الذي يعتمد على
التصوير بالرنين المغنطيسي، في غياب معلومات سريرية موضوعية، قد لا يحدِّد سبب
ألم المريض. وقد تكون محاولة تصحيح ذلك جراحيا الخطوة الأولى نحو الكارثة».
وبكلمات أخرى، فإن الفحص السريري (في العيادة) له أهمية التصوير الاستقصائي
نفسها على الأقل، كما أن إجراء الجراحة لمرضى ألم الظهر اعتمادا فقط على ظهور
شذوذ في نتائج الصورة الاستقصائية قد يكون غير ضروري إن لم يكن ضارا بكل معنى
الكلمة. ولا ينصح الكثير من الأطباء الآن بإجراء التصوير الطبقي المحوري
المُحَوْسَب (CT) والتصوير الرنيني المغنطيسي (MRI)
إلا لأولئك المرضى المرشحين أصلا للجراحة لأسباب أخرى.
ومما يزيد المسألة تعقيدا حقيقة أن معظم مرضى ألم
أسفل الظهر الحاد تتحسن أحوالهم ببساطة وبسرعة. وهناك دراسة قارنت بين نتائج
المعالجات فلم تجد أي فروق في زمن الشفاء الوظيفي بين مرضى قاموا بمراجعة
المجبِّرين(3) وآخرين قاموا بمراجعة أطباء العائلة أو جراحي العظام. ولكن
التكلفة اختلفت بشكل كبير، حيث بلغت أقلها عند مراجعة أطباء العائلة وأكثرها
عند مراجعة الجراحين. وقد تكون نصيحة أبقراط: «أوَّلا، لا تؤذِ» أهم مشورة فيما
يتعلق بهذه الحالة؛ إذ يصعب قهر السيرة الطبيعية المحبَّذة لألم أسفل الظهر
الحاد.
وفي وقت سابق كانت الراحة المطوّلة في السرير
تُعْتبر المعالجة المعتمدة لألم الظهر. وكانت هذه الطريقة تستند إلى الفكرة
المنطقية بأن بعض المرضى سينعمون براحة عابرة على الأقل لدى الاستلقاء في
الفراش، كما استندت إلى الملاحظة الفيزيولوجية بأن الضغوط على الأقراص بين
الفقرات تكون في حدودها الدنيا عند استلقاء المرضى. ولكن القرص الذي يبدو
مُتّهما قد يكون بريئا، ويتحسَّن معظم المرضى بشكل طبيعي. ومع ذلك، كانت
التوصية بقضاء أسبوع أو أسبوعين من الراحة المطلقة في السرير هي القاعدة حتى
قبل نحو عشر سنوات. ولكن التخلي عن استحسان الراحة في السرير حدث بسرعة مثيرة
على غرار الانقلاب الذي أصاب مكانة فَصْد الدم blood
letting الذي كان يعتبر الطريقة المفضّلة سابقا
في العناية الأوّلية. والآن، تعتبر الراحة المطوّلة في السرير أمرا مكروها، وقد
يكون استئناف الأنشطة المعتادة (بقدر الإمكان) الخيار الأفضل لمرضى ألم الظهر
الحاد.
التريث اليقظ كمعالجة
عندما كانت الراحة في السرير هي القاعدة، قامت
مجموعتي البحثية باختبارها عن طريق مقارنة سبعة أيام من الراحة في السرير
بيومين فقط. فكانت النتائج مذهلة، إذ لم تظهر بعد ثلاثة أسابيع وثلاثة أشهر أية
فروق في انفراج الألم أو في عدد أيام الفعالية المحدودة أو في الأداء الوظيفي
اليومي أو في الرضا عن العناية. وكان الفرق الوحيد وبشكل واضح أن المرضى الذين
حصلوا على الراحة في السرير وقتا أطول تغيبوا عن العمل فترة أطول. إن شدّة ألم
المريض وديمومة الألم والشذوذات المكتشفة في الفحص السريري لم تُنبئ بطول المدة
التي ينبغي أن يتغيبها المريض عن عمله. وفي الحقيقة، أظهر تحليل المعلومات أن
العامل الوحيد الذي تكهّن بمدّة تغيب المريض عن العمل كان ما أوصينا به من مدة
لبقائه في السرير.
هناك دراسات أخرى أكّدت هذه الاكتشافات ووسّعتها.
فقد تبين لنا أن أربعة أيام من الراحة في السرير ليست أكثر نجاعة من يومين أو
حتى من عدم الراحة في السرير مطلقا. وقد ثبت أن الخوف من أن النشاط سوف يفاقم
الحالة ويؤخر الشفاء أمر لا أساس له من الصحة. وفي الحقيقة، إن مرضى ألم الظهر
الذين يواصلون قدر الإمكان أنشطتهم المنوالية (الروتينية) هم أفضل حالا وأكثر
تحسنا من أولئك الذين يجرِّبون الراحة في السرير أو يجرِّبون القيام بتمارين
رياضية فورية. وقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يبقون نشيطين على الرغم من
الألم الحاد تكون معاناتهم من ألم مزمن في المستقبل أقل تكرارا، (ويُعرف الألم
المزمن بأنه الألم الذي يدوم ثلاثة أشهر أو أكثر)، ويحتاجون إلى عناية صحية أقل
مما يحتاج إليه المرضى الذين يستريحون في الفراش بانتظار أن يخفّ الألم. (ولكن
حقيقة كون الراحة في السرير غير فعّالة، لا تعني أن كل شخص يستطيع العودة من
فوره إلى عمله المعتاد. فبعض الأشخاص من ذوي الأعمال التي تتطلب جهدا بدنيا قد
لا يتمكنون من العودة إلى أعمالهم المعتادة بالسرعة التي يتمكّن بها الأشخاص
ذوو الوظائف المكتبية. وعلى الرغم من ذلك، فغالبا ما يكون من المفيد جَعْل مرضى
ألم الظهر يعودون إلى شكل من العمل الخفيف إلى أن يستردّوا عافيتهم بشكل تام).
وكذلك، تحدّت الأبحاث الحديثة نجاعة أنواع أخرى من
المعالجة السلبية(4) passive
treatment. فعلى سبيل المثال، أظهرت عدَّة دراسات
أن مجرّد شدّ traction أسفل الظهر أمر لا يفيد.
وهناك دليل متزايد على أن التنبيه الكهربائي العصبي عبر الجلد
transcutaneous electrical
nerve stimulation
TENS الذي يوصل تيّارا خفيفا إلى منطقة الألم ليس
له سوى فائدة قليلة على المدى البعيد. وعلى نحو مشابه، يبدو أن حقن المفاصل
الوُجَيْهِيّة بالكورتيزون لا يتعدى تأثيره تأثير الحقن بمحلول ملحي.
وعلى عكس ذلك، هناك دليل متزايد على فائدة التمارين
الرياضية كجزء مهم من الوقاية من مشكلات الظهر ومعالجتها لدى الذين يعانون ألم
ظهر مزمنا أو حادا. وليس هناك من تمرين رياضي واحد محدد يعتبر الأفضل، بل تدمج
البرامج الفعالة بين تمارين اللياقة العامة في الهواء الطلق وتمارين أخرى
لتحسين قوة عضلات الظهر وتحمّلها.
لقد أوضح استعراض وافٍ عن الدراسات السريرية بشأن
التمارين الرياضية وألم الظهر أن برامج التمارين المنظمة منعت معاودة الألم
وقلّلت من التغيب عن العمل لدى مرضى الألم الحاد الذين اشتركوا بهذه البرامج
بشكل منتظم بمجرد هدوء نوبة ألم الظهر. وكان الأثر الوقائي للتمارين الرياضية
أقوى من أثر التعليم (تعليم المرء كيف يرفع الأحمال مثلا) أو أثر أحزمة
(مِشَدّات) البطن التي تقيد حركة العمود الفقري. واستفاد من هذه التمارين أيضا
المرضى الذين عانوا ألما مزمنا. ومقارنة بالذين عانوا ألم الظهر الحاد وتحسّنوا
خلال نوبة الألم عبر استئناف أنشطتهم المعتادة أكثر من تحسُّنهم عبر ممارسة
التمارين الرياضية، فإن مرضى ألم الظهر المزمن تحسّنت حالتهم بشكل كبير عن طريق
أداء هذه التمارين حتى خلال فترة ألَمِهم.
إن عدم قدرة الممارسة الطبيّة التقليدية على«إشفاء»
نسبة كبيرة من مرضى ألم الظهر قد جعل هذه الحالة، من دون شك، سببا رئيسيا وراء
سَعي المرضى للبحث عن أشكال أخرى من المعالجة البديلة، بما في ذلك عناية
التقويم اليدوي (التجبير) chiropractic
care والوخز بالإبر
acupuncture. وتُعَدّ المعالجة بالتقويم اليدوي الاختيار الأكثر شيوعا.
وهناك دليل على أن منابلة manipulation العمود
الفقري يمكن أن تكون بحقّ علاجا فعّالا قصير الأمد للألم لدى مرضى يعانون
مشكلات حديثة بالظهر. أما مسألة ما إذا كانت معالجات التقويم اليدوية أو
المعالجات البديلة الأخرى تستطيع أن تمنح راحة من الألم طويلة الأمد فإنها تبقى
غير واضحة. ومن المحتمل جدا أن يُفْضي التعافي الطبيعي من ألم الظهر إلى الثقة
بأي معالجة يتمّ استخدامها، كما يفسِّر ذلك العدد الكبير من خيارات المداواة
التي يروِّج لها دعاة متحمِّسون.
وفي الطرف الآخر من الطيف الاستراتيجي للعلاج تقع
الجراحة. ويتّفق معظم الاختصاصيين على أن جراحة القرص لا تكون مواتية إلا في
حال اجتماع فتق قرصي (محدَّد في اختبار التصوير الشعاعي) ومتلازمةٍ مرضية
مقابلة وعلامات على تَهيُّج جذر العصب، إضافة إلى عدم الاستجابة لمعالجة
لاجراحية مُدَّتها ستة أسابيع. وتستطيع الجراحة أن تؤمِّن للمرضى الذين تتوافر
لديهم هذه المواصفات راحة من الألم أكثر سرعة. ولكن لسوء الحظ، فإن المرضى
الذين لا تنطبق عليهم جميع هذه المواصفات قد تطالهم أيضا سكين الجرّاح، وهناك
كتابات مطوّلة عن جراحات فاشلة لأسفل الظهر. وفي الحقيقة، إذا لم يكن الألم
ناجما فِعْلا عن انفتاق قرصي، فإن الإصلاح الجراحي لقرصٍ ما لا يُتوقع له أن
يُنهي ذلك الألم.
المداخلات الجراحية
إن إلقاء اللوم على القرص المنفتق يستحق مزيدا من
التفكير. فالأقراص المنفتقة أكثر شيوعا لدى البالغين ممّن هم بين سنّ 30 و 50
عاما. ومعظم المرضى الذين يعانون ألما ناتجا حقا من انفتاق قرصي يشكون من ألم
في الساق مع تنمُّل numbness وشعور بوخز خفيف
باعتبارهما العَرَض الرئيسي؛ وغالبا ما يكون ألم الظهر لديهم أقلّ حدّة. وينبغي
أن تكون الصورة الإيجابية بالرنين المغنطيسي مجرّد داعم للفحص السريري الذي
يستقصي مجموعة من التأثيرات مثل تهيُّج جذر العصب وشذوذ المنعكسات ونقص الحسّ
ونقص قوة العضلات وحراك الساق لتأكيد تورّط القرص في الألم.
وتُظهر الدراسات الحديثة أن الشفاء التلقائي هو
القاعدة حتى بالنسبة إلى مرضى القرص المنفتق. وقد كشفت الدراسات التي استخدمت
التصوير الرنيني المغنطيسي المتكرّر أن الجزء المنفتق من القرص غالبا ما ينكمش
بشكل طبيعي مع مرور الوقت، وأن نحو 90 في المئة من المرضى سوف يلمسون تحسُّنا
تدريجيا خلال فترة ستة أسابيع. وهكذا، يبدو أن نحو 10 في المئة فقط من مرضى
انفتاق القرص ذي الأعراض سوف يحتاجون إلى الجراحة. ولمّا كان معظم ألم الظهر
غير ناتج من أقراص منفتقة، فإن نسبة العدد الفعلي لجميع مرضى ألم الظهر
المرشّحين للجراحة لا تتعدّى 2% تقريبا من مرضى ذلك الألم عموما.
ومع ذلك تبقى الأقراص المنفتقة هي السبب الأكثر
شيوعا لجراحة الظهر. وحول دراسة نُشِرت في عام 1983 ـ قام فيها <H.ويبر>
[من مستشفى أوليڤال في أوسلو] بمتابعة طويلة الأمد على 280 مريضا ـ أثيرت أسئلة
جادّة حول الحماسة للتدخل الجراحي. ومع أن المرضى الذين أجريت لهم جراحة حصلوا
على راحة من الألم بشكل أسرع من أولئك الذين تلقّوا علاجا محافظا (غير جراحي)
فإن تلك الفروق تلاشت مع مرور الزمن. ففي مُتابَعَتَيْن مُدَّتهما أربع سنوات
وعشر سنوات لم يكن من الممكن فعلا التمييز بين مجموعتي المرضى. وهكذا يمكن أن
يكون لدى الناس العقلاء أفضليات تجاه المداخلات الطبية المختلفة، وهناك اعتراف
متزايد بأن تلك الأفضليات ينبغي أن يكون لها اعتبار مهم في اتخاذ قرارات
المعالجة.
يُعَدُّ التضيُّق النخاعي السبب الأكثر شيوعا لجراحة
الظهر بالنسبة إلى أولئك الذين تزيد أعمارهم على الخامسة والستين. وتظهر بيانات
المستشفيات القومية أن تصحيح التضيُّق هو الشكل الأسرع ازديادا في جراحة الظهر.
وقد زادت جراحة الأقراص المنفتقة بنسبة 39 في المئة بين عامي 1979 و 1990، في
حين زادت جراحات التضيق بنسبة 343 في المئة. ولم تتضح أسباب هذا الارتفاع، ولكن
ذلك ربما يعكس ببساطةٍ قدرة الصور الطبقية المحورية المحوسبة (CT)
والرنينية المغنطيسية (MRI) الجديدة على كشف
التضيق. ولسوء الحظ، فإن استطبابات الجراحة في هذه الحالة أقل وضوحا وتحديدا
مما هي عليه في حالة الأقراص المنفتقة. ونتيجة لذلك، توجد فروق هائلة (حتى داخل
الولايات المتحدة) في معدلات جراحة التضيُّق النخاعي. فعلى سبيل المثال، وجدت
مجموعتي لدى تحليلها طلبات الرعاية الطبية نحو 30 جراحة تضيق في رود أيلند لكل
100000 شخص تزيد أعمارهم على الخامسة والستين مقابل 132 في يوتا.
إن جراحة هذه الحالة هي أكثر تعقيدا من جراحة القرص
البسيطة. فالتضيّق النخاعي يميل إلى الحدوث في عدة مستويات ضمن العمود الفقري
أكثر منه في مستوى واحد، الأمر الذي يصدق في العادة بالنسبة إلى الأقراص
المنفتقة. إضافة إلى ذلك، فإن أولئك المرضى يكونون أكبر سنا وبالتالي فَهُم
أكثر عرضة لمضاعفات الجراحة. كما أننا نعرف القليل عن الجدوى الطويلة الأجل
للأسلوبين الجراحي واللاجراحي فيما يخص معالجة التضيُّق النخاعي مقارنة بما
نعرفه بالنسبة إلى التعامل مع الأقراص المنفتقة. وبما أن أعراض التضيُّق
النخاعي غالبا ما تبقى مستقرة سنوات عديدة، فإن اتخاذ القرارات بشأنه قلما يكون
ملحا، وينبغي أن تقوم اختيارات المريض مجدَّدا بدور مهم في ذلك.
إن حالةً تدفع بملايين الأمريكيين سنويا إلى الجثوِّ
على ركبهم وتستنزف 50 بليون دولار أمريكي من الاقتصاد، من الخطأ أن نصنفها على
أنها أمر تافه. ولكن اللامبالاة الجماعية تجاه هذه الحالة قد تكون هي الأمر
الأنسب وإن بدت موقفا اجتماعيا غير مُرْضٍ. فلسوف يعاني كل شخص تقريبا ألم
الظهر، ولربما يكون علينا أن نقبل ذلك ببساطة كجزء من الحياة العادية. ومع
انتفاء الحالات الخطيرة، يغدو أفضل ما يمكن تقديمه من خدمة لمن يعاني ألم الظهر
هو محاولة التعامل والتعايش بشكل جيد قدر الإمكان مع حالة سوف تتحسّن حتما
تقريبا في غضون أيام أو أسابيع قليلة. وهذا التباين الواسع في توصيات الجراحة
يجب أن يجعل جميع خبراء ألم الظهر في حالة احتراس، كما يجب إيلاء رغبات المرضى
وزنا كبيرا في اختيار المعالجة.
تدفع الطبيعة الغامضة والكلفة الاقتصادية لألم الظهر
إلى تنامي الاهتمام بالبحوث. وقد تكشف السنوات المقبلة المظاهر الأساسية لهذه
المشكلة بمزيد من التفصيل. أما في الوقت الحالي، فإن النصيحة النمطية التي
يُسديها الطبيب لمعظم مرضى ألم الظهر تتمثل في «تناول حبتين من الأسپرين
والاتصال بالطبيب في الصباح» ـ وقد تكون الطريقة المثلى تناول مسكنات ألم عند
اللزوم والبقاء في حالة صحية عامة جيدة والاستمرار في حالة نشاط خلال نوبة
الألم الحادة ما أمكن ومراقبة تغير الحالة خلال عدة أيام أو أسبوع واحد. صحيح
إن قدرة ألم الظهر على التسبب في بؤس المريض عظيمة، ولكنها تكون في العادة
عابرة. وفي معظم الحالات، يكون الزمن والمواظبة (المتابعة) كفيليْن بإيصال
المريض إلى الشفاء.
المؤلف
Richard A. Deyo
A NEW CLINICAL MODEL FOR THE TREATMENT OF LOW-BACK
PAIN. Gordon Waddell in Spine, Vol. 12, No. 7, pages 632-644; 1987.
COST, CONTROVERSY, CRISIS: LOW BACK PAIN AND THE
HEALTH OF THE PUBLIC. Richard A. Deyo, Daniel Cherkin, Douglas Conrad and
Ernest Volinn in Annual Review of Public Health, Vol. 12, pages 141-156;
1991.
PHYSICIAN VARIATION IN DIAGNOSTIC TESTING FOR LOW
BACK PAIN. Daniel C. Cherkin, Richard A. Deyo, Kimberly Wheeler and Marcia
A. Ciol in Arthritis & Rheumatism, Vol. 37, No. 1, pages 15-22; January
1994.
MAGNETIC RESONANCE IMAGING OF THE LUMBAR SPINE IN
PEOPLE WITHOUT BACK PAIN. Maureen C. Jensen, Michael N. Brant-Zawadzki,
Nancy Obuchowski, Michael T. Modic, Dennis Malkasian and Jeffrey S. Ross in
New England Journal of Medicine, Vol. 331, No. 2, pages 69-73; July 14,
1994.
THE MINDBODY PRESCRIPTION: HEALING THE BODY, HEALING
THE PAIN. John E. Sarno. Warner Books, 1998.
Scientific American, August 1998
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق